خبر دولة يهودية تعد بالتشويش -معاريف

الساعة 10:13 ص|05 مايو 2014

دولة يهودية تعد بالتشويش -معاريف

عدم الاستقرار والخطر

بقلم: أبراهام بورغ

(المضمون: دولة اسرائيل تنزع عنها جلدتها القديمة وتلبس جلدة جديدة – دولة الرب. ليست ديمقراطية بل بداية ثيوقراطية. دولة هي جزء من عملية الخلاص، تنتمي الى الشعب الذي يؤمن بان الرب اختاره وتسيطر على أراض مقدسة وعدت بها قبل آلاف السنين - المصدر).

 

محظور على الدولة ان تكون أكثر من أداة علمانية، من خلالها ينظم المواطنون حياتهم. فالتوقعات الخلاصية والدينية هي وصفة للجنون والتشويش الدائم، الذي يأكل كل قسم طيب. من اليوم الأول للفكرة الصهيونية يحوم في الهواء سؤال "لأي غرض".

 

من أجل ماذا في واقع الأمر جاء كل هذا المشروع العظيم والهائل؟ كانت لنا أهداف ومضامين كعدد الحالمين والمجسمين من بيننا. علمانيون وخلاصيون، كونيون وقوميون. ومن كثرة المعمعان الايديولوجي، من الصعب علي أن أجد قاسما مشتركا من بين كل الرؤى والأحلام التي تحرك الالة الاسرائيلية.

 

مع السنين يتبين لي شيء واضح واحد فقط: أن أغلبنا يفعلون كل ما في وسعهم كي يمنعوا هذا المكان من أن يهدأ، أن يرتاح وأن يكون طبيعيا. "لا نريد النوم، نريد الجنون، نحن سنفجر الحي"، على سبيل الشعار الجماعي. الحقيقة هي أن ثمة لحظات تأسيسية في حياة المجتمع تكون لحظات ثورية. شيء ما داخلي ثائر، متمرد ومتفجر. براكين تغير أنظمة العالم. مثل خروج مصر، يفنه وحكمائها، القبائل، التعليم أو إقامة الدولة. ولكن يجب أن تكون ايضا لحظات اخرى، تكون أطول: لحظات الهدوء والصبر تسود فيها الحياة العادية، والطبيعية هي نمط الحياة المرغوب فيها.

 

إذن لماذا بعد سبعة عقود من الاستقلال، لا تبدأ هذه الطبيعية المنشودة حتى في الترسخ هنا؟ الحراك مستمر، دون الراحة للحظة، شيء ما غير طبيعي يرفض أن يهدأ يحوم دوما في الهواء. يبدو أن الموضوعين الأكثر تفجرا بالذات، "الاكثر تبريرا"، في الحديث الاسرائيلي – دولة يهودية

 

ودولة الشعب اليهودي – هما الموضوعان الاكثر وضوحا على اللاطبيعية إن لم يكن على جنون هذا المكان.

 

شيء عميق تشوش

 

ما هي الدولة؟ في الفلسفة وفي العلوم السياسية توجد الكثير من التعريفات لهذا المفهوم. هنا والان أكتفي بالقول ان الدولة ليست الشعب أو السكان الذين يسكنون في نطاقها، والدولة أيضا ليست الحكم السياسي الذي يديرها. الدولة هي أداة علمانية في يد الشعب، كل شعب، لترتيب حياته. الدولة يمكنها ان تكون أداة ضيقة جدا أو مركزية وواسعة جدا. ولكن محظور عليها أبدا أن تكون أكثر من أداة.

 

الدولة هي الوسيط بين الحكم والمحكومين. بواسطتها ينظم السكان المدنيون أمنهم، اقتصادهم ومجاريهم، التعليم، جباية الضرائب وتوزيع الرفاه. الدولة – ولا سيما تلك التي من النوع الديمقراطي – تعود لمواطنيها. هوية الجماعات السكانية التي تعيش داخل الاطار السياسي تقررها الجماعات السكانية نفسها. سواء في الحديث الدائم أم في التصدي الذي لا ينتهي. ولكن الدولة الحديثة نفسها، على الاقل تلك التي اقيمت هنا بدماء كثيرة، يفترض أن تكون دولة علمانية. معنى الأمر ان الاداة السياسية ليست موضوع مهام دينية، مسيحانية أو ايديولوجية.

 

في هذا السياق فان التعبير الاكثر خطورة على مجرد وجود الدولة العلمانية الاسرائيلية هو تعريفها كـ "بداية نشوء خلاصنا". بمعنى أن الدولة هي المرحلة الأولى في خطة خلاص أكبر بكثير. وفي ظروفنا لا خلاص لك إلا بمعناه الديني، القومي والمسيحاني. وكل هذا لماذا؟

 

في السنوات الاخيرة، شيء عميق جدا تشوش هنا. عندما تحدثوا في 1948 عن "دولة يهودية" كان المقصود بـ "يهودية" شيئا مثل الدولة الايطالية، الفرنسية أو الامريكية. تعريف غامض يوجد في المساحة التي بين الثقافة والمواطنة. التعريفات والخصال في أيام بداية الدولة كانت في أساسها علمانية. غير أن الطاقة العلمانية الاسرائيلية ضعفت جدا، هزلت وفقدت زخمها.

 

لمسيرة أفول العلمانية واليهودية كثقافة واسعة ترافقت مسيرة نهوض وتجدد لدينية قومية جديدة، ضيقة ومقلصة. بإسمها سيطرت في السنوات الاخيرة بضع مجموعات ايديولوجية على محركات المضمون والهوية الاسرائيلية، وغيرت دون جدا منظومة التفعيل الاسرائيلية. وبالمناسبة

 

غيرت أيضا طابع اسرائيل. من دولة علمانية، متفانية كأداة في يد الجمهور، الى دولة شبه دينية يوجد الجمهور في يدها ومتفانٍ لمزاجاتها.

 

عندما يقال اليوم "يهودية" المقصود هو البعد الديني الآخذ في الاتساع والذي يأكل كل قسم سياسي طيب. وعندما يختلق رئيس الوزراء ذريعة جديدة لاستراتيجية اللا سلام خاصته، الطلب للاعتراف بنا كـ "دولة يهودية"، وهو لا يشرح ما هو المقصود، فانه لا ينفصل عن شركائه التاريخيين بل يستخدم الخطابة الخلاصية – الدينية خاصتهم. وهو يصبح شريكا في الجهود لتحويل اسرائيل من دولة الاسرائيليين الى دولة اليهود. من دولة علمانية مواطنوها هم مصدر صلاحياتها، الى دولة دينية مصدر صلاحياتها، وكذا أهدافها الوجودية، تختلف جوهريا. دولة تعود أولا وقبل كل شيء الى متدينيها وفقط بعد ذلك بأفضلية منخفضة الى كل الباقين، هذا اذا وصلتهم.

 

غياب الحدود الوجودية

 

أمام ناظرينا تحدث بالتالي مسيرة صرخة عجيبة. دولة اسرائيل التي كانت ذات مرة دولة الانسان الاكثر حداثة، تنزع عنها جلدتها القديمة وتلبس جلدة جديدة – ليست جلدة جديدة على الاطلاق – دولة الرب. ليست ديمقراطية بعد اليوم بل بداية ثيوقراطية (حكم الطغمة الدينية)، خطوطها آخذة في الاتضاح. دولة هي جزء من عملية الخلاص، تنتمي الى الشعب الذي يؤمن بان الرب اختاره وتسيطر على أراض مقدسة وعدت بها قبل آلاف السنين.

 

كل أفعال الحكم تتجه لتخليد هذا المثلث الاصولي – أراض مقدسة، من قبل توراة مقدسة، ومن أجل الشعب المختار. هل هناك حاجة الى تفسير آخر لماذا أنا شخصيا أعارض جدا تعريف دولة اسرائيل كدولة يهودية؟

 

ان التشويش الدائم القائم هنا بين الشعب والدولة ليس صدفة. فالشعب – ولا سيما مثل شعبنا، بتجربته وماضيه لا حاجة بالضرورة الى ارض اقليمية كي يعرف بها نفسه. أما الدولة بالمقابل، كل دولة، فتحتاج الى مجال جغرافي محدد توجد في داخله. وبسبب هذا التشويش بين المفهومين، لم تجتهد اسرائيل أبدا في أن تحدد حدودها حقا. ان عدم قدرتنا على البحث مع الفلسطينيين على الحدود الدائمة لا تنبع فقط من أهدافهم وطرق سلوكهم التي تختلف عنها بل هي ايضا بسببنا وتنبع منا.

 

بضعة مصاعب نفسية تجعل من الصعب علينا ان ننطوي في حدود معترف بها مثل كل باقي دول العالم. الاولى هي مسألة الهوية: من نحن، شعب أم دولة؟ شعب بلا حدود أم دولة محددة بحدود؟ صعب علينا عبور هذا الممر النفسي والفكري.

 

الثانية – مع أن الحدود التاريخية للبلاد ليست واضحة على الاطلاق (مع التاريخ الطويل تأتي ايضا خطوط حدود متنوعة) واضح أنها ليست خطوط 67. وعلى اي حال فان التخلي عن حدود الماضي كبير وصعب، ولا سيما لمن يستمدون عظمتهم من الاساطير الكبرى للماضي اليهودي.

 

والثالثة – عودة الى الاولى. في نظر الكثيرين اسرائيل ليست دولة كل اسرائيلييها، بل "دولة الشعب اليهودي". بؤرة اخرى من عدم الاستقرار، عدم الطبيعية الدائمة. ان تعريف اسرائيل كــ "دولة الشعب اليهودي" (حسب الخطاب الصهيوني البائس وكما يحاول المرة تلو الاخرى مشرعون مختلفون من اليمين الصهيوني تعريفها في قوانين أساس جديدة) هو تعريف جد جد اشكالي.

 

المعنى العملي والفكري هو أن اسرائيل تعود بمفاهيم معينة لجون، مارتا والابناء الذين يسكنون في مكان ما في الغرب ولم يتصوروا ولن يتصوروا امكانية الهجرة الى هنا. وها هي توجد لهم مكانة رسمية حقيقية محروم منها عمليا اسماعيل وأبو مصطفى، صديقيّ من أبو غوش مع أنهما مواطنان رسميا لاسرائيل، من مواليد المكان ومواطنون تقريبا لكل شيء (تقريبا، وان كان لان ابناء عائلتيهما لا يمكنهم أن يهاجروا الى هنا على الاطلاق).

 

إذن ها هي توجد لنا دولة حديثة جدا، علمانية ظاهرا، آلية المواطنة المركزية فيها تحركها قوة طاقة دينية عرقية. وهذه ليست مجرد طاقة فحمية بل مادة مشتعلة من النوع الاسود، المحدود والاكثر تبسيطا.

 

حتى هنا انتقادي للمفاهيم السائدة في الخطاب الاسرائيلي الراهن، المفاهيم التي طلب مني المحرر أن أتناولها. وفي خلاصة الامور وكبديل لها بودي أن أقترح تعريفا آخر يحتاج الى يراع أوسع ليس هذا مكانه. اسرائيل هي الدولة التي قرر فيها جزء من الشعب اليهودي تجديد سيادته. نظامها هو علماني، ديمقراطية، مدني ومتساوٍ، يوجد فيها فصل تام بين الدين والدولة وهي تعود لكل مواطنيه وفقط لهم.