خبر حصون العمران وقلاع الهمم ..علي عقلة عرسان

الساعة 08:04 ص|23 مارس 2014

من أي المداخل يمكن التسلل بأمان إلى القلعة، سواء بناء عاصماً، أم أكان اسمها مثل سورية ذات القلاع الشامخات الكثيرة المثيرة، أم إحدى قلاعها التي تزيد عدداً على الستين قلعة بين صغيرة وعملاقة يضاف إليها عدد من الحصون والصروح المعمارية التي تقارب الحصون، ومن تلك القلاع نذكر: قلعة الحصن، قلعة صلاح الدين في دمشق ونظيرتها في حلب، وقلاع بُصرى، المرقب، المضيق، الرحبة، جعبر، جبلة، شيزر، مصياف، القدموس، أرواد، الخوابي، سليمان.. إلخ؟! ونتذكر الكثير مما هو مؤلم ومثير بشأن بعض هذه القلاع اليوم، إبان الأزمة/ الحرب التي دخلت عامها الرابع في سورية، وويخيم فوقنا شبح الخراب الذي رافقها ونتج عنها/ ولم يستثنِ بشراً ولا حجراً ولا شجراً..

وآثار سورية كثيرة، شأن الكثير منها شأن الأحياء القديمة والأسواق والمباني والمعالم الآثرية في مدن ومواقع تعرضت وتتعرض للتدمير، جزئياً أو كلياً، أو للتشويه أو للسرقة؟! وسورية ذات التاريخ والآثار التي تعود إلى آلاف السنين منذ الألف السابعة قبل الميلاد حتى اليوم، هي "متحف في الهواء الطلق" كما يقول عنها بعض المهتمين بالآثار والتصوير من أبنائها، وقد تعرض وجهها الجميل لما هو أكثر من التشويه، كما أصاب التشويه صورو الدولة وصورة شعبها، فأساء ذلك إليهما بين الدول والشعوب.. ولكنها تجهَد ويجهَدُ شعبها آناء الليل وطول النهار في كل وقت، منذ اندلاع نار الأزمة بعد العسْكَرة الممينة، وتفعل كل ما بوسعها لتستعيد ذاتها وقسماتها، وتقف على أرض الأمن والاستقرار لتبدأ من جديد مرحلة البناء والترميم، بناء الإنسان قبل العمران وترميم الذات والمنشآت.

سورية الدولة تتقدم شيئاً فشيئاً نحو الأهداف المشروعة المنشودة بثقة، يتسارع خطوها أو يتباطأ حسب المعطيات والظروف والتحركات على أرض الواقع، في معركة تتعدد فيها القوى والمواقع ومحكومة بالسياسة وبالمحافظة على حياة الناس. بالأمس كان رفع العلم السوري على قلعة الحصن من قبل الجيش العربي السوري إشارة إلى استعادة السيطرة على هذا الحصن الحصين، بعد الزارة ومناطق حساسة في القلمون آخرها يبرود، ليكون ذلك تأميناً للتواصل الآمن بين دمشق وحمص والساحل السوري في شبه إلاق تام للاحتراقات من الحدود اللبنانية، وجاء بعد ذلك مباشرة هجوم عبر الأراضي التركية من ثلاثة محاور على منطقة "كَسَبْ" الجميلة في أقصى الشمال الغربي من البلاد، عند السفوح الجنوبية الغربية لجبل الأقرع المحاذي للحدود التركية والبحر المتوسط، وهو إحدى قمم جبال لواء اسكندرون الذي استولت عليه تركيا بتواطؤ مع المحتل الفرنسي عام 1938.. وأنت، في هذا المناخ الزئبقي لا تستطيع أن تعلن التوازن التام على أرض صلبة كلية الثبات، فإذا كنت تضع قدماً في ذروة شموخ الصلب من الأرض فإن عليك أن تحسب حساباً للقدم التي قد تغرق في الوحِلِ الرجراج منها.. لكن أن تكون في الشوامخ من الذرا وترى مواقع الخطو في السهول والوديان أفضل لك من أن تكون في المهاوي وتتطلع إلى الذرا عبر المنحدرات والمستنقعات.. أقول هذا وأنا على عتبه قلعة الحصن في ذروة مادية وأخرى معنوية، أستشرف منهما بعض ما يصل إليه البصر من محيط جغرافي مديد لأرض سورية ما زالت في غبش الفجر تنتظر إشراق الشمس.

قلعة الحصن ذروة، ليس من واقع الجغرافية والمعمار والتاريخ فحسب، بل من حيث العزم البشري والهمة والرؤية والتطلع الذي يعطي للمكان والعمران والتاريخ معانيه عبر عصور وأمكنة.. وهنا في سورية والحصن حالة خاصة من التجليات حيث ينظر أناس كثيرون إلى إن ينجلي غم المأساة وعتمتها عن آفاق وآفاق لتنير الشمس الوجوه والقلوب والعقول بعد الجبال والوديان والحقول.

وأجدني منساقاً إلى وقفة قصيرة جداً، هي لمحة، مع هذه القلعة الذروة، قلعة الحصن مبنى ومعنى، في هذه الظروف العصيبة.. يقال أنها أقيمت على أطلال قلعة «شبتون»، أقامها رمسيس الثاني في القرن الخامس عشر قبل الميلاد عندما غزا سورية، لكن المعطيات التاريخية تشير إلى أن أمير حمص نصر بن صالح المرداسي الملقب بـ" شبل الدولة"، وضع أساساتها عام 1031م في أثناء صراعه مع الفرنجة، وفي ذلك الحين أحضر إليها حامية كردية أقامت فيها، فسميت حصن الأكراد.. واحتلها الفرنجة عام 1110م وبقوا فيها حتى حررها الملك الظاهر بيبرس في العصر المملوكي عام 1271م، وقد أخذت اسم " قلعة الحصن Krak des Chevaliers في القرن التاسع عشر، بناء واستمرارأ فيما يبدو لتسميتها بمشفى الفرسان بعد أن احتلها الصليبيون.. وفي عام 2006 م سُجلت القلعة على لائحة التراث العالمي إلى جانب قلعة صلاح الدين الأيوبي. وهي تقع على قمة جبل يرتفع نحو 750 م فوق سطح البحر، وتشرف من كل الجهات على المنطقة الواسعة التي تحيط بها.

أذكر ذلك وأنا في غبش الفجر بين غشية ونشوة، يتانوبني الألم والفرح، الألم من جراح بعد جراح والفرح لرؤية فجر لاح فيه انتظار لشروق أخاذ ينشر الأمن والاطمئنان في الأرض والأنفس.. وأراني كأنني طائر جريح سُمِّر أحد جناحية في الأرض وبقي الأخر طليقاً يرتفع في الجو ويشقعُ منه الدم، ممطوطاً بين كسر وجبر، "هزيمة ونصر"، وبين معركة ومعركة.. بين قلعة الحصن المشرفة على الذرا تبشر بالصباح، وسفوح الجبل الأقرع المشرفة على أجمل بقاع من أرض سورية العطاء تصفر بصرصر الرياح.. آه يا وطني يتشظَّى بين خنجر مسموم وسيف مسلول، يهدأ آناً ويفزع آناً.. وينتثر دمه في كل آن.. ومع ذلك التشظي والفزع والألم الذي طال لا يبدو أن من يضربون جسده ويقطعون لحمه وينثرون دمه مقبلون على  معقول ومقبول ومسؤول من الأمر والموقف، بل تراهم يندفعون ويدفعون باتجاه الهاوية بعد الهاوية، غير معتبرين بما يشكل أكبر العبر للعاقلين من البشر.

في الجنوب كما في الشمال، وفي الغرب اليوم كما في الشرق منذ أمس، تقوم في سورية واقعة بعد واقعة، ويتم الاستعداد لواقعة بعد واقعة.. والأفق الدولي الذي ارتبطت به الأزمة السورية، عقداً وحلاً، يتلبد ويتلبد، ويزداد تعقيداً على تعقيد بعد الأزمة في أوكرايينا وعودة شبه جزيرة القرم إلى أحضان روسيا الاتحادية بعد " تبرع" نيكيتا خروتشوف بها لأوكرايينا عام 1954، وتبادل الغرب وروسيا التهديد والوعيد والعقوبات التي لا يحسن الأميركيون لغة سواها إلا العدوان والتدمير.. وهو الأمر الذي يشي بمزيد من العنف والموت والدمار والتعقيد.. إن لم يصح أهل البيت السوري وأبناء الأمة العربية الذين ينخرطون دموياً في الشأن السوري، ويمضون إلى المدى الأبعد في الاحتراب والعنف والعسكرة والإرهاب.. على حقيقة أن هذا مدمر لهم ولغيرهم، وأن هذا الذي أمات ويميت وأرعب وأرهب في سورية لا يلبث أن يقرع أبوابم ويطالهم في صياصيِّهم وتحصيناتهم بيد لا ترحم، يدٍ تستسهل القتل وتلتمس لها عذراً وفتوى في ذلك كل ما تشاء من فعل.. وأن هذه الكاس المسمومة دوارة، والدهر يوم لك ويوم عليك.

في الجنوب من سورية السياسية اليوم، لا سورية الطبيعية، بلاد الشام.. وفي الجزء الشمالي من حوران الذي غدا "سورياً" بإرادة استعمارية، فرنسية ـ إنكليزية، تتصاعد الأزمة السورية مستندة إلى ما تُعَدُّه " المعارضات" وحلفاؤها في الجزء الجنوبي من حوران الذي غدا أردنياً بإرادة استعمارية، إنكليزية ـ فرنسية أيضاً.. لحسم الحرب لمصلحتها، ويدخل في هذا الإطار استفزاز الكيان الصهيوني وعدوانه على قطع عسكرية سورية في الجولان، يشملها اتفاق وقف إطلاق النار القائم منذ عام 1974 ولا نعرف هلى سينتصر العقل والمصلحة العليا للشعب الأردني في الحراك السياسي الأردني الرسمي، فيلجم الحرب التي إن وقعت من أراضيه أو عبر أراضيه أهلكت في الجانبين واستمرت عقابيلها بينهما سنوات وسنوات، أم أنه سيراعي المصلحة الأردنية العليا والجوار السوري، فينظر إلى أبعد من تقريش القروش المؤدي إلى تكديس النعوش؟!

الكيان الصهيوني لن يتورع عن الفعل العدواني ضد سورية، وهو فعل تعبر عنه طبيعته وهو ما أدمنه طوال عقود من الزمن من دون وازع ولا رادع، وسوف يزداد الصهيوني شراسة بوجود " سوريين" وعرب ينسقون معه ويحرضونه ويستدعونه للتدخل العسكري في الشأن السوري، وهو لن يتورع عن الفعل المباشر وغير المباشر في هذا المجال، ونحن نعلم أنه يقرع أجراس الحرب مدعياً العزم على مهاجمة إيران، ولكنه يدرك أنه يخطط لمعركة واحدة.. ولا يؤخره عن الإعلان عن العدوان الأوسع ضد سورية سوى حسابات داخل معسكر العدوان بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تؤدي إلى اتخاذ القرار الاستراتيجي بهذا الشأن، وإلى تحديد ساعة الصفر في ضوء ما يتخذ من قرار بالعدوان لا سمخ الله. ومن المؤكد أن يبحث الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي سيزور السعودية قريباً هذا الأمر ويطرح رؤيته الاستراتيجية على مسؤولين فيها وفي سواها من البلدان المتحالفة معه أو المشتركة في التنسيق بشأن الأزمة/ الحرب في سورية.. فهل سيتغير الرأي والموقف والسياسة حيال الوضع الراهن في سورية في ضوء التطورات الأخيرة بين الغرب وروسيا في ضوء قراءة المشهد الدولي المحيط بالأزمة والفاعل فيها وما يجري في أوكرايينا، وما تم بشأن شبه جزيرة القرم التي عادت روسية، وفي اتجاه سيكون التغير أو التطور؟! هلى للحسم العسكري أم القبول بوضع تحسمه الانتخابات في سورية ويتم القبول بنتائجه لمدى ولو على مضض؟! إن إشارات مثل أغلاق السفارة السورية والقنصليتين الفخريتين اللتين لسورية في الولايات المتحدة الأميركية وكذلك التصعيد الكلامي غير المسبوق الذي عبر عن مواقف بعبارات مستهجنة في مجلس الأمن الدولي بين مندوب الولايات المتحدة الأميركية "السفيرة" سامانتا باور والسفير فيتالي تشوركين مندوب روسيا في المجلس، تلك التي تلخَّص في ذروتي الكلام المقتبس، حيث قالت سامانتا باور:"يستطيع اللص سرقة شيء ما ولكنه لا يحصل على الحق في تملك هذا الشيء"، ورد عليها السفير فيتالي تشوركين قائلا "نرفض رفضا قاطعا العبارات غير اللائقة" و"إذا كان وفد الولايات المتحدة الأميركية يأمل في تعاوننا في مجلس الأمن في المسائل الأخرى فينبغي أن تستوعب السيدة باور ذلك".. وهذان المؤشران لا يؤديان إلى استنتاجات إيجابية ولكنهما لا يمنعان قيادات استراتيجية عليا من اتخاذ مواقف مسؤولة تؤدي إلى عدم وصول الخلافات إلى مواجهات ساخنة.. وهذا آفضل ما يمكن أن ينتظر أما الأسوأ فمعروف.

إن سورية الشعب والجيش، مهما كانت عصية على الكسر وحصينة ذات قلاع من همم وعمران كقلعتي الحصن وصلاح الدين، فإنها تحتاج إلى أن تحقن دم بنيها ويرتفع عنها سيف افرهاب، وأن تنعم بالأمن والاستقرار بعد كل الذي أصابها.. إنها تنزف وتخسر يومياً منذ ثلاث سنوات وهذا أكثر من حدود الاحتمال.. ومن حقنا أن نتطلع إلى وقف نزيف الدم، ووضع حد للعنف والإرهاب، وعودة إلى حضن البيت والوطن بأمن من جوع وخوف.. ومن حقنا على كل كل ذي مسؤولية وعقل وضمير في العالم أن ندعوه إلى العمل من أجل الحق والعدل والسلم، وإلى أن يقف ضد العدوان الموسع " المنتظر حصوله"، وضد التحريض والإعداد والاستعداد لمعارك ضد الشعب السوري والدولة السورية، وهي معارك أينما وقعت وكيفما كانت نتائجها، ستؤدي إلى مزيد من النزف والضعف والقتل والدمار والخراب وفقدان الأمن.. إننا نحتاج إلى كل جهد، وكل فعل، وكل كلمة، وكل موقف.. يساعد على حقن الدم ووقف العنف وتوقف الإرهاب والرعب والدمار والخراب والاحتراب.. ومن حق الإنسان علينا ومن واجب الإنسان فينا أن نفعل ذلك وندعوا إليه.. فهل ترانا نفعل ونفلح من موقع الإخلاص والمسؤولية.. أم أن الأمل في العقل والضمير والفعل الإنساني البناء قد غدا في جملة المستحيلات، ورفع عددها إلى أربع حسب عدِّ العرب: الغول والعنقاء والخل الوفي والإنسان ذو العقل والضمير والمسؤولية عن الإنسان؟! ألا فلنفعل الخير ولنقم بالمسؤولية في وقت الشدة، فإن ذلك مثل حصون القلاع إن لم يكن خيراً منها، وهو من قلاع الهمم..

ألا ولنصبر لنصل فإن ذلك من عزم الأمور.

دمشق في 21/3/2014

 علي عقلة عرسان