خبر مناورة باللحم الحي..نبيل عمرو

الساعة 05:17 م|04 ابريل 2014

نالك مصطلح يصف مستوى معينا من التدريب العسكري بالمناورة بالعتاد الحي، وفي هذا النوع من التدريبات الأساسية والجدية، يسمح بقتل عدد معين من الجنود، وإصابة عدد أكبر بجراح، مع احتلال مواقع وإخلاء أخرى، لينتهي الأمر بتحديد مدى كفاءة الذين قاموا بالمناورة، وإلى أي مدى يستطيعون تحديد مستوى أدائهم في ميدان الحرب الحقيقية.

غير أن للفلسطينيين نوعا من المناورات يختلف كليا عن العسكرية منها، فبدل الذخيرة الحية التي لا يملكونها أمام خصمهم الإسرائيلي، فهنالك اللحم الحي الذي يلوذون به حين تغلق كل الأبواب وتسد الطرق أمامهم.

وما فعله محمود عباس بالأمس القريب، هو نوع من المناورة باللحم الحي، بل إنه نوع من استخدام أوراق معنوية ذات دلالات سياسية، أمام استخدام الخصم للحد الأقصى من قوته المادية والعسكرية والتحالفية.

لقد اضطر محمود عباس إلى القيام بمشهد دراماتيكي، حين لم يجد مفرا من مواجهة عدة استعصاءات نهضت أمامه، وكأنها تنذره بأن الاستمرار ضمن قواعد اللعبة القديمة سيفضي إلى خروجه صفر اليدين من المعادلة، فلا يكسب القليل وهو إطلاق السراح المحدود للأسرى، ويخسر الأكثر أهمية وهو تمرير الاستيطان تحت صخب المساومات الحادة على أمور تبدو ثانوية بالقياس لعمق القضايا الأساسية وأهميتها.

وكما كان متوقعا، فقد التقط الإسرائيليون المشهد الفلسطيني المتلفز وبنوا عليه روايتهم المكررة، التي يرددونها دون كلل أو ملل... رواية أن الفلسطينيين أهدروا في اللحظة الأخيرة فرصة التوصل إلى اتفاق، لا ينقذ المفاوضات فحسب، وإنما يفضي إلى حل ثمين لكافة المعضلات المطروحة على الطاولة على مدى ثمانية أشهر.

وكما كان متوقعا كذلك، فقد أعلن الإسرائيليون بطرق شتى أن مجرد توقيع الأوراق هو نكوص عن اتفاقية أوسلو، وهذا هو مبتدأ الجملة الخطرة، التي خبرها، وما دام الأمر كذلك فإن إسرائيل ستكون متحررة من كل القيود، لتمارس ما تريد، بدءا من التضييق على حياة الفلسطينيين اليومية، ومرورا بمضاعفة الاستيطإن، وأحكام القبضة على كل نواحي الحياة الفلسطينية.

أما أميركا التي رعت جولة الأشهر الثمانية من الاتصالات والمفاوضات والتعهدات والالتزامات، فقد عدت ما جرى عقبة يمكن تذليلها، وكما قال الوزير كيري، وهو يحرص على ألا يظهر بمظهر الفاشل... إن الولايات المتحدة فخورة بلعب دور الوساطة، وهي تعمل بكل إمكاناتها من أجل السلام، إلا أنها ترى أن الجهد الأساسي في هذا الأمر يتوقف على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

إن هذا القول الذي ينقل الدور الأميركي من موقع العراب في العملية الصعبة، إلى موقع الواعظ الذي يذكِّر طرفي النزاع ببديهية أن الأمر كله يقع على عاتقهما، وإن لم يتوصلا إلى اتفاق أو تفاهم، فماذا تستطيع أن تفعل أميركا أكثر مما فعلت؟!

إن المنطق الوعظي، الذي دأب الوزير كيري على استخدامه حيال كل استعصاء تفاوضي، يحمل في طياته رسالة حملتها من قبل كل المحاولات الأميركية التي بذلت - وما أكثرها! - من أجل احتواء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وفرض مسارات سياسية تفاوضية عليها، إلا أن هذا المنطق الوعظي، يجافي الواقع المتكرس على صعيد الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، هذا الواقع يقول... إن إمكانية توصل الطرفين إلى حلول دون تدخل أميركي، لم تعد ممكنة، ولو أنها كانت ممكنة فيما مضى، حين نجحت أوسلو بينما أخفقت واشنطن.

والآن... وبعد المشهد الدراماتيكي الذي نقلته شاشات التلفزيون على الهواء مباشرة، والذي تزامن مع مشهد أخطر، حين أعلنت إسرائيل عن مشروع استيطاني كبير سيتم تنفيذه في القدس الشرقية، فإن ما يمكن أن يحدث بعد هذين المشهدين هو نفس ما كان يحدث فيما مضى وفي حالات مماثلة، فبعد توقيع عباس على الأوراق، أعلن من وصف بمصدر قيادي رفيع المستوى أن توقيع الأوراق، لا يعني إرسالها، ويمكن أن يقال فيما بعد إن إرسال الأوراق لو تم، لا يعني المضي قدما في هذا الاتجاه، وهذا نوع من المناورة الضرورية التي لا يملك أصحاب الأوراق الضعيفة في ميزان القوى، سوى اللجوء إليها، كما لو أنها اللحم الحي الذي يستخدم في اللحظات الحرجة.

ورغم هذا المشهد الدقيق والحساس بالنسبة للأطراف الثلاثة المتوغلة في المساومات الراهنة، فإن بوسع الأميركيين أن ينقذوا الموقف ولو إلى حين، ولن يحققوا في هذا السياق، إلا بعض متنفس لجهدهم الحرج، أما ما هو أكثر من ذلك، فلربما يحتاج إلى تغيير قواعد اللعب، وهذه مسألة لا يعرف أحد ما إذا كانت أميركا مستعدة لها أو أن اللعب على القواعد القديمة هو الأكثر سهولة وراحة مع المسامحة في بلوغ النتائج الجوهرية.