خبر التعب من قضية الفلسطينيين! ..ماجد كيالي

الساعة 10:59 ص|01 ابريل 2014

من الأخير، فإن إسرائيل لن تنفّذ الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية، حتى على مستوى إنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967، ولو استجابت القيادة الفلسطينية لطلبها الاعتراف بها كدولة يهودية. هذا ليس موقفاً سياسياً مسبقاً، أو ادعاء بـ «الضرب بالرمل»، وإنما هو استنتاج مستمدّ من قراءة موضوعية للسياسة التي تنتهجها إسرائيل إزاء الفلسطينيين، ومن دروس التجربة التفاوضية ذاتها، التي مضى عليها عقدان.

لنتذكّر أن إسرائيل لم تفبرك هذا الطلب «البدعة» إبان عقد اتفاق أوسلو المجحف بحق الفلسطينيين (1993)، إذ اكتفت وقتها باعترافهم بها، وقبولهم اعتماد المفاوضات سبيلاً لحل القضايا الصراعية معها، علماً أنها في المقابل اعترفت فقط بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، من دون أن تلتزم بقيام دولة لهم، وكانت تلك ثغرة كبيرة. أيضاً، فإن شرط الاعتراف بـ «يهودية الدولة» لم تطرحه إسرائيل في مفاوضات «كامب ديفيد 2» (2000). وفوق هذا وذاك، فإن بنيامين نتانياهو ذاته لم يطرح هذا الشرط، لدى رئاسته الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى (1996- 1999) وإبان مفاوضاته مع الفلسطينيين، التي تمخّضت عن اتفاق «واي ريفر» (1998)، إذ اكتفى حينها بطرح مبدأي «الأرض مقابل الأمن»، وإقرار الفلسطينيين بانتهاء الصراع، بعد إقامة الدولة الفلسطينية.

ومعلوم أن فترة حكومة نتانياهو تلك كانت من أكثر الفترات هدوءاً في تاريخ العلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومع ذلك فقد تنصّلت اسرائيل من استحقاقات المرحلة الانتقالية في اتفاق اوسلو، ومن استحقاقات اتفاق «واي ريفر»، وضمنها الانسحاب من بعض المناطق (13,1 في المئة من أراضي الضفة) والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين قبل 1993، إذ ذهب نتانياهو الى انتخابات مبكّرة نجم عنها صعود ايهود باراك إلى السلطة.

هكذا، وكما حدث مراراً، فقد كانت قصة تبكير الانتخابات، وغياب الإجماع الإسرائيلي، هي الحجة التي تستخدمها إسرائيل للتنصل من التزاماتها، والعودة إلى نقطة الصفر في العملية التفاوضية، التي باتت بالنسبة الى الفلسطينيين بمثابة ملهاة أو متاهة لا مخرج منها.

الآن، حتى لو افترضنا جدلاً أن القيادة الفلسطينية استجابت المطلب الإسرائيلي بهذا الشأن (وهذا ما استبعده)، فإن نتانياهو لن يفي بالتزاماته، بناء على دروس التجربة السابقة، وإنما هو سيذهب، على الأرجح، إلى تقريب موعد الانتخابات، أو إلى ابتداع حجة جديدة، كغياب الإجماع الفلسطيني، وعدم سيطرة ابو مازن على الوضع، وحال قطاع غزة، والتخلص من التجمعات الفلسطينية في إسرائيل، والقائمة طويلة.

ولعل من المفيد، في هذا السياق، أن نتذكّر أنه إضافة الى اتفاق اوسلو (1993) لدينا اتفاق «واي ريفر1» (1998) واتفاق «واي ريفر 2» (في شرم الشيخ مع حكومة باراك 1999)، ومفاوضات «كامب ديفيد 2» (2000) وطابا 2001، ثم خطة «خريطة الطريق» الأميركية (2002)، وتفاهمات «آنابوليس» (أواخر 2007 في عهد اولمرت)، ولا ننسى المبادرة العربية للسلام (2002)، وقد تملّصت إسرائيل منها بهذه الحجة أو تلك. بل إن إسرائيل قامت، في غضون ذلك، بزيادة نشاطاتها الاستيطانية، بحيث تضاعف عدد المستوطنين في الضفة والقدس مرات عدة، من 180 ألفاً في 1993 إلى 550 ألفاً في 2013. أما المناطق التي باتت تخضع لإدارة السلطة الفلسطينية، وليس إلى سيادتها، فهي باتت مقطّعة الأوصال بالجدار الفاصل وبالمستوطنات والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية، وهي لا تتجاوز 40 في المئة من أراضي الضفّة، علماً أن اسرائيل حافظت على سيادتها عليها، وعلى مواردها المائية، وعلى الهيمنة الأمنية والاقتصادية فيها.

هذا يفيد باستنتاج أن إسرائيل غير جاهزة للتسوية مع الفلسطينيين لسبب بسيط مفاده أنها لا تعترف بهم كشعب له حقوق، أو شعب يستحق تقرير مصيره، بقدر ما تعتبرهم مجرد سكان أو مقيمين «تتكرم» عليهم بحق العيش والعمل في ظروف معينة مع إبقاء سيطرتها عليهم وتحكّمها بهم. هكذا، فليس الهدف من كل هذه المفاوضات والشروط الإسرائيلية المتوالية تحقيق التسوية مع الفلسطينيين، وإنما فرض الاملاءات عليهم، وإقناعهم بأن هذه هي اللعبة الوحيدة في الساحة، وهذا ما يفسر إمعانها في امتهانهم، والحط من قضيتهم، وتجويف أي إنجاز يحققونه. ويبدو أن إسرائيل تريد دفع الفلسطينيين إلى إشهار قبولهم بالواقع الذي تفرضه عليهم، والذي يتمثّل بقيام كيان سياسي لهم، هو بمثابة سلطة حكم ذاتي على السكان، لإدارة احوالهم، وتدبّر امورهم، من دون تحميلها أية تبعات عن ذلك، لا سياسية ولا امنية ولا اقتصادية ولا اخلاقية، وهذه هي الوصفة الوحيدة المطروحة، وهي وصفة تجعل الفلسطينيين تحت الهيمنة الاسرائيلية، في ظل نظام مختلط من علاقات الاستعمار و «الابارتهايد» والحكم الذاتي.

على ذلك، فإن أي مطالبة للفلسطينيين بقبول ما هو مطروح عليهم إنما تعبر في الحقيقة عن التحيّز لإسرائيل، الدولة المستعمرة والعنصرية، والتهرب من ممارسة الضغوط عليها أو من تحميلها المسؤولية عن تقويض عملية التسوية، ناهيك بأن ذلك يضفي شرعية على الشروط او الذرائع الإسرائيلية، علماً أنه لا توجد دولة تعترف بأخرى، على أساس الدين او الثقافة أو اللغة، فحتى نص الإعلان الأميركي بإسرائيل لا يتضمن الاعتراف بها كدولة يهودية، ولا وجود لأية سابقة دولية بهذا الخصوص.

أما بالنسبة الى الحديث المخادع والمخاتل والرائج عن مطالبة الفلسطينيين بالإقدام على مزيد من المجازفات والتنازلات من أجل «السلام»، فينمّ عن لا مبالاة بأحوالهم وانعدام مسؤولية سياسة وأخلاقية إزاءهم، باعتبارهم الضحية، وإزاء الاتفاقيات التي تم توقيعها، وتناسٍ لتجربة عشرين عاماً من التهرّبات الإسرائيلية، وفوق كل ذلك فهو ينم عن استهتار بالتنازلات المؤلمة والصعبة التي قدمتها القيادة الفلسطينية. ولعلنا لا ننسى في هذا المجال أن القيادة الفلسطينية، ممثلة بالرئيس الرحل ياسر عرفات، قدمت التنازل الأصعب والأهم في تاريخ الفلسطينيين بقبولها إقامة دولة لهم على 22 في المئة من أرضهم التاريخية، فما هو المطلوب اكثر من ذلك؟! كما لا ينبغي أن ننسى أن هذه القيادة وافقت في اتفاق اوسلو على وضع قضايا الصراع مع إسرائيل على طاولة المفاوضات، ورهن التوافق المشترك، في تخلّ مجاني ومسبق ومتسرع عن قرارات الشرعية الدولية، وضمنها القراران 181 (لعام 1947) القاضي بإنشاء دولة فلسطينية في حوالى 45 في المئة من ارض فلسطين، و194 لعام 1948 القاضي بوجوب حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم التي هجّروا منها، والتعويض عن معاناتهم وأملاكهم التي فقدوها، أو التعويض عن كل ذلك، وهذان القراران هما في أصل موافقة المجتمع الدولي على الاعتراف بإسرائيل بموجب القرار 273 الصادر عن الأمم المتحدة (1949). أي كان الأجدى للقيادة الفلسطينية، من وجهة نظر الصراع التفاوضي، التمترس عند قرارات الشرعية الدولية، وعند قرار التقسيم، وعند شروط الاعتراف الدولي بإسرائيل، إذ كان من شأن ذلك توفير جهود كبيرة، وقطع الطريق على تملصات إسرائيل وتلاعباتها، ووضعها في مواجهة المجتمع الدولي، ووضع هذا المجتمع أمام مسؤولياته.

نعم لقد تنازلت القيادة الفلسطينية عن كل ذلك، وتسرّعت بعقد اتفاق اوسلو، الجزئي والمجحف والمهين، ومع ذلك لم تكتف اسرائيل بذلك، إذ عملت طوال عقدين على تقويض هذا الاتفاق بطرحها مزيداً من الشروط والاملاءات، بحيث استنزفت الفلسطينيين وأنهكتهم وأشاعت الخلافات بينهم. وقد نجم عن كل ذلك تخلّي حركة التحرر الفلسطينية عن مشروعها الوطني، وعن قضيتها الأساس، التي باتت مختزلة في احتلال 1967، كما عن حقها في الكفاح بمختلف الوسائل لاستعادة حقوق شعبها، وضمنها عزل اسرائيل، ونزع شرعيتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، ناهيك عما نجم عن ذلك من تشوّش مفهوم شعب فلسطين، وضياع التطابق بين قضية فلسطين المطروحة وخريطتها الجغرافية والبشرية.

المشكلة أننا الآن إزاء وضع لم تعد فيه قضيتا فلسطين ومواجهة التحدي الذي تمثّله إسرائيل تحظيان بالاهتمام ذاته الذي كانتا عليه في عقود سابقة، لأسباب عدة، يأتي في مقدمها توطّن نوع من الشعور بالعجز والإحباط والسأم، وتولّد قناعة مفادها أن هذه القضية أو تلك كانت مجرد أداة استخدامية للتوظيف او المزايدة، وأن ثمة أولويات أخرى، أكثر إلحاحاً للمجتمعات العربية للاشتغال عليها، كقضيتي التنمية والديموقراطية مثلاً. ولا شك، أيضاً، في أن ثمة شعوراً بالتعب من القضية الفلسطينية والصراع ضد اسرائيل، يشمل الحكومات والمجتمعات والنخب، يفاقم منه انحسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وإخفاقاتها، في المقاومة والتسوية، وفي الانتفاضة والمفاوضة، وضياع هويتها ومشروعها، مع تحولها إلى سلطة، على جزء من الشعب في جزء من الأرض.

ثمة اشياء كثيرة يمكن الحديث عنها في هذا الإطار للتعبير عن الغضب والنقمة على الواقع الذي أوصل الفلسطينيين إلى هذه الحال، لكن مع ذلك تبقى أسئلة ينبغي طرحها. ومثلاً، هل ما زال لدى الفلسطينيين كشعب قضية حقاً؟ وهل هذه القضية عادلة ومشروعة وتستحق الكفاح بشأنها؟ ثم هل التنازل لإسرائيل يغيّر من طبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، ويجعل منها دولة عادية ومسالمة؟

القصد أن الفلسطينيين ضحايا ولا يملك الضحايا سوى مشروعية حقهم في الدفاع عن قضيتهم العادلة، لا سيما أن المفاضلة المطروحة هي بين السيئ والأسوأ، إذ إن إسرائيل تريد إقامة كيان فلسطيني هزيل، وتحت هيمنتها، بثمن قبول الفلسطينيين شطب ذاتهم كشعب، وإلغاء قضيتهم وحقوقهم بمفعول رجعي، لذلك فإن فشل هذه التسوية أفضل من نجاحها.