خبر غزة ورام الله: مصالحة المضطرين أم مصالحة المؤمنين؟.. بشير نافع

الساعة 09:23 ص|15 مايو 2014

لم تفاجئ خطوات المصالحة السريعة بين غزة ورام الله الفلسطينيين وحسب، بل تبدو وكأنها فاجأت إدارة أوباما ونتنياهو أيضاً.

وكان المفترض دائماً أن الأخيرين لا يفاجأوا عادة عندما تتعلق الأمور بالشأن الفلسطيني الداخلي. المهم، أن خطوة ملموسة قد أخذت بالفعل في مسيرة المصالحة الفلسطينية الطويلة، وأن اجتماعاً سحرياً في غزة بين ممثلي الطرفين، حماس وفتح، مهد الطريق لتشكيل حكومة التكنوقراط العتيدة، ومن ثم المضي نحو انتخابات وتشكيل مجلس تشريعي جديد، على أن تنطلق في موازاة ذلك عملية إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، تحت إشراف مجلس قيادي موسع. في مسيرة توافق وطني متعثرة منذ اتفاق القاهرة في 2005، ازدادت تعثراً بعد حسم حماس للوضع في قطاع غزة في 2007، هذه لابد أن تكون قفزة ملموسة من أجل إعادة اللحمة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. فإلى إي حد يمكن أن تصبح كذلك بالفعل؟

خاضت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، طوال أكثر من عام، مغامرة الجولة الأخيرة من مفاوضات التسوية، محملة بآمال كبرى.

تعهد وزير الخارجية الأمريكية جون كيري إطلاق المفاوضات، بعد قليل من توليه منصبه، وظن عدد من المسؤولين الفلسطينيين أن اهتمام كيري بعملية السلام، وزياراته المتعددة للضفة الغربية والدولة العبرية، مؤشر واضح على تحول جوهري في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. خلال ولاية أوباما الأولى، أشرفت هيلاري كلينتون على تحول كبير في أولويات السياسة الأميركية العالمية، تمثل في تجاهل نسبي للشرق الأوسط، وإعطاء حوض الباسيفيك، أو ما بات يعرف في لغة واشنطن السياسية بالمحور الآسيوي، أهمية بالغة. ولذا، فقد بدت خطوة كيري وكأنها بداية مراجعة لسياسة إدارة أوباما الأولى، وساد تفاؤل كبير بأن تسوية ما يمكن التوصل إليها هذه المرة. ولأن واشنطن لم تخف، منذ أطلق كيري تحركه، انزعاجها من جهود المصالحة الفلسطينية، التي كان وضع إطارها بوساطة واهتمام مصريين خلال حكم الرئيس مرسي، تجنبت رام الله إغضاب الوسيط الأمريكي وشريك السلام الإسرائيلي؛ ولم تتخذ خطوات جادة لتنفيذ ما اتفق عليه في القاهرة والدوحة. 

الحقيقة، بالطبع، أن التغيير في السياسة الأمريكية كان طفيفاً، ولم يمس جوهر الأولويات. تعمل إدارة أوباما الثانية على توكيد عدم الانسحاب من الشرق الأوسط، بأي صورة من الصور، ولكن أولويتها لم تزل آسيوية، وتتجنب أي تدخل مباشر أو مكلف، مالياً أو سياسياً عسكرياً، في الشرق الأوسط. ترك كيري، كما هو معروف، ليعالج ملف السلام، ولكن الرئيس لم يكن على استعداد لبذل جهد ملموس إلى جانبه. وما ينطبق على مسار السلام الفلسطيني، ينطبق على السياسة الأمريكية في سورية والعراق، وعلى الموقف من تطورات الوضع المصري، ومن العلاقات الخليجية الإيرانية. ولم يكن غريباً بالتالي أن تأخذ جهود كيري في التراجع، ما إن واجهت المفاوضات أول عقبة رئيسية، وأن ينفض يديه من الملف وكأنه لم يكن يدرك حقيقة التعقيدات المحيطة بعملية السلام منذ بدايتها. في الجانب الفلسطيني، اعتبر الرئيس عباس منذ توليه منصبه أن المفاوضات هي الأداة الوحيدة التي سيسعى عبرها لتحقيق أهداف النضال الوطني الفلسطيني.

وبوصول هذه الجولة من المفاوضات إلى حائط مسدود، واستمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، بما في ذلك مخططات الهيمنة على القدس الشرقية، لم يعد لدى رام الله ما تقوم به سوى محاولة دفع عملية المصالحة من جديد. حكومة حماس في غزة هي الأخرى في مأزق إقليمي. بدأ تعقيد وضع حكومة حماس منذ نهاية العام الأول للثورة السورية، عندما رفضت قيادة حماس تأييد سياسة بشار الأسد ودفعت ثمن موقفها الأخلاقي ذاك بمغادرة سورية وفتور العلاقة مع إيران. وسرعان ما انعكس هذا الفتور على الدعم الذي كانت إيران تقدمه لحكومة غزة. لفترة قصيرة، كان بالإمكان تعويض خسارة إيران بالعلاقات مع تركيا، والتحسن المطرد في العلاقة مع مصر. ولكن إطاحة الرئيس مرسي في العام الماضي، وولادة مناخ إعلامي مسعور ضد فلسطين والفلسطينيين، كما ضد حماس، وتبني القاهرة سياسة مختلفة تجاه قطاع غزة، سواء فيما يتعلق بحركة البشر والأشياء أو بالرعاية السياسية، فرض على قطاع غزة حصاراً أسوأ بكثير من الحصار الذي عاناه أهالي القطاع في سنوات مبارك. ولا يخفى، بالرغم من التحسن الطفيف في سياسة القاهرة تجاه حماس وغزة، أن القطاع بات أسير جدار إقليمي معاد من كل الجهات؛ جدار يفاقم إلى حد كبير من أثر شح الموارد الذي تعاني منه حكومة حماس. 

خطوات المصالحة الاخيرة هي في جوهرها انعكاس لأزمة الطرفين، أزمة إخفاق مسار التفاوض، وأزمة الحصار الذي يحيط بقطاع غزة وحكومته. ثمة رغبة عربية، بالطبع، مصرية، على وجه الخصوص، وإقليمية تركية، في تحقيق المصالحة، كل لأسبابه الخاصة، ولكن هذه الرغبة ما كانت لتدفع مسار المصالحة للأمام لولا شعور الأزمة الذي بات يحكم سلوك الطرفين. وهذا ما يطرح عدداً من الأسئلة حول معنى هذه المصالحة، أهدافها، وما يمكن أن تضيفه للنضال الوطني الفلسطيني.

مصالحة تؤدي إلى تشكيل حكومة وانتخابات وعودة قطاع غزة إلى السيطرة الإسمية، أو الفعلية، لسلطة رام، لن تغير كثيراً في الواقع الفلسطيني، بغض النظر عن مصداقية الود الذي تظهره صور لقاءات مسؤولي حماس وفتح. إن كان لهذه المصالحة أن تترك أثراً ملموساً على الوضع الفلسطيني، فثمة عدد من المسائل، التي تتعلق بالمسار الاستراتيجي لحركة التحرر الوطني، أو بوضع السلطة الفلسطينية ذاتها، لابد أن تطرح بصورة أكثر جدية. فما لم يعد محل جدل أن مسار التفاوض، الذي جعل الرئيس عباس منه النهج الاستراتيجي الوحيد لمنظمة التحرير والسلطة معاً، لم يحقق بوصة واحدة من التقدم منذ تولى عباس مقاليد السلطة والمنظمة. في ظل وضع عربي متهالك، لا يمكن الادعاء بأن ثمة وصفة جاهزة لمسار استراتيجي مختلف، ولكن من الضروري أولاً الاعتراف بأن لا شيء سينجز من الاستمرار في السياسة السابقة.

 ومن الضروري، ثانياً، إطلاق حوار جاد لبناء إجماع وطني حول سياسة جديدة. هذا، بالطبع، لن يتأتى بدون أن يقع تغيير حقيقي في سلوك السلطة داخل الضفة والقطاع. عودة السلطة باعتبارها أداة قمع وتحكم، وامتداداً لمؤسسة الأمن الإسرائيلية، لن يؤدي إلا إلى المزيد من التراجع والشلل في الحركة الوطنية الفلسطينية. عندما تسلب كرامة الفلسطينيين وتحاصر قواهم السياسية بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، فلا يجب توقع وحدتهم ونهوضهم في مواجهة الاحتلال. بغض النظر عن الخلافات السابقة حول اتفاقية أوسلو، هناك طريقان رئيسيان للنظر إلى سلطة الحكم الذاتي: الأول، أنها ليست سوى خطوة على طريق تحقيق الأهداف الوطنية؛ والثاني، أنها مؤسسة حكم وغنيمة وثروة؛ وعلى القيادات الفلسطينية أن تختار.

أما المسألة الهامة الثالثة فتتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تم تغييبها كلية عن الساحة السياسية طوال الفترة منذ 1993، بنتائج باهظة التكاليف. بإمكان الرئيس عباس بالتأكيد أن يفرغ الاتفاق بين القوى الفلسطينية حول مستقبل المنظمة من محتواه، وأن يحافظ، ولجنة المنظمة التنفيذية الحالية، على سيطرته على المنظمة وقرارها. ولكن هذا لن يعيد للمنظمة الحياة ولن يساعد على لم شتات الجهود والإمكانيات الفلسطينية. على فتح أن تدرك أنها لم تعد القوة القائدة لشعب هو أصلاً بالغ التعددية؛ وبوضع هذا الواقع في الاعتبار فقط يمكن للفلسطينيين إطلاق بداية جديدة.