خبر السلطان عبدالحميد وفلسطين: الخرافة وتفكيكها!.. خالد الحروب

الساعة 07:36 ص|07 ابريل 2014

خلال فترة حكم السلطان عبدالحميد الثاني التي زادت عن ثلاثة عقود (ما بين ١٨٧٦ و١٩٠٩) يخبرنا هذا الكتاب المهم: «السلطان عبدالحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين» للباحثة القديرة فدوى نصيرات والذي يفتح تاريخاً جديداً للسلطان وسياسته تجاه المشروع الصهيوني، ان عدد اليهود في فلسطين تضاعف ثلاث مرات ووصلت نسبتهم عام ١٩٠٨ إلى ١١ في المئة من عدد السكان. ونقرأ في الكتاب تفاصيل مثيرة عن الزيارات الخمس التي التقى فيها ثيودور هرتزل مع السلطان بين سنوات ١٨٩٦ و١٩٠٢ (إثنتان منها على نفقة السلطان نفسه)، وماذا حدث فيها، ونلتقط بسرعة من خلال التفاصيل تردد السلطان وتساهله إزاء هرتزل، ومحاولته استكشاف مدى صدقية الزعيم اليهودي وقدرته على الوفاء بوعوده المالية التي يخلعها للسلطان مقابل الحصول على «صك» يمنح فلسطين قانونياً لليهود. تبحر فدوى نصيرات وسط أمواج أحداث تاريخية كثيفة وتلتقط مسار علاقة عبدالحميد بهرتزل لتصل بنا إلى السؤال الكبير الآتي: إذا كان السلطان عبدالحميد قد رفض عرض هرتزل في لقائه الاول به عام ١٨٩٦ والذي اعتاش تاريخياً على المقولة التي قيل انه رد بها بحزم (برفض بيع فلسطين مهما كان الثمن) على عرض هرتزل، فلماذا يلتقيه بعدها مرات عدة، ويستضيفه في اسطنبول وعلى نفقته الخاصة، ويأمر خاصته بالحرص على الاعتناء به ووفادته؟ (**)

في العهد الحميدي، شهدت الامبراطورية العثمانية الهزيع الأخير من عمرها، إذ كانت تئن تحت وطأة الديون المتراكمة، والضغوط والانشقاقات الداخلية، وتهديدات القوى الغربية سواء عبر الحروب الدائمة التي كانت تأكل من اراضي السلطنة او من خلال التدخلات المتواصلة في شؤونها الداخلية. وكان السلطان يشعر بضغط الحاجة المالية الملحّة والتي كان يدركها هرتزل ويبني وعوده للسلطان حولها، ومن جهة ثانية كان يعي ان أي فرمان «رسمي» بمنح اراضي فلسطين لليهود معناه الحكم عليه بالخيانة في عيون المسلمين وفي كتب التاريخ. ونتيجة للشد والجذب بين هذين الموقفين، وجد السلطان نفسه أسير موقع التردد وغياب الحسم والتساهل والحيرة، وهو موقع امتد زمنياً سنوات طويلة كانت في غاية الحساسية والخطورة والإفادة بالنسبة الى المشروع الصهيوني، ذلك ان الصهاينة الذين كانوا متحفزين لاستغلال اية فجوة ولو صغيرة في السياسة العثمانية استثمروا تردد السلطان وتساهله إلى الحد الاقصى، وبخاصة من خلال إقامة البنية التحتية الاستيطانية لـ «الوطن القومي» خلال سنوات الحكم الحميدي. والمفارقة الكبرى التي يضعها الكتاب تحت الضوء الساطع أنه تم انجاز ذلك عملياً وواقعياً في عهد السلطان الذي رفض لفظياً وشعاراتياً إعطاء فلسطين لليهود.

في تلك الحقبة، اشتغلت الصهيونية العالمية على جبهتين متوازيتين، وإلى حد ما متنافستين، لكنهما خدمتا المشروع نفسه بتكامل مدهش، ولا يهم هنا إن كان ذلك التكامل مقصوداً وتبادلاً للأدوار ام لم يكن. الجبهة الاولى كانت على مستوى محاولة انتزاع الاعتراف القانوني من جانب الدول الكبرى، ومن السلطنة العثمانية تحديداً، بحق يهود العالم في امتلاك فلسطين، وتأمين تلك الملكية بالمال والإغراءات وعبر وقوف اليهود إلى جانب السلطة وتوفير استثماراتهم وخبراتهم لخدمتها، وهذه كانت الجبهة التي اشتغل عليها هرتزل. في المقابل كانت هناك جبهة الصهاينة العمليين الذين كانوا مقتنعين باستحالة انتزاع موافقة قانونية من السلطنة على امتلاك فلسطين، وبالتالي اشتغلوا على الارض وتركزت جهودهم على بناء امر واقع من طريق الاستيطان والهجرة وبناء مجتمع وبنى اولية للدولة، بهدوء وفي شكل تدريجي. ما يكشفه البحث الجذري والمبدع الذي تقوم به الدكتورة فدوى نصيرات في هذا الكتاب هو التساهل المفرط من السلطان عبدالحميد على الجبهة الثانية، مقابل تشدده اللفظي على الجبهة الاولى.

بمعنى ما، كان السلطان في مقولاته «البطولية» عن عدم بيع فلسطين يتحدث إلى التاريخ وكي يتفادى أي اتهام له بالخيانة والتفريط. لكن كان في سياسته العملية يحاول ان يكون براغماتياً يستكشف الفرص، متذاكياً على الآخرين وظاناً بنفسه انه يناور على الصهيونية العالمية التي كانت هي بدورها تناور عليه بذكاء اكبر، وتكسب ضده النقاط تلو النقاط. هنا لا تتبقى اية قيمة حقيقية للاقتباسات والمقولات والمواقف اللفظية، ولا حتى للوثيقة او الوثائق التي حاولت «اسطرة» السلطان عبدالحميد وخلق تلك الخرافة حول رفضه بيع فلسطين، وبخاصة «وثيقة ابو الشامات» التي تناقشها نصيرات بتوسع في الكتاب. القيمة الحقيقية هي للوقائع على الارض وهي كثيرة ومزدحمة مثل: تسهيل الهجرة اليهودية، بناء المستوطنات، جلب الخبرات اليهودية، عدم الالتفات إلى غضب الفلسطينيين ونداءاتهم للسلطان بأن يقفل باب الهجرة اليهودية ويمنع انتقال ملكية الاراضي اليهم، تواصل الاستثمارات اليهودية في فلسطين وازديادها، إعدام الناشطين العرب الذين فضحوا تواطؤ الولاة العثمانيين مع المخططات اليهودية للاستيلاء على الاراضي الفلسطينية وعلى رأسهم نجيب عازوري، إهمال التحذيرات والرسائل المتتالية من سفراء اسطنبول في العواصم الغربية التي كانت تحذر السلطان من السياسة المتساهلة المتبعة في فلسطين وكيف تستثمرها الصهيونية العالمية، وغيرها من الوقائع التي ترصدها نصيرات بدقة شديدة. وربما تتلخص السياسة التفريطية التي وسمت الحقبة الحميدية إزاء فلسطين والصهيونية العالمية في الاقتباس المدهش الذي تورده لنا المؤلفة على لسان هرتزل نفسه مستغرباً تساهل السلطات العثمانية من نشاطه في فلسطين، إذ يقول عقب لقائه قيصر ألمانيا الذي كان يزور فلسطين آنذاك، عام ١٨٩٨، «لو كان لدى الحكومة التركية بُعد نظر لوضعوا حداً لنشاطي وتحركاتي، فالأمر بسيط إذ كان يجب طردي من البلاد»!

إلى جانب ثورية التأريخ ونقض «البراديم» السائد إزاء السلطان عبدالحميد وفلسطين، فإن الثورية التي لا تقل عنها اهمية ويقدمها هذا الكتاب تتعلق بما توفره من ادلة وأدوات لنقض ونفض المساجلة الايديولوجية الطاغية التي قدمتها الإسلاموية العربية على مدار ما يقارب قرناً من الزمن، واستثمارها للسردية «اليقينية» حول السلطان الذي وقف في وجه الصهيونية العالمية ورفض بيع فلسطين لهرتزل وتحدى كل الاغراءات المالية. «الرد الصارم» الذي ألقاه السلطان في وجه هرتزل في لقائه (الاول) بأنه لن يبيع ارض فلسطين لأنها ملك للمسلمين، وبأنه لن يسوّد صفحات تاريخ أجداده العثمانيين، تطور إلى حالة طقوسية ورمزية هائلة، رفعت السلطان إلى مراتب القديسين، بخاصة على رافعة التعبئة الايديولوجية التي رافقت صعود تيارات الاسلام السياسي في المنطقة. تم تضخيم تلك «السردية» وفصمها عن اي سياق تاريخي وتصعيدها في خطابات الاسلاميين إلى مستوى «الحالة المعيارية» التي لا يطاولها القادة والزعماء ممن ينتمون إلى تيارات منافسة للتيار الاسلامي، المنجذب تاريخياً الى فكرة الخلافة العثمانية، والداعي في لحظة تأسيسه إلى عودتها، والمحتفظ لاحقاً بدفق رومانسي لا ينضب لسيرتها.

في قلب السجال الاسلاموي والتعبوي والجماهيري تم استدعاء السلطان و «موقفه» للتدليل على مبدئية منظور الحركية الإسلاموية وعدم خضوعها للإملاءات الخارجية. لم تكن تلك المساجلة موضوعية بمقدار ما كانت متركزة على «دحض» وتقويض الايديولوجيات والافكار السياسية المنافسة والتي سيطرت على الوطن العربي بعد انهيار السلطنة العثمانية، وقادت حركات التحرر ضد الاستعمار الغربي، ثم أسست المرحلة الاستقلالية العربية. وفق الأطروحة الإسلاموية «فرّطت» الايديولوجيات العربية المختلفة، القومية والاشتراكية والليبرالية، بالاوطان، وعلى رأسها فلسطين، وهي الايديولوجيات التي جاءت لترث الخلافة العثمانية التي «لم تفرط» بالاوطان وبفلسطين. الاستنتاج المنطقي لذلك، واستشهاداً بأسطورة عبدالحميد الثاني، ان الايديولوجية الاسلامية هي وحدها التي تصون الاوطان. تطورت اسطورة كبيرة حول «الموقف العظيم والبطولي» للسلطان عبدالحميد ضد الصهيونية العالمية وضد هرتزل، الموقف الذي ضخّمه الخيال الاسلاموي مضيفاً إليه أبعاداً درامية حيث لم يقف الأمر عند رفض السلطان وردّه الصارم، بل وصل إلى وصف مختلق لتعنيف السلطان لهرتزل وطرده من حضرته! وهكذا لعبت تلك الاسطورة دوراً هائلاً في تأسيس خطاب إسلاموي مؤدلج بخاصة في المشرق العربي، وتحديداً عندما يتعلق الامر بفلسطين، يعلي من ذاته فوق الخطابات الاخرى بكونه المؤتمن الوحيد على الاوطان. تُرجمت اسطورة عبدالحميد إلى كل الأشكال الممكنة: كتب، ومسرحيات، ودراما، وأشعار، لكنها ظلت دوماً في مأمن من البحث التأريخي الرصين والموثق. الآن وبفضل الجهد البحثي الكبير الذي تقدمه فدوى نصيرات في هذا الكتاب، نقرأ تاريخاً جديداً لتلك الحلقة من تاريخ المنطقة، يفكك تلك الاسطورة وما رافقها من خيال وما تبعها من أدلجة وتوظيف.

** جزء من تصدير كتاب «السلطان عبدالحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876 -1909»، للدكتوة فدوى نصيرات – مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

 

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني