خبر لماذا قضية فلسطين في خطر؟../ علي جرادات

الساعة 05:28 م|19 فبراير 2014

يعلم الجميع أن إنشاء إسرائيل والاعتراف الدولي بها في العام 1948 ثم تمددها على كامل مساحة فلسطين، عدا احتلال الجولان السوري وسيناء المصرية، في العام، 1967، لم يكن ليكون لولا ما حظي به المشروع الصهيوني من رعاية قدمتها-تلبية لمصالحها- دول الاستعمار الغربي التي ورثت الولايات المتحدة قيادتها عن "بريطانيا العظمى" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويعلم الجميع أيضاً أن "وعد بلفور"، 1917، الذي أسس لقيام إسرائيل كان جزءاً من مخطط تقسيم الوطن العربي باتفاقية سايكس بيكو، 1916. ويعلم من شاء ومن أبى من العرب أن قضية فلسطين قضية عربية في عمقها وأنها- لا تداعياتها- جوهر الصراع العربي الصهيونى. ونعلم- شئنا أم أبينا- أن تسوية الصراع لا تعادل إنهاءه ووضع حد للمطالب المترتبة عليه، بل تغيير أشكاله وحدته بصورة جوهرية وإلى أجل مفتوح المدى يصعب التنبؤ به بدقة.

وليس اكتشافاً للنار القول إن فكرة تسوية الصراع بالمعنى المشار إليه أعلاه لن تتحول إلى واقع طالما ظلت أسلحة جنود إسرائيل وأنياب جرافاتها وأعمدة فكرها الصهيوني الخرافي هي ما يحدد حدودها. وبالمثل ليس اختراعا للبارود الجزم بأن فكرة "السلام العادل الدائم والشامل" لن تتحول إلى واقع طالما ظلت المنظومة الأيديولوجية الصهيونية العدوانية التوسعية هي ما يحكم إسرائيل ويتحكم بها سياسياً ومجتمعياً وعسكرياً وأمنياً وأخلاقياً.

وفي ظني أن بوسع سالف القول-الحقائق- الإجابة على الأسئلة المحورية لراهن الصراع من حيث:

* أولاً: لماذا لم يفض تراجع الأنظمة الرسمية العربية عن أداء واجبها القومي تجاه القضية الفلسطينية- على الأقل منذ "مؤتمر مدريد للسلام"- 1991، إلى نجاة الحالة العربية من تداعيات استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ فها هي تغرق اليوم من أذنيها حتى أخمص قدميها في صراع داخلي دموي متعدد الأوجه والأبعاد ينذر بلا تطير بتفكيك الدولة القُطرية العربية لا لمصلحة بناء وحدة قومية بل لمصلحة التمزيق بأشكاله: الرسمي في السودان أو الواقعي في ليبيا والعراق أو الفيدرالي بين أقاليم كما تقرر في اليمن ويُراد في سوريا ويفشل في مصر. وبالتحليل المنطقي وحده يمكن الجزم بأن الدائر في مراكز القوة العربية من تقتيل وتذبيح وتخريب وفوضى تنفذه جماعات التكفير والتمزيق الديني والطائفي والمذهبي هو مظهر لجوهر مخطط ترعاه وتموله وتسلحه دول بقيادة الولايات المتحدة ووكلائها في المنطقة، ويقع في صلب أهدافه تعزيز مكانة إسرائيل وتفوقها وتسهيل طريق محاولات تصفية القضية الفلسطينية باسم تسويتها. إذ كيف لعاقل أن يصدق أن بوسع هذه الجماعات الإرهابية التكفيرية أن تحوز بجهد ذاتي أموالاً طائلة وترسانة عسكرية هائلة وطاقة بشرية كبيرة وواسعة الانتشار من دون أن يكون هناك دول تمدها بالمال والسلاح والدعم السياسي والإعلامي.

* ثانياً: لماذا لم يلاقِ القبول الفلسطيني لمدة 20 عاماً بتقسيم المفاوضات إلى مراحل وفقط لتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية قبولاً إسرائيلياً بالتخلي عن أيٍ من المطالب الصهيونية المطلوب اليوم من الفلسطينيين والعرب عموماً التسليم بجوهرها وناظمها الأساس: الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي"؟ ما يفسر ما يعيشه العامل الوطني الفلسطيني من حالة تراجع شاملة عنوانها الأساس انقسام داخلي مدمر يبث كل أشكال الإحباط واليأس في أوساط الحالة الشعبية المثقلة بجرائم الاحتلال واستباحاته بينما لا تتوافر في المدى القريب- على الأقل- إرادة سياسية جادة لطي صفحته السوداء التي دون طيها، يغدو مجرد كلام بلا طائل وفارغ من كل مضمون الحديث عن توفير الحد الأدنى من القوة الوطنية القادرة على مواجهة التصعيد السياسي والميداني الإسرائيلي بدعم لا لبس فيه من الإدارة الأميركية.

* ثالثاً: لماذا كل هذا الإصرار الأميركي على استغلال راهن الحالتين القومية العربية والوطنية الفلسطينية  لفرض حل لا يلبي أدنى الأدنى من الحقوق الفلسطينية؟ وهذا ظاهر للعيان فيما يتسرب من بنود "اتفاق إطار" سيطرحه كيري قريباً في ظل صمت رسمي عربي مريب وتأييد "اللجنة الرباعية". اتفاق مطلوب تبليعه للفلسطينيين كأساس للتفاوض بحيلة: "وافق وتحفَّظ وفاوض"حكومة "الاستيطان والمستوطنين" بقيادة نتنياهو-ليبرمان-بينت المتكئة على ضعف الحالتين العربية والفلسطينية وعلى يقين معرفتها أن الولايات المتحدة التي تملك منفردة أوراق الضغط عليها لن تمارس ضغطاً فعلياً عليها يجبرها على تقديم تنازلات سياسية ذات مغزى. ذلك رغم ما أطلقه كيري مؤخراً من تصريحات أثارت حفيظة أكثر قادة إسرائيل يمينية وتطرفاً وتشدداً فحواها: أن فشل المفاوضات يمكن أن يعرِّض إسرائيل لحملة مقاطعات دولية هي ليست بحاجة لها، ملمحاً بذلك إلى ما تشنه ضدها جهات غير رسمية في دول الاتحاد الأوروبي من مقاطعة اقتصادية وأكاديمية بسبب غطرسة سياستها الاستيطانية. فتصريحات كيري هذه تبقى ذراً للرماد في العيون وشكلاً آخر لاستدراج الفلسطينيين إلى الموافقة على ما سيقدمه من "اتفاق إطار" طالما أن هذه التصريحات جاءت مقرونة بالضغوط السياسية الفعلية التي تمارسها الإدارة الأميركية على السلطة الفلسطينية، وبالتهديدات المباشرة التي يطلقها الكونغرس الأميركي بقطع المساعدات عنها وفرض العقوبات عليها، وبالتبني الأميركي الرسمي العلني لمطلب الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود "دولة للشعب اليهودي. هذا ناهيك عن أن الآمال المعقودة على تطوير المقاطعة الأوروبية لإسرائيل إلى مقاطعة تشبه مقاطعة نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا هي مجرد أوهام طالما ظلت في إطار تبعية الاتحاد الأوروبي لسياسة الولايات المتحدة الدولية عموماً والشرق أوسطية خصوصا، وفي إطار غياب استعداد عربي وفلسطيني لاستخدام أدنى أوراق القوة لتطوير مقاطعة إسرائيل وتوسيعها. هذا ناهيك عن تزايد منسوب التطبيع العربي المجاني بأشكاله منها ما هو معلن، وما خفي أعظم.

على ما تقدم صار الشعب الفلسطيني وفصائل حركته الوطنية بعامة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بخاصة أمام مرحلة لم يعد بالمقدور مواجهة تحدياتها وتلبية استحقاقاتها وإحباط مخاطرها بتكتيكات تصلح لمعالجة لحظة. أما لماذا؟ لأن البحث عن تسوية- ولو متوازنة تلبي أدنى الحقوق الفلسطينية- قد صار مساوياً للتفكير فيما إذا كان التوصل لمثل هذه التسوية في عداد الممكن الواقعي في ظل ميزان القوى القائم بالمعنى الشامل للكلمة، وفي ظل رعاية أميركية تدرج تبنيها لشروط حكومات إسرائيل المتعاقبة وصولاً إلى تبني المطالب الصهيونية ومطالبة الفلسطينيين بالتفاوض على أساسها مقرونة بكل أشكال الضغط والابتزاز الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، بل وبالتلويح بإقدام حكومة الاستيطان والمستوطنين على تنفيذ  خطط جاهزة للانسحاب من طرف واحد من المناطق المأهولة في الضفة أو الإعلان عن ضم مناطق منها وفرض أمر واقع مع اشاعة أن إسرائيل لا تخشى رد الفلسطينيين بخيار حل السلطة الفلسطينية، وأنها جاهزة لمواجهة كل الاحتمالات والخيارات.

لذلك فإن ما تعرضه "خطة كيري" ينذر بخطر إستراتيجي يتهدد القضية الفلسطينية، ويحتاج إلى رد سياسي فلسطيني وطني موحَّد وإستراتيجي يقوى على احباطه. فالرد المطلوب، وللدقة المفروض، لم يعد رداً على نتائج جولة مفاوضات يرعاها كيري، إنما على نتائج مرحلة 20 عاماً أمضاها الفلسطينيون، بل ضيعوها، في محاولات البحث عن تسوية سياسية لاسترداد أدنى حقوقهم بخيار واهم مدمر شجع قادة إسرائيل بألوانهم وبدعم أميركي على تصور أن ثمة إمكانية لفرض حل يعادل تسليم الفلسطينيين بالحد الأعلى من المطالب والأطماع الصهيونية كما صاغها مؤسسوها الأوائل وأنجبت قرناً من الصراع قدم الشعب الفلسطيني خلاله تضحيات وبطولات ومعاناة قل نظيرها.