خبر القمة والجامعة المال والأهواء والأهوال..علي عقلة عرسان

الساعة 02:38 م|25 مارس 2014

تنعقد القمة العربية الخامسة والعشرون في دولة الكويت 25 ـ 26/ مارس/آذار 2014، وللكويت مساهمات مشهودة ومشكورة في العمل العربي عامة والثقافي والإنساني منه خاصة، وهي حين تكرس جهودها السياسية اليوم لرأب الصدوع في الجسم العربي خلال هذه القمة على الخصوص، إنما تتبع نهجاً ليس غريباً عنها، وتقوم بجهد تحتاج إليه الأمة إيما حاجة، في واقع معروف موصوف بكارثيته، ويفرض على الدول والجماهير العربية التعامل معه بموضوعية ومسؤولية قومية وأخلاقية وإنسانية، بعيداً عن التشاحن والتباغض والكيد وتصفية الحسابات، وتنفيذ أغراض وبلوغ غايات هي لأصحابها من الساسة " وطنية، وقومية، وإنسانية، وأخلاقية، ودينية.. إلخ"، لكنها تكلف الأمة دماً غزيراً ومعاناة لا تحتمل، وتؤسس لمزيد من الضعف والتبعية، وتعود على الشعب والعمران والبلدان والقضايا المصيرية بالدمار والخسران والخذلان.

لا يجوز القول في مثل هذا الوضع وفي هذا الوقت: "إن القمة العربية، بجلال قدرها وتجليات قدراتها، منفصلة عن الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة العربية ويسد منافذ الأمل أمام أجيالها الصاعدة بصورة خاصة"، ذلك لأنه من غير المنطقي أن تكون مؤسسة أو جهة أو فئة أو شخصية ما غائبة أو مغيَّبة عن واقع تصنعه جملة وتفصيلاً بوعي وعلم.. إنما يمكن القول إن القمة تعيش حالة تدخل في تصانيف "الفصام التام" بين ما تقوم به من فعل وما تقدمه من خطاب سياسي يتلفع بالدين والأخلاق.

في العادة يكون الفصام حالة مرضية وفق علم النفس، لكن فصامنا السياسي العربي هو من نوع خاص جداً جداً.. فلا هو المرض ولا هو الصحة، ويترجح في الحال والمآل بين التماهي مع الثأري ـ الغريزي ـ البدائي، والخبث السياسي المعتق، أو يمارس تمويه العجز والتبعية في السياسة باتباع المنهج القائل: " لا أخلاق في السياسة"؟!. وأنت حين تسمع الخطاب السياسي تطرب ويفرفح فيك ما تبقى من أمل على أغصان الروح، وحين ترى الفعل ومرتسمات السياسة على أرض الواقع تعجب من نفسك حيث بلغتَ حد الغباء، وتستطيب أن تلدغ من الجحر ألف مرة مستعذباً اللدغ، وتعجب أيضاً من غيرك حيث يسوِّغ لنفسه أن يتغافل أو أن يفعل وكأنه لا يرتكب ما يُعد ذنباً.. فهل تراك المؤمن، أم المستسلم لمن لا يؤمَن شره و"لا ت حين مناص".؟!

في كل قمة وفي هذه القمة، يتكلمون عن فلسطين وعن مأساة شعبها، وعن القدس والأقصى وما حل ويحل بهما من تهويد وتدنيس، وعن الاستيطان الذي ابتلع الأرض ولم يبق للفلسطيني منها ما يقيم عليها دولته الحلم ـ الأمل، ويشيرون إلى المبادرة العربية "/ بيروت 2002 وإلى أنها قد تسحب من فوق سطح طاولة المعروضات العربية، ويتحدثون عن.. وعن.. وعن.. وفي كل دورة يتحولون عن أخرى إلى جديد إسرائيلي يسوقه أو يفرضه الأميركي، ويبقى حبل التنازلات العربية للكيان الصهيوني على الجرار لكن " بشموخ" عربي.. فحين نتساقط في الهاوية نردد أننا نشعر بالضيق وأن في صدرنا حرَجاً كمن يصَّعَد في السماء؟! وفي هذه الدورة نتعامل مع مطلب " يهودية الدولة" الذي يطلبه نتنياهو ويسوقه كيري بأمر من أوباما؟! ووجه "الفصام" هنا أننا في القمة نصرخ ضد إسرائيل وندينها، بينما ينسق كثير من العرب معها أمنياً وعسكرياً في حرب العرب على العرب، وفي قتل المقاومين ضدها من فلسطينيين ولبنانيين ووصمهم بالإرهاب، وهناك من يتعاون معها من تحت الطاولة ومن فوقها حتى في حصار غزة، وفي إهالة الملح والرمال على جراح 1.853 مليون فلسطيني يعيشون في مساحة 362.7.كم2 معظمها رمال منذ ثماني سنوات، من دون أن يُثار في وجهها الغبار.؟!

ويتكلمون في القمة العربية العتيدة، بتأثر محفوف بالخشوع حتى ليكاد يسيل الدموع، حول مأساة الشعب المزمنة في سورية.. يتكلمون عن قتلاه وجرحاه ومعوقيه ومهجريه ومشرديه، وعن أطفاله الذين خرجت أجيال منهم خارج تاريخ المعرفة لتزيد في أعداد الأمية العربية وفي الفئات المؤهلة للغوغائية والإرهاب والعذاب ما لم يتداركها من يدرك مغبة ذلك على سورية والأمة كلها، ويقولون ما قاله مالك في الخمر عن تدمير سورية ومؤسساتها ومدنها وقراها زآثارها وتراثها، وعن محاولة تقسيمها أو إلغاء وجودها الفاعل.. بينما يلغ كثير من المتباكين في دم الشعب السوري ليل نهار، مشاركاً قتَلَته وظَلَمته قتلهم وظلمهم، ومساهماً في تدمير سورية الشرف العربي والصرح القومي والمواقع الحضارية، وفي نشر الفتن الطائفية والمذهبية فيها، وفي تمدد الإرهاب عبر أرضها وانتقاله منها إلى المحيط الإقليمي.. حيث يتم ذلك على أسس بغيضة وبأفعال مغيظة وبأموال لو وظِّف ربعها لمواجهة الكيان الصهيوني لتم اقتلاعه من الجذور.؟! وبين القادة العرب من يسكت على ما يجري، أو يغمغم بعدم الرضا لأن " ما باليد حيلة" أو لأنه لا يريد أن يغضب في الحق قائداً عربياً آخر.. وهناك في القمة وفي أروقتها من ما زال يكرر الأسطوانة القديمة التي أديرت بعد ثلاثة أشهر تقريباً من بداية الأزمة السورية، حيث يستعيد حالماً اجترار استدعاء مجلس الأمن ليفرض التدخل الخارجي وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو استدعاء حلف شمال الأطلسي والكيان الصهيوني للإجهاز  على سورية بالضربة القاضية، مثيراً مع آخرين يشاركونه المسؤولية عن القتل والجرم والإثم ولا يقلون عنه تطرفاً وقصر نظر، يشاركهم إثارة نعرات وإحياء رسيس معارك قديمة على أرضيات مذهبية مقيتة يتردد صداها من وقعة " الجمل"، إلى "صفّين"، إلى "كربلاء".. إلى .. إلى بقاع أخرى في أرض العرب حيث تتلهب اليوم نار فتن في العراق وفي لبنان وفي اليمن، وفي سورية على الخصوص، ومن آخر مواقدها ما يجري في منطقة كسب وما تم قبل ثلاثة أيام من استهداف واستفزاز في أحياء من مدينة اللاذقية، بحمية تندرج في أقصى منحدرات الجهل والجاهلية، وتثير ما لا تنقصنا إثارته بأي شكل من الأشكال في سورية ذات الجراح وذات التاريخ العامر بالأخوة.

ويتكلمون في القمة العربية العتيدة أيضاً عن الإرهاب، بينما يقوم بعضهم بتغذيته وتسمينه وتوظيفه وتعويمه.. وأساس الداء في هذا المجال أنهم في القمة العربية "مزاجيون" أو " ازدواجيون"، وينسون أو يتناسون ما ذاقوه وما قرروه منذ سنوات بشأن الإرهاب في قمم وفي اجتماعات للوزراء، لا سيما في اجتماع وزراء الداخلية العرب الذي عقد في تونس، إذا لم تخني الذاكرة، واتخذ قرارات باتفاق الجميع، كما يتناسون أنهم لا يتفقون أصلاً على تعريف للإرهاب، وأنهم اختلفوا " نظرياً وعملياً، تنظيراً وتطبيقاً" حتى في تصنيفهم لمن يناصر المقاومة ضد العدو الصهيوني المحتل ومن ناصرها ضد الاحتلال الأميركي ـ البريطاني للعراق الذي أشعل ناراً لم تنطفئ بعد، حيث صنّف بعضهم من دعم المقاومة من البلدان والتنظيمات داعماً للإرهاب ومن رفضها وقاومها مكافحاً له؟!.. ولا يريد كثير منهم أن يتذكر أن الولايات المتحدة الأميركية، التي كثيراً ما تحكم قرارات القمة العربية، تشجع بلداناً وفئات وتنظيمات في بلدان عربية وإسلامية على العمل المسلح تحت ذرائع ومسميات شتى، وتمدها بالدعم وتحث دولاً عربية على دعمها، في أفعال وممارسات ومعارك دموية تدخل في ابواب الإرهاب، بينما تحارب الفئات ذاتها في مواقع وبلدان أخرى حين تقوم بفعل قريب من ذلك بوصفها إرهاباً وتسمي من يدعمها راعياً للإرهاب؟!.. كما ينسون أو يتناسون ان الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني هما من وقف ضد الدعوة التي أطلقتها سورية في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة أوائل الثمانيات من القرن العشرين لعقد مؤتمر دولي يحدد تعريفاً ومفهوماً للإرهاب وعقوبات تفرض على داعميه ومموليه والمستثمرين فيه، وهو الإرهاب الذي ترتفع الشكوى منه بينهم من آن لآخر.؟! إن الدول العربية كلها تجمع على ضرورة محاربة الإرهاب ولكنها لا تتفق على من هو الإرهابي، شأنها في ذلك شأن ما يسمى " المجتمع الدولي"، وربما كانت تتهرب كما يتهرب هو من تحديد مفهوم للإرهاب وتعريف له وفرض عقوبات على المخالفين للقرارات الدولية في هذا الشأن، وتلك الدول المسماه تحريفاً وتزييفاً " المجتمع الدولي"، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، تفعل ذلك لأنها تمارس الإرهاب وترعاه وتستثمر فيه وفق مصالحها وخدمة لاستراتيجياتها، ولأنها تخشى من تصنيف الكيان الصهيوني، كياناً إرهابياً، وفق تعريف قانوني موضوعي محكم، وأن وأن تعدَّ المقاومة ضد احتلاله وعنصريته مقاومةً مشروعة للإرهاب ودفاعاً مشروعاً عن النفس والحق، وفق ما هو متعارف عليه ومعمول به عالمياً وقانونياً، وما هو مستمد من تاريخ الشعوب..؟!

لقد ناصرت دول عربية ما سمته دول عربية أخرى إرهاباً، ودعمت اعتداءات خارج القانون الدولي على دول عربية بتواطؤ مكشوف يتضاد مع ميثاق الجامعة العربية، وذهب بعضهم بالجامعة إلى حد طلب تدخل مجلس الأمن الدولي ودول استعمارية خارج نطاق المجلس والقانون الدوليين، تدخلاً عسكرياً ضد بلدان عربية، وغطت العدوان والتدمير.. ولعب بعضها لعبة الإدارة الأميركية في خلق ما تسميه "الفوضى الخلاقة؟!" في دول عربية لزعزعة كيانها وإضعافها خدمة لإسرائيل وحلفائها، والتقت بعض الدول العربية أيضاً في الأهداف مع الكيان الصهيوني حين تخلت عن المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال، وساهمت في تشويه صورتيهما ونضالهما المشروع، وجرى مثل ذلك من جانب دول عربية حيث تعاونت مع الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني في أحداث جرت أو ما زالت تجري في أقطار عربية أخرى، كما في العراق وليبيا وتونس ومصر واليمن ولبنان وسورية، وسورية.. وسورية.. و.. و.. إلخ..

إن الواقع الكامن في حديث في القمة يتعارض مع التصرفات والقرارات والممارسات والسياسات الجاري تنفيذها على أرض الواقع، يجعلنا نزداد كرباً على كرب، وغماً على غم، ولا يكفي معه التوصيف بأنه حديث يشي بحالة "الفصام" القائمة عملياً بين الخطاب السياسي والعمل السياسي العربيين، ذلك لأن الأدهى الأمر من الفصام ومن المرض أو التمارض، هو خيارات سياسية واعية لأغراضها ولمدى تدميرها للعلاقات العربية ـ العربية، ولأقطار عربية، ولمصالح عليا للأمة تتصل بالحقوق والمصير والوجود.. إن ذينك الحديث والحدث يشخصان فصلاً ماساوياً يضاف إلى الفصول الماساوية الدامية التي تجري على الأرض في أقطار وترفع رؤوسها في أقطار أخرى.. وهو مما يخرج كلياً على ميثاق الجامعة وأهداف مؤسسة القمة والمرتجى منها، وهو يؤسس ـ بكل أسف ـ للضعف والضغائن والعداوات، ويرسخ مزيداً من التمزق والتشرذم والانقسام، وينشر الموت والدمار والحقد والعنف والإرهاب والفتن في الوطن العربي ربما لأجيال لا سمح الله.. وكل ذلك لا يخدم سوى أعداء الأمة العربية وعلى رأسهم الكيان الصهيوني..

ويبدو أنه من غير الواقعي أو المعقول التطلع إلى رأب الصدوع المأمول، مع رسوخ كل هذا التشبث بالخيارات غير البناءة وغير السلمية، من قادة ثبت لديهم أن ما كان منهم طوال سنوات في هذا الاتجاه لم يؤسس للألفة والقارب والتعاون ولا للقوة المنشودة لتعزيز موقف الأمة وحقوقها وحماية مصالحها في عالم لا يحترم إلا من يملك قوة، ولا هو أسس للحق والعدل، ولا لاحترام الحقوق والحريات والناس والمصالح البشرية ذاتها في الحياة.. وأن الجامعة التي وضعت ميثاق الدفاع العربي المشترك عام 1952 لم تخطو على طريق تنفيذه خطوة واحدة تستحق التسجيل في تاريخ ذلك القرار وملفه الفارغ أو شبه الفارغ إلا من وثيقة التوقيع عليه، بل تراجعت الجامعة عن ذلك إلى الحد الذي أصبحت معه عقبة في طريق اختيار التحرير، وغطاء للعدوان على الأقطار العربية، وبؤرة ستعار الحلاف فيها، ولاستعداء أعدائها عليها ولطلب التدخل الخارجي في شؤونها تحت مشبَّهات ومشتبِهات ومشبوهات من النوايا والآراء والأقوال والأهداف والقرارات.. وأن المؤسسة الجامعة لم تعد مؤسسة ولا جامعة، وأن صفتها العربية ومنطلقاتها القومية بدأت بالتآكل والتآكل والتآكل إلى حد التساؤل عن وجود لتلك الصفة أصلاً، أو عن واقعية المطالبة بشيء من ذلك.. وأن أهداف الجامعة ومواقفها حيال العدو الصهيوني المحتل، وحيال القضية المركزية في النضال العربي الحديث، قضية فلسطين ـ  ولا نتكلم هنا عن التعاون والتكامل العربيين وصولاً إلى الوحدة العربية ـ أن ذلك أصبح من أحلام الماضي التي ترفضها "يقظة الجامعة" في سنواتها الأخيرة على حقيقة أنها صاحبة مبادرات للتنازل عن الحق العربي في قلسطين، وستار يسدل ليغطي ضغوطاً على المقاوم ومن يتمسك بالتحرير وبحق تقرير المصير وبميثاق الجامعة وأهدافها الأساسية، وأنها لا تحل مشكلة عربية إلا بالدم أو باستعداء من يسفك الدم، وأن قرارها بيد من يدفع على قاعدة من يملك يحكم..؟! وهذا مؤلم ومخيب للرجاء لأشخاص كثر يرون أن الجامعة كان يمكنها أن تحل تعالج الأزمة السورية بالحكمة، وأن تسعى لحلول حكيمة لكن.. لكن.. ما كان هو أن الجامعة فشلت في الحل ونجحت في أن تكون مجمع الأهواء والأموال والأهوال.

 ولقد سمعت جملة من وزير خارجية بعض الدول العربية الذي رافق تحركات الجامعة العربية ومواقفها خلال السنوات الثلاث الماضية، رأيت أن فيها تشخيصاً للداء وفيها لمن يستنتج منها مخرجاً ملائماً، إن أردنا للجامعة الشفاء مما فيها من أدواء، بتطبيق ما يقره الميثاق بأمانة وحصافة والتزام مسؤول ورصانة. قال ذلك الوزير جملةً واحدة: " إن الحاكم في الجامعة هو المال..".. ورحم الله ذلك الصوفي الذي دفع حياته ثمناً حين وضع دنانير تحت قدمه وقال في جمع من الناس: "إن دينكم وما تعبدون تحت قدمي هذا".. فكان جزاؤه أن قتلوه، ظناً منهم أنه كفر، وما كان إلا مشخِّصاً لبعض الداء.

دمشق في 25/3/2014

علي عقلة عرسان