خبر يهوديّة إسرائيل ..هاني المصري

الساعة 11:35 ص|11 مارس 2014

بدأت القصة منذ نشوء الحركة الصهيونيّة وعقدها العزم على إقامة وطن قومي لليهود في «أرض الميعاد»، أي في فلسطين، على حساب أهلها الأصليين، أي الشعب الفلسطيني. وأخذت القصة بُعدًا عمليًا مع أول هجرة يهوديّة إلى فلسطين. ثم أخذت بعدًا خطيرًا عندما صدر «وعد بلفور» في الثاني من شهر تشرين الثاني من العام 1917، الذي أعطى فيه من لا يملك إلى من لا يستحق. واكتملت الدائرة عندما أنكرت الحركة الصهيونيّة وجود الفلسطينيين ورسّخت بين أنصارها مقولة (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب). وحتى عندما اعترفت إسرائيل بالشعب الفلسطيني عن طريق الرسائل المتبادلة التي تزامنت مع توقيع «اتفاق أوسلو» في العام 1993؛ جاء ذلك بشكل موارب عن طريق الاعتراف بالمنظمة بوصفها ممثلا للشعب الفلسطيني من دون الاعتراف بحقوقه، بينما اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود والعيش بأمن وسلام.

وتواصلت القصة وأخذت بعدًا تراجيديًا عندما أصدرت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة القرار 181، الذي قسم فلسطين إلى دولة يهودية خصص لها نحو 55% من الأرض، ودولة عربيّة خصص لها نحو 44%، بينما خصص الباقي لمنطقة القدس التي نص قرار التقسيم على أن تكون دوليّة.

وبالرغم من أن إسرائيل اعتبرت نفسها دولة يهوديّة وتمثل الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم، إلا أنها لم تطرح مطلب الاعتراف بها دولة «يهوديّة» كشرط لأي اتفاق إلا أثناء انعقاد مؤتمر «أنابوليس» في أواخر العام 2007.

هناك من بين الفلسطينيين من اعترف بإسرائيل كدولة «يهوديّة» من خلال توقيع «اتفاقيّة جنيف» بين إسرائيليين وفلسطينيين في العام 2003، بينهم أمين سر منظمة التحرير الحالي، الذي يعلن الآن رفضه ليهوديّة إسرائيل من دون أن يعلن تخلّيه عن هذه الاتفاقيّة التي نصت على «حق كل من الشعبين الفلسطيني واليهودي في دولة». ولا يغيّر من بشاعة هذا الاعتراف ما جاء بعد ذلك من عبارة تحدثت عن «عدم الإجحاف بالحقوق المتساوية لجميع المواطنين في كل من الدولتين». فوعد بلفور نصّ أيضًا «على ضرورة أن نفهم جليًا أن لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدينيّة التي تتمتع بها الطوائف غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين»، ورأينا كيف أن هذه الجملة لم تساعد، بل غطت على اقتلاع الفلسطينيين وتشريدهم وارتكاب المجازر بحقهم. إذ عندما يصبح أصحاب البلاد دخلاء تتم المطالبة بعدم الإجحاف بحقهم، فهذا يعني فتح الباب لاستباحتهم.

هناك من يدعو من الفلسطينيين سرًا إلى بق البحصة من خلال بعث رسائل إلى الرئيس تطالبه بالاعتراف بإسرائيل كدولة «يهوديّة»، أو التوصل إلى حل وسط، وبعضهم توقع ـ والحمد لله أنه ليس مقربًا من الرئيس هذه الأيام ـ أن يتم الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهوديّة وفقًا لما جاء في خريطة الطريق التي تنص على أن الحل يجب أن يتضمن إقامة دولتين: واحدة يهوديّة وأخرى فلسطينيّة.

ومنهم من أخذ يدعو علنًا إلى عدم الرفض التلقائي للاقتراح بالاعتراف بيهوديّة إسرائيل، والقيام قبل ذلك بفهم تفسير الدولة اليهوديّة وتوضيح تبعاتها (وكأن هذا ليس واضحًا)، ومدى وجود غطاء قانوني لها وما إذا كان اعتراف الفلسطينيين بالدولة اليهوديّة يعني أنه لا يحق لغير اليهود العيش فيها.

مثل هؤلاء الفلسطينيين الذين يحدثون تصدعات في موقف الإجماع الفلسطيني إزاء الاعتراف بيهوديّة إسرائيل يراهنون على أنهم، بهذه الطريقة، يلقون الكرة في الملعب الإسرائيلي ويحرجون اليهود.

حجة هؤلاء تنازلات القيادة الفلسطينيّة، خاصة بالنسبة لقضيّة اللاجئين، وأن اليهود مختلفون على تفسير هذا المطلب، وعلى موقع الفلسطينيين في هذه الدولة، وما إذا كانوا سيُهجرون طوعاً أو قسراً أو يُقبل بوجودهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، أو يُعتبرون أقلية تُمنح حقوقًا متساويّة في دولة لكل مواطنيها.

إذا أقدمت القيادة الفلسطينيّة على الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي أينما كان، مثلما تطالب الحكومة الإسرائيليّة، مقابل قيام دولة فلسطينيّة على جزء من الضفة ومن دون معظم القدس، أو محرومة من قدرة على استيعاب الشعب الفلسطيني كله؛ فإنها تتبنى الرواية الصهيونيّة للصراع، التي تستند إلى أن فلسطين هي «إسرائيل»، وقد حررها اليهود لإقامة دولتهم الموعودة من أجل إقامة هيكل سليمان الثالث، وهذا يعني أن الضحيّة الفلسطينيّة تعطي الشرعيّة للجلاد الذي لن يعوضه ولن يكفيه اعتراف العالم كله الذي لا يعادل اعتراف الشعب الفلسطيني به؛ لذلك تعطي حكومة نتنياهو كل هذا الاهتمام للاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة «يهوديّة».

كما لا تقتصر خطورة هذا الاعتراف على تزييف الماضي وما يعنيه ذلك من إقرار الفلسطيني بأنه كان على خطأ منذ البداية، وإنما في كونه يفتح الطريق واسعًا لإسقاط حق اللاجئين في العودة، وحق الشعب الفلسطيني في الداخل بأن يعيش حرًا ومتساوياً مع من اغتصب أرضه، كما يفتح الطريق لاستمرار نظام التمييز والفصل العنصري ولطرد من تبقى من فلسطينيين، بعد أن تكون قيادتهم قد اعترفت بأنهم غرباء ومحتلين وجاء اليهود لتحرير أرضهم منهم.

المطلوب أولاً هزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري، وبعد ذلك يمكن الاعتراف بالحقوق المتساويّة للشعبين. أما التعلق بأذيال قرار التقسيم الذي نص على قيام دولة «يهوديّة»، فالرد عليه يكون أن القرار كان يتحدث عن اليهود في فلسطين وليس دولة لليهود أينما كانوا. كما أن الدولة اليهوديّة كانت ستضم 498 ألف يهودي و407 آلاف عربي، بينما كانت الدولة العربيّة ستحوي 725 ألف عربي و10 آلاف يهودي، فيما كانت القدس وضواحيها ستضم وفق قرار التقسيم 100 ألف يهودي مقابل 105 آلاف عربي. فمن يتحدث عن قرار التقسيم عليه أن يأخذه كله وليس أن ينتقي جزءًا منه.

وما له دلالة في هذا السياق أن نص الاعتراف الأميركي بإسرائيل كان يتضمن كلمة «يهوديّة»، فقام الرئيس الأميركي حينذاك هاري ترومان بشطبها بخط يده واستبدالها بكلمة إسرائيل، ما يدل على أن مسألة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة كانت مرفوضة حتى من أقرب حلفائها، على عكس ما يمارسه الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما الذي يدعم المطلب الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل دولة «يهوديّة»، مخالفًا الدستور الأميركي والقيم الديموقراطيّة التي من المفترض أنها ترفض العنصريّة والتمييز على أساس الدين.

إن تكرار الحديث من قبل الرئيس أبو مازن عن استطاعة إسرائيل أن تسمي نفسها دولة «يهوديّة»، وأن الفلسطينيين يمكن أن يعترفوا بها على هذا الأساس إذا اعترفت بها الجامعة العربيّة أو الأمم المتحدة، والموافقة على حل متفق عليه لقضيّة اللاجئين وتخييرهم الشكلي في خيارات، من ضمنها خيار العودة إلى ديارهم «إذا وافقت إسرائيل»؛ يتناقض مع التأكيدات الفلسطينيّة المستمرة التي يكررها أبو مازن حول عدم الاعتراف بيهوديّة إسرائيل، فمثل هذه القضيّة ستبقى مرفوضة من الفلسطينيين حتى لو اعترف العالم كله بها، ومثل هذه المواقف تشجع من يريدون كسر الموقف الفلسطيني الرافض لتبني الرواية الصهيونيّة للصراع.