خبر فرح السوريين.. عدلً وأمن من جوع وخوف ..علي عقلة عرسان

الساعة 01:08 م|06 يونيو 2014

 

بين الرابع والخامس من حزيران 2014 وعلى ساعات لا تقل عن ثلاث متواصلات قتل هياجُ الفرح ما يقرب من خمسة عشر مواطناً سورياً وجرح العشرات في عدد من المحافظات، وكان نصيب دمشق من ذلك في المقدمة.. أنا لست ضد الفرح حتى حين يكون في ضحوة الحزن، ولكنني بكل تأكيد ضد الهياج أياً كان نوعه وسببه ومصدره وغايته، فالهياج غيبوبة في الفوضى وتغييب للعقل في دوامات الانفعال، وحين يترافق الانفعال مع " حَميَّة" من نوع خاص، ومع فوضى تجاري الفوضى الأميركية " الخلاقة؟!" في بعض الأهداف والدلالات والنتائج.. حين ذاك فإننا نكون أمام مشهد بشري يحتاج إلى الدراسة بهدف إعادة التكوين وفق معيار للاجتماعي والأخلاقي والإنساني والحضاري، لا سيما في الوقت الذي يدمى فيه شعبنا ويدمر فيه وطننا منذ سنوات، ونستشعر الحاجة إلى تربية وثقافة وقيم وأخلاق وسياسة مغايرة لما عرفنا مما أسس لما كان، وهو أمر يلح عليه أولو الأمر وتصدح به حناجر كثيرين.. والمشهد الذي نشير إليه لا يمكن أن يؤخذ على علاته ويتم التغاضي عن فلتاته بذرائع منها النشوة أو التحدي، ولا يمكن أن يقبله أحد من فاعليه أو من المسؤولين عن فاعليه، فضلاً عن ضحاياه ومن يصيبهم الرعب منه، ومن يتفرجون عليه.!! سيقول لنا من يزينون القبائح ويلبسونها أبهى ثياب النصائح "هذه فرحة شعب"؟! ولطالما سمعنا من أولئك ومن أمثالهم تسويغاً لكل حدث وحديث وخطأ حتى في حالتي الكارثة والتضاد، لا سيما عندما يكون الأمر متعلقاً بزلفى.. ولطالما حصد أولئك مغانم تسويغهم لما لا يسوَّغ من قول ورأي وفعل، ولطالما دفع أبرياء وعقلاء ثمن ذلك بصورة ما وعضوا على جراحهم بعد أن أشبعت بالملح.. ولا أظن أن هناك أدنى توقّع لأن يغير أولئك من سلوكهم ولا في أن يغلق أمامهم سوقهم، فتلك لها رواج وما يروج يبقى.. وقد أثبتت عشرات الوقائع والحوادث والمناسبات أن سلَّم أولئك المتزلفين مثل حظوظهم في صعود، وأن سلامتهم وكرامتهم ومشاعرهم ومكانتهم في منعة وخلود، وأنهم مظللون بالغمام ولا يصيبهم ما يصيب الأنام، حتى أبسط اللوم لا يقترب من ساحتهم.. أما من يفلت علينا بفعل من ذلك النوع الدموي المرعب فهو في قمة البهجة والقوة والمنعة والامتناع عن كل مساءلة حتى من العتاب الرقيق، لأنه يعبر عن مشاعره الصادقة فتأخذه موجة فرح أو غضب تدخلانه دوائر الحماية.. وإذا لم يكن ذلك كذلك للواحد منهم فإنه سيمتنع عن الفرح والغضب المكلفين اللذين يكنّان خلفهما ما يكنّان من خلفيات وآراء وأفكار واصطفاف ومواقف وإعلان عن بلاغات ببلاغة دامية.؟!

دعونا أولاً نترَّحم على جميع الشهداء، ومن بينهم أولئك الذين قضوا في هياج الفرح الحزيراني، ولحزيران وللخامس منه في ذاكرتنا شؤون وشجون لا نقاربها الآن، ودعونا نتمنى لكل الجرحى الشفاء، ولكل الأُسَر الصبر، وللوطن/سورية الأمنَ والسلم والنصر، ونسأل القادرين والمعنيين والمسؤولين عنايةً بالمعوقين والمنكوبين والمشردين ورعاية لهم، فهم أبناء الوطن أياً كانت مشاربهم، ونستثني من هذا الأمر من تآمر وخان وتاجر وباع.. لنتوقف من بعد عند سؤال الحل لكل عقدة تعيق الوصول إلى حل تام شامل كامل يرضي ويطمئن ويبني، لأننا لم نعد نحتمل استمرار الاقتتال ونزف الدم وتدمير الوطن وقهر الأنفس، ولا أن نعيش في الرعب مطاردين بأنواع الإرهاب والخوف والقهر والحاجة، ولا أن نقبل جوعاً وفقراً وتهديداً بمستقبل أسود لجيل أو أكثر يولد وينمو في المحنة، ولا أن نبقى عالة بشكل ما سواء أكنا الوطن في حاجة أو الشعب في فرقة ومباءة أحقاد ومحن وفتن، وفي متاهات نزوح وتهجير وتشريد وتشرد.. تحت أية ذرائع وبأي شكل ولأي سبب، فقد وصل شأن السوريين في بلدهم وفي العالم إلى درك لا يليق بسورية وشعبها، ولا يجوز أن يستمر الأمر على هذا الحال. نعرف كل الأبعاد التي تجعل من قضيتنا قضية صعبة ومعقدة وذات امتدادات وتداخلات عربية وإسلامية وإقليمية ودولية، ولكننا نعرف بالقدر ذاته، ومن خلال قراءة أولية لخطوات تصالحية تمت، ولمبادرات تنطوي على ما هو قابل للمقاربة والمناقشة والحوار، ولإرادة شعبية مستقلة تجلت في مواقف واستحقاقات، ولرغبة سورية شاملة في التغيير تعبر عن ذاتها وضروراتها بصور شتى.. نعرف من كل ذلك أن الحل الذي نصنعه نحن السوريين بأيدينا يدوم وأن ما يُفرَض علينا من حلول لا يمكن أن يؤسس لسلم واستقرار وديمومة وازدهار، وأن الخير كل الخير في صلح ورضا وثقة متبادلة واحترام للإنسان ولحقه في الحياة وفي الاختلاف تحت سقف وطن عزيز قوي بشعبه وثوابته وقيمه وأخلاقياته وانتمائه لأمته..

في سورية، في الداخل السوري حيث الاقتتال والمآسي والإرهاب والنار والعار والرغبات المهلكات المتضادات، في وطننا المنكوب ببعض أبنائه وإخوته وأشقائه، توجد كل القوى والإرادات التي يمكن أن تصنع الحل برؤية مستقبلية مقبولة، وإرادة مستقلة مسؤولة، وتوازن روحي ـ ومادي، وعقلانية لا تعزز الإيمان وإيمان يعزز العقلانية.. هذا إذا ما توصلت تلك القوى المتصارعة بجنون إلى إدراك عميق يكوِّن قناعة تامة بأن ما جرى من تدمير شيطاني لسورية العظيمة ألحق بها وبشعبها ومكانتها من الخراب ما يكفي ويزيد، وهو من الكوارث التاريخية التي ما عليها من مزيد، ولا يحتمل السوريون ولا الأمة المزيد منها، وأن هدف أعداء سورية والمتآمرين عليها وأعداء العروبة والإسلام التاريخيين تدمير سورية ومن يقدرون أنهم أعداء لهم بأيدي بعضهم بعضاً على أرض سورية التي يريدونها ميداناً يواجهون على أرضها أعداءهم، ويدقون فيها أسافين تشقى بها الأمتان العربية والإسلامية ويتزلزل معها موقف المسلمين في كل بقعة من الأرض يعيشون فيها على أرضية الفتن المذهبية والأحقاد المتوارثة والتعصب الأعمى.. هذه رؤاهم وأهدافهم، وهذه سياساتهم واستراتيجياتهم وخططهم.. ولكن ما هي إرادتنا وخططنا واستراتيجياتنا؟ وهل بحثنا عنها وقاربنا المشترك منها فيما بيننا بعقل هادي وقلب دافئ ومسؤولية تاريخية وفق منهج علمي ومن منطلق الفهم الصحيح للدين.. الإسلام؟! لا أشك أن الضلال أخذ منا كل مأخذ وأن أعداءنا نالوا منا الكثير، وأنه آن الأوان لصحوة الأمة وليس لصحوات تفتح جبهات جديدة تستمر فيها ومن خلالها الحرب على الأمة، وتكون النتيجة " بيدي ويد عمر" وليس كما يقول المثل: بيدي لا بيد عمر؟! لا يفيد أن نخطئ حتى النزع الأخير ثم نقول ونحن في الغرغرة "لقد أخطأنا" ثم نموت، بل المفيد أن نتبين أننا أخطأنا ولو في تعفن الجراح ونعمل على أن نشفى منها ونبرأ من الأدواء لكي نستأنف الحياة والبناء من أجل الحياة وتجدد البقاء.؟! ولنعلم أن عدونا يخوض بدمنا حتى الركب، ويدمر من بلداننا وعلاقاتنا ومصالحنا ما يدمر، ويشتد علينا في المحن كما هو الحال في هذه المحنة، ولا يثوب إلى رشد من أي نوع وهو يلغ في دمنا.. وفي وقت لاحق بعد نشر الدمار والخراب، وتأسيساً منه لثقة يبني عليها مرحلة جديدة من الغدر بنا يقول " لقد أخطأنا.. أو اكتشفنا لا حقاً ما يبين لنا أننا أخطأنا"؟! فنُكبِر فيه "موضوعية" تجعلنا نزداد تخبطاً وضلالاً وعمهاً في اطمئناننا إليه وتجدد ثقتنا بها ليجدد قتلنا وتدميرنا.. وخذوا آخر مثل وصل إلينا في هذا الصدد، بعد كولن باول وزير الخارجية الأميركي، صاحب أنابيب الاختبار الكيمياوية أمام مجلس الأمن الدولي ليثبت أن العراق يمتلك أسلحة نووية، حيث قالت الوزيرة هيلاري كلينتون إنها دعمت في عام 2002 قرار غزو العراق، وكانت يومها عضواً في مجلس الشيوخ.. وأوضحت، وهي تنأى بنفسها عن قرار الرئيس أوباما بشأن سورية حيث طلبت منه أن يسلح المعارضة السورية ولم يستجب لها، قالت كلينتون عن موضوع العراق في كتابها حول سنوات توليها وزارة الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية المعنون بـ " خيارات صعبة": ".. اعتقدت أنني تصرفت بشكل صحيح واتخذت أفضل قرار ممكن، مع المعلومات التي كانت بحوزتي، ولكن كنت على خطأ".؟! فتصوروا مفاعيل هذا الاعتراف الذي لا يساوي قشرة بصلة شأنه شأن اعتراف كولن باول بعد تدمير العراق وغرس الفتنة والفوضى فيه لسنوات وسنوات من قبل الأميركيين والبريطانيين وحلفائهم؟! وشأن أي اعتراف غربي بشأن أية جرائم يرتكبونها ولا يترتب عليهم في ذلك عقاب..؟! ونحن في سورية قد يأتينا بعد سنوات وسنوات من الغربيين من يقول " لقد أخطأت"، وقد يأتي من العرب والمسلمين والسوريين أنفسهم من يقول مثل ذلك.. ولكن بعد تدمير بلدنا وقتل شعبنا وترسيخ الضعف والتمزق والشقاق فيما بيننا، ونصرة المحتل لأرضنا علينا.. فما جدوى اعتراف كهذا مع مصائب وكوارث كتلك التي نرى ليل نهار في وطننا؟!

إن العقل والضمير يقتضيان، وكذلك المسؤولية التاريخية والأخلاقية والوطنية والقومية والإنسانية.. كل ذلك يقتضي منا جميعاً أن نبحث عن مخارج لما نحن فيه من أزمات، وأن نوقف شلالات الدم وأنواع الدمار وأشكال التدخل الخارجي في شؤوننا، وأن نقلع شوكنا بأيدينا، لكي نجنب ما تبقى من شعبنا وبلدنا الدمار، ونوقف الفتنة المذهبية التي تذر قرنها بين أبناء أمتينا العربية والإسلامية، ونرد كيد أعداء العروبة والإسلام إلى نحورهم، أو نمنع ذلك الكيد من أن ينحرنا في أرضنا وفي بيوتنا على أقل تقدير.. وهذه كله يستحق منا أن نضحي من أجله بالكثير، وأن نتنازل لبعضنا بعضاً بشرف وثقة، وأن نسلك طريق الصلح " فالصلح خير" لمن يدرك عواقب الشر وعقابيل ما يجري وتفاعلاته وامتداداته إذا ما استمر.. وعلينا أن نفعل ذلك لنمنع نزيف الدم، وتفاقم العنف، وتفريخ الحقد، وجنون الحرب، وهيجان الجهل وشَمْرَخَة الجهال بين ظهرانينا وسيطرتهم علينا وتحكمهم بقرارنا ومصيرنا بغرور وادعاء.. ولنضع حداً لتجار السياسة وتجار الأزمة/الحرب ولمن يبيعون وطنهم في الأسواق الدولية ويقبضون الثمن بوقاحة وينامون بعد ذلك براحة، بينما يحترق الآخرون. وتلك غاية نبيلة، إن أدركناها انعكست علينا وعلى أمتنا وأجيالنا خيراً وبقيت لنا فخراً، وإن اجتهدنا في بلوغها ولم نوفق إلى ذلك مع الجهد الصادق لم يصبنا ندم ولم يلحقنا ذم، ولا نضطر يوماً إلى القول: " لقد أخطأنا"؟! فوقوف المرء ضد القتل والجهل والفتنة شرف له وإنقاذ لسواه، ولا يعيبه إن هو سعى ولم يصل فعلينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح.. ويبقى لنا من ذلك ومع ذلك، أن نحنا فعلنا، شرف العمل الهادف إلى تحقيق غاية نبيلة.. وكما قال شاعرنا عمر أبو ريشة:

شرفُ الوثبة أن تُرضي العلا          غلَب الواثبُ أم لم يغلب

    في داخل الوطن العظيم سورية الأم والبيت الحضاري العريق، تكمن القدرة على مواقف وأفعال خلاقة بناءة مشرفة، ومن ذلك وقف الحرب وكل شكل من أشكال الإرهاب والرعب والقمع والاضطهاد، وبسط السلم بفهم، وإقامة العدل في ظل الأمن والأمن في ظل العدل.. والقضاء على كل ما من شأنه أن يشكل تمييزاً أو ظلماً أو قهراً أو قمعاً وتسلطاً وطغياناً ويؤسس لشيء من ذلك، وفي كل هذا بناء الوطن وحياة المواطن وكرامة الإنسان وحريته واستقراره وبداية ازدهار الحياة والحضارة بعلمه وجهده.. وهذه القيم على السوريين المخلصين لوطنهم ولأمتهم ودينهم، المكتوين بنار ما يجري لشعبهم وبلدهم، المدركين لما ينتظر أبناءهم من شر إن هم لم يفعلوا وما سيكونون عليه من خير إن هم فعلوا.. عليهم أن يصنعوها وينموها ويروها بماء الحكمة وحيوية الضمير وسلامة التقدير والتدبير، لأن فيها أمل وأفق وتفتح على الحياة وانفتاح على الآخر الشريك في المصير والحياة، وفي ذلك وحده الفرح الحقيقي من دون دموية أو عنجهية أو استفزاز، وفيه والانتصار الحق على الشر ابتداء من انتصار الذات عليه في أعماق النفس الأمارة بالسوء.. وحين ذلك يزدهر الابتهاج من دون رصاص ولا دماء ولا خوف ولا إرهاب ولا مرض من أي نوع.. حينذاك تبتهج سورية التي غامت سماؤها لسنوات وأمطرت دماً واستمطره البعض فيها فكان وبالاً عليه وعليها.. ففرح السوريين الحقيقي: سلمٌ وعدلٌ وأمنٌ من جوعٍ وخوف وحريةٌ وكرامةٌ وعيشٌ بثقة على أرضية الأخوة والمساواة والعدالة الاجتماعية التي يصنعها الوعي المعرفي، والانتماء الوطني والقومي، والفهم السليم للديني والمعرفي للبناء والبنيوي، وإعلاء شان الوطن والإنسان والحقيقة والحرية المسؤولة والقانون على كل ما سوى ذلك من شؤون.

والله نسأل أن يوفقنا لما فيه الخير، إنه على كل شيء قدير.

دمشق في 6/6/2014

علي عقلة عرسان