خبر .. بين المصالحة والمذابحة ..علي عقلة عرسان

الساعة 02:50 م|09 مايو 2014

بين الاقتتال والمصالحة بون شاسع، وفروق في الجوهر والمظهر، وانعكاسات ذات امتدادات وتأثير، لكن يرتفع بينهما سؤال جذري أو يرفعانه بقوة: أيهما أجدى وأيهما ينجح، وأيهما يليق بالإنساني والحضاري وبالقيم الإيجابية الأخرى؟!.. تلك إحدى ثنائيات عديدة ظهرت في الأزمة السورية ذات الحُبُك والحُلُك وذات الدماء والأرزاء. ومما لا شك في أن الصلح خير، فعواقبه إن لم تكن حسنة مئة بالمئة فإنها على الأقل ليست ضارة بتلك النسبة، وهو يزيل من الأنفس عقابيل وأحقادأ أو يجفف المناخ الذي تنمو فيه الأحقاد وتتوالد فيه العقابيل، ولكن من تراه يدرك ذلك ويعمل به تطوعاً ويُقبِل عليه عقلاً و]اخذ به حكمة وانطلاقاً من مسؤولية ذات شُعَب ومستويات.. من دون ضغوط وهزائم وعجز عن متابعة القيام بفعل يؤدي إلى تحقيق ما يريد أو يختار من أهداف بالوسائل التي يريدها وعلى رأسها كسر ظهر الخصم بالقوة؟!. وتلازم المسارين: "الاقتتال والمصالحة" يبدو واضحاً بوصفه توجهاً للحكومة في سورية لا سيما خلال عامي 2013 و2014، حقق نتائج مقبولة لا سيما في بعض أحياء دمشق وريفها وفي محافظة ريف دمشق.. وربما كان هو شأن ذلك التلازم في كل الأزمات المعقدة التي تنتج عن طغيان وفساد وتسلط وعن شروخ عميقة بين الحكم والشعب تصل إلى حدود الهوة التي لا تقبل الجَسْر فوقها، أو التي تتداخل فيها مصالح أطراف داخلية مع قوى خارجية تضع الحكم والشعب والبلد في مآزق وقد تقود إلى الكوارث، وربما كان أخطرها تلك التي يداخلها النزوع الديني أو العرقي أو الأيديولوجي الطاغياني الأعمى، وتصل آمادها إلى استنفار الغرائزي وترسيخ التطرف والتعصب بألوانهما، وتسويغ السبل والوسائل كافة لتحقيق غَلَبَة " انتصار؟!" ويدخل في هذا الباب الإرهاب الذي يستبيح كل ما لا يُباح، وفي كل هذا تسيطر على شرائح من البشر عصابية وحشية تصل بهم أو ببعضهم إلى درجة تغييب الوعي وانعدام الرؤية بكل أبعادها، حتى في موقع المسؤولية بكل مستوياتها.

في سورية تمت مصالحات كثيرة، منها صغيرة وكبيرة، بعضها صمد وأثَّر إيجابياً في جماعات ومناطق أخرى فاستمالها إلى هذا الأسلوب من المعالجة وبعضها انتكّسّ أو اختُرِق بالنقض أو بالمال السياسي أو بقوة حلت بالعنف المسلح محل الصلح.. ولا يدخل في باب المصالحات ما جرى في حمص خلال المدة من 7 إلى 10 أيار/ مايو 2014 من اتفاق على انسحاب للمسلحين المتحصنين في بعض أحيائها لا سيما القديمة منها، الواقعين تحت ضغط الحصار منذ سنتين ونيِّف، فخرجوا منها إلى مواقع في ريفها الشمالي مثل الدار الكبيرة وتير معلا وتلبيسة والرستن.. إلخ، مختارين متابعة الصراع المسلح من تلك المواقع أو من سواها، ومتراجعين، بالقراءة الواقعية لما جرى ويجري على الأرض، عن موقع حمص المدينة بوصفهم لها عاصمة لحراكهم أو تحركاتهم وتطلعاتهم وخياراتهم وتسمياتهم، ةذلك نتيجة مباشرة للحصار المحكَم الذي فرضه الجيش العربي السوري عليهم وأجبرهم على القبول بما لم يكن مقبولاً لديهم.. وقد سهَّل ذلك الحل ما يمكن أن يدخل في باب تبادل " مصالح" إن صح التعبير، من شروط تفاهم اتفق عليها بوساطة الأمم المتحدة بينهم وبين الحكومة التي كانت ترفض خروجهم من بؤرة قتال إلى أخرى ولا ترضى إلا باستلامهم من دون شروط، ومن ذلك الذي يدخل في باب تبادل " مصالح": رفع حصار مقابل رفع حصار، حيث رفع الحصار المضروب على قريتي نُبُّل والزهراء، وتم تبادل للمخطوفين بين الجانبين، وأُفسح في المجال أمام من يريد أن يغير خياراته من المسلحين السوريين فيلقي السلاح ويقبل بحكم القوانين النافذة، ومنها الاستفادة من مرسوم العفو وتسوية الأوضاع، والعودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية بعيداً عن العنف وعن لغة الرصاص، لما بدا له بعد تجربة ومعرفة أنه الخيار الأفضل.

وليت السوريين المعنيين بأمور الأزمة/الحرب من كل جوانبها وفي كل مواقعها يختارون المصالحة بديلاً لوقائع المذابحة، ففي ذلك خير وعقل ومسؤولية ووعي، وفيه تخليص لسورية وللسوريين مما خُطط لهم ولبلدهم وخروج بهم إلى دوائر أمن واستقرار وإعادة إعمار ورؤية وفعل واستشراف مستقبلي، لا يكونون فيه هم وبلدهم ضحايا لسوء التفكير والتدبير والتصرف، ولا يكونون أدوات وإمَّعات لكل من له مصلحة في سورية أو من خلالها لكي يستمر في  لعبة إقليمية أو دولية ظالمة وقذرة ثمنها دم السوريين ومصير بلدهم ومستقبل أجيالهم.. وربما كان في ذلك أيضاً بداية لطي صفحة سوداء في تاريخ العلاقات العربية ـ العربية أدت إلى هذه الكارثة التي لن تتوقف مضاعفاتها عند حدود سورية الدولة " والدولة شعب وأرض وتاريخ وهوية وثقافة وحضارة وسلطات ومؤسسات وقوانين و.. إلخ"، بل تتعداها إلى دول ومجتمعات عربية أخرى فضلاً عن أبعادها الإسلامية ذات المردود السلبي.؟! لكن لا يبدو أن هذا الخيار منتصرٌ أو مستقطبٌ للتفكير والاهتمامات والهمم بفاعلية كافية تجعله مفتاح أمل ومدخل سلم وأمن من جوع وخوف، ذلك لأن أطرافاً على الأرض السورية وفي فلك ما يدور فيها من حرب، ترفض ذلك التوجه أو تسعى إليه بوسائل ليست هي الوسائل المجدية المرْضية مما يجعله مأزقاً للبعض وليس سبيلاً للخروج من مأزق.. فالوصول إلى ذلك الخيار بالقوة، أياً كانت مصادرها وأشكالها ومداخلها وتجلياتها ونتائجها، هو تأسيسٌ لما يأتي من فصول استخدام القوة لتغيير ما فرضه منطق القوة، ويستمر ذلك في سياق غالب ومغلوب، وتساقي كؤوس العلقم أو تساقي الردى، في تداول سلطات ودول بسطوة القوة لا بسلطة العقل.. وما أيام المرء إلا يوم لك ويوم عليك، فليكن ذلك مع استمر الحياة والأمل لا بالقضاء على الروح وسد منافذ الأمل.

لا يمكن لأي كان، مهما كان موقعه وموقفه من الأزمة/الحرب في سورية إلا أن يفرح لحمص، ذات التاريخ والجراح والكبرياء، إذ يعمها السلام ويأمن فيها الناس، وتسكت فيها الصواريخ والقذائف، وينام فيها الرصاص في مقابر خاصة لا قيامة لها.. فحمص اكتوت وانشوت وعانت حتى باتت مدينة الحزن والخوف والموت ـ مع معرفتي بأوصاف أخرى لها في أثناء الأزمة/ الكارثة لكل فريق يرى لسورية من خلال حمص وموقعها مستقبلاً يراه بعيني أمله ـ وكانت معاناة حمص مثل معاناة حلب ودمشق ودرعا ودير الزور ومواقع أخرى وأخرى في سورية الحبيبة التي ذاقت الويل بعد الويل، من هجوم وحشي بعد هجوم وحشي، في ليل طال واستطال واشتد، كأنه شُد إلى رواسي أعظم الجبال/الأزمات.. بحبال ليست كالحبال، ولا هي كأمراس امرئ القيس ذي القروح والليل والأمراس.

أنا فرح لحمص الآمنة التي أحب، وفرح للناس فيها أو لمن تبقى فيها من ناس وأحلام وعمران ورؤى تتفتح على ضفاف نهر العاصي.. وأتمنى أن يؤول أمر المدن والأرياف السورية الأخرى كافة إلى شيء مماثل أو قريب مما خلص حمص مما هي فيه، وطوى صفحة من صفحة البؤس السوري الذي تركز فيها لزمن طويل، إذا كان من المحال ـ في عرف بعض المحسوبين سوريين ـ الوصول إلى أمن وتفاهم وصلح وإصلاح إلا بالاقتتال وتخريب الوطن وارتهان ما قد يتبقى منه للآخرين؟!.. لقد عانت حمص الكثير، وتعاني سورية بسبب ما عانته، وبفعل ما جرى ويجري في المدن والبلدات والقرى من مآس.. تعاني مما لا طاقة للبشر باحتماله.. ويحق لكل ذي قلب يرى ووجدان حي يُحيي.. أن يرتاح لراحة حمص من بعض المعاناة المرة التي مرن بها، وأن يتمنى لسواها من المدن والبلدات والقرى السورية راحة أيضاً.

وبهذه المناسبة/الحدث الكبير نتمنى على السوريين كافة أن يغلِّبوا منطق المصالحات والتفاهمات والتوافق الإيجابي، وحتى القبول بالهدنات الهادفة إلى تفاهم وحلول وليس إلى تدابير كيدية لتعزيز القوة التدميرية وشدة الفتك، نتمنى عليهم أن يميلوا إلى تلك الخيارات بدل استمرار القتل والليل والمعاناة وانسداد الأفق، ودخول الناس في متاهات بعد متاهات وذل بعد ذل، إرضاء لثلة هنا أو هناك تأخذها العزة بالنفس فتمضي في الجرم والإثم، وتأبى إلا أن تتابع السير في مسارت البيع والشراء، الفساد والإفساد، شهوة سلطة وسلطة الشهوة، الثارات لمن مات وما مات ولا يمكن أن تُبعث فيه حياة أو تستمر معه نهضة شاملة في الحياة، تختار العنف بدل الحوار، والإرهاب الأعمى والتدمير والموت.. حتى لا يبقى قلب سوري على قلب سوري، بل حتى لا يبقى سوري أصيل ووطني وأخلاقي قوي أصلاً.. حسبما يخطط له أعداء سورية الماضي والحاضر والمستقبل، وما تعمل عليه قوى ودول وتنظيمات، وما يراه أشخاص حقاً لهم وطريقاً يسلكونه لإثبات الذات وما ذاك إلا مرض من أمراض الحياة، أو فيما يتوغل فيه بعض السوريين والعرب والمسلمين من مسالك لا تؤدي إلا إلى المهالك والبلوى والإجرام والإبادة.

كم كنت أود أن أكتب عن حمص بفرح تام لا تنغصه منغصات، وكم أتوق إلى أن أستنبت حرفي في ظلال الحَوْر على شدو الطير وسقسة الماء في مساربها من نهر العاصي إلى البساتين، وفي رؤية الأطفال يمرحون في الجنائن على سجاجيد العشب والزهر فرحين، وبين ابتسامات  ’عائلات حمصية آمنة تسمر في " ديك الجن"، أو في كل أنحاء سورية على منعطفات الفرات ودجلة وبردى في سير تلك الأنهار الأبيد إلى مصابها ومنها دمشق وريفها، حيث الماء حياة وحيث الحياة عيد.. وكم كنت، وكم أشتاق لأن أكون.. ولكنَّ علقماً في الحلق، وحنظلاً في العين، وسكيناً في الخاصرة، وفوهة مسدس في الصدغ، وتوقع انخساف الأرض أو زلزلة البيت بقذيفة أو صاروخ أو.. إلخ، ودويَّ البكاء في الأرجاء، وتهويم الرعب وشبح الجفاف والجوع، وتنامي البؤس والحسرة في بلد ليس كأي بلد.. كل ذلك وسواه مما ينتظر الإنسان في بلدي، وكل ذاك الذي يبقى مما يُقال ومما لا يستوعبه مقال.. يمنع الروح من الحركة، والكلام من الانسياب.. وحتى الدمع من الانسكاب وغسل شجرة النفس مما جاء به من سقم وسم، ما سموه تجنياً: "ربيعاً عربياً" في تجنٍ فاضح على الأمة العربية وعلى الربيع بإطلاق اسمه عليه.. ويبقى خير ختام للقول في كل حال أن: " لله الحمد على كل حال من قبل ومن بعد".

دمشق في 9/5/2014

 

علي عقلة عرسان