تقرير اللجوء والمواطنة والعودة.. آلامٌ وآمال على جدران « شاتيلا »

الساعة 07:39 ص|17 فبراير 2014

غزة - الاستقلال

"كيف لكيلومتر مربع واحد أن يضم 12 ألف إنسان؟"، لن تنفع الأرقام للإجابة، فترد جدران المخيم وأزقته المتشعبة: إنها حسابات اللجوء في الزمن الصعب والمكان الأصعب.

وسط بيروت، يقع مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وتحديدا بالقرب من الضاحية إلى ناحية الجنوب قليلا، حيث الاتجاه إلى الوطن فلسطين أقرب.

لا يوجد على محاور شاتيلا ومداخله حواجز للجيش اللبناني كباقي إخوته من المخيمات، فقد كان يحيط به الجيش السوري، ومع خروج الأخير من لبنان قبل سنوات لم يأت أحد ليقف على الأطلال، ولاسيما أن الفصائل الفلسطينية سارعت إلى تشكيل لجان لإدارة شؤون المخيم.

هكذا يصبح الدخول إلى شاتيلا سهلا، ولا يأخذ الطابع الأمني كالحواجز والتفتيش في نهر البارد أو عين الحلوة. رغم ذلك هناك مندوبون من الفصائل على بداية الطرق لمتابعة الشؤون اليومية فضلا على الوافدين.



شاتيلا

استقبلنا "أبو عبد الله" من الكوادر الأمنية في حركة الجهاد الإسلامي ذات النفوذ اللافت في المخيم مرحّبا، وبعدما أكثر السؤال عن غزة وظروف أهلها أعطى الإشارة لبعض العناصر بتسهيل المهمة الصحافية، على أن يستضيفنا حين الانتهاء.

كانت إجابة سؤالِ الكثافة السكانية مهولةً، فهنا تفاصيل الأزقة التي تشبه شبكة العنكبوت لا تنتهي، وضيقها لا يفي بدخول اثنين متجاورين أو حتى شخص واحد.

مع النظر قليلا إلى الأعلى تظهر شبكات عنكبوتية أخرى مكونة من أسلاك الكهرباء المتفرعة والمكشوفة. تسيل المياه على هذه الأسلاك منذرة بخطر كبير. قد يكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى وفاة 13 شخصا بصعقات سببها الماس الكهربائي.

ولا تحتاج إلى التعب كثيرا للبحث عن محل لشراء شيء ما، فالمحلات مقرها البيوت نفسها، لأنه لا متسع لأي مكان تجاري داخل المخيم.

تلتفت إلى قدميك قليلا لتجد حذاءيك وبنطالك بيض اللون، فالمياه المتسربة والمختلطة مع التراب في كل نواحي المخيم صبغت الجزء السفلي من ملابس المارة. وهي عوامل كفيلة مع الرطوبة لإحداث عشرات الأمراض لدى الأطفال والمسنين.

يوقفنا المرافق قليلا لينادي على امرأته: "طلعي البنت ع السطوح تتشمس شوية بلاش تمرض".

ويقول هذا الرجل: "جدي خلّف 9 عمام وعمات.. أبي جاب 5.. أني ما عاد بَدي أكتر من واحد.. انت شايف كيف الحياة".



شاتيلا

الموت خير من المرض!

رغم ذلك كله هناك متسع لضحكة الأطفال هنا، تعلوها قليلا "كشرة" الكبار. حتى الكاميرا باتت لا تعنيهم أو تثير اعتراضهم كثيرا حين يصورهم أحد، فـ"البرود" هنا يرافق شعور من فقد كل شيء كما يصف السائق خضر أحمد "أبو ذر".

ويضيف لـ"الاستقلال": "حين يضيع منك كل شيء.. حلم العودة، حقوق المواطنة، الكرامة الإنسانية.. لا يظل سوى أن تأكل ما يمكن حتى تبقى على قيد الحياة".

بعدما يشرح هذا السائق بعض المفارقات في تكاليف المعيشة، يعقب: "أن تشبع هنا خير من أن تتعلم.. وأن تموت خير من أن تمرض".

للحظة ما هذه تبدو هذه المعادلة صادمة، ولكن ليس بعد أن تعرف أن إيجار "شبه بيت" فيه غرفتان ودورة مياه يكلف 300 دولار شهريا، أو أن أقل عملية جراحية تكلف 5 آلاف دولار يجب أن تدفع قبل إجرائها، ولا تغطي "الأونروا" منها إلا ألفا، وتتحول الألف في النتيجة إلى شراء المسكنات بدلا من إجراء العملية.

كذلك لا يحق لمئات الصيادلة أو الأطباء أو المهندسين العمل إلا داخل المخيم، ويمنعون كالسائقين ومهن أخرى من ممارسة أي وظيفة خارجه أو تملّك أي عقار.



شاتيلا

الطريف الحزين أن هناك من قُبلوا للعمل في شركات لبنانية خاصة بناء على سيرهم الذاتية والوظيفية، ولكن بعد اكتشاف أرباب المصالح أنهم فلسطينيون يكون أكثر الردود أدبا: عفوا، اترك رقمك وسنعاود الاتصال بك لاحقا.

كل ما في "شاتيلا" لتقديم الخدمات التعليمية والصحية مدرسة واحدة ابتدائية تتسع لألف طالب، ومركزان صحيان أوليان أحدهما يتبع للهلال الأحمر، والباقي خارج المخيم صوب منطقة صبرا.

أما العاملون في مرافق وكالة الغوث فرواتبهم تبدأ من 600 حتى ألف دولار، وهو مبلغ زهيد جدا مقابل تكاليف الحياة الصعبة، لذلك يحاول الفلسطينيون أن ينتقوا أرخص أسعار الطعام والملابس على رداءتها.

حتى من يصادق من طلاب الجامعات لبنانيين آخرين يستطيع زيارتهم هو، ولكن لا يرغب أي منهم في دخول المخيم، لأن الفلسطيني مشتبه فيه أمنيا.



شاتيلا

الوضع السياسي بين الفرقاء في لبنان أرخى ظلاله على المخيم. مثلا تشاهد صور شهداء الانتفاضة الفلسطينية على الجدران بجانبها صور أخرى لشهداء الدفاع عن المخيمات من هجمات التيارات اللبنانية المختلفة من أعوام 75 إلى 87.

مع إطالة النظر في صور هؤلاء الشهداء سأل أحد المارة ويدعى محمد سرور قائلا: "بتعرف مين آخر واحد على اليسار فوق؟.. هيدا أخي إسماعيل".

"سرور" عرف نفسه أنه من قوات جيش التحرير سابقا وأحد الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا، وعند سؤاله عن عمره أجاب بعفوية: "I was born in 1962.. أني بعرف احكي انجليزي كمان.. شايف!".

ويذكر لـ"الاستقلال" أنه انتمى إلى جيش التحرير حين كان عمره 14 سنة ما أكسبه مهارات قتالية ساعدته على الهرب من المجزرة التي جاءت عام 1982، شارحا: "بقيت أقفز وأهرب من شتائمهم وإطلاق النار حتى وصلت مستشفى غزة في صبرا الذي كان نقطة تجمع للفلسطينيين الناجين.. لكن فقدت أبي وأمي و5 من إخوتي".

ويشير الرجل الخمسيني إلى أن أخته كانت من الناجين لكنها أصيبت بالشلل نتيجة الرصاص ولا تزال حتى اليوم تلاحق الإسرائيليين عبر المحاكم النرويجية.

تركناه ونظرنا إلى حائط آخر عليه صور وشعارات مؤيدة للرئاسة السورية وأخرى على النقيض. مع ذلك يصر "أبو عبد الله" قبل توديعنا على أن "شاتيلا" على الحياد تماما اتجاه أي مشكلة لبنانية أو سورية، فرغم الاختلاف الظاهر وفق قوله لا تتطور المشكلة إلى أي مظهر عنف. "وحين ورود أخبار أي تفجيرات أو اشتباكات في الداخل اللبناني يسارع الناس إلى التزام بيوتهم والفصائل إلى متابعة أمان المخيم".

وبشأن الكهرباء والمياه فإنه يشير إلى وجود لجنة منبثقة عن التنظيمات الفلسطينية لإصلاح أعطال الشبكة في حين تأتي الشركة اللبنانية لتحصيل الفواتير كل شهر مع حرص اللجنة على ألا تُفصل الكهرباء عن أحد تخلف عن الدفع بسبب ضيق الحال.



شاتيلا

اللاجئون السوريون

لم يمنع ضيق المخيم بساكنيه استقبال فقراء اللبنانيين وفوقهم اللاجئون السوريون الذين أصبحت أعدادهم تضاهي أعداد الفلسطينيين. هذا زاد أعباء القاطنين في ظل رفض الدولة اللبنانية منح الفلسطينيين حقوق المواطنة يليه تقصير وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم "الأونروا" تحت ذريعة الأزمة المالية.

سرعان ما يعود الهم الاجتماعي والبحث عن لقمة العيش ليغطيا على السياسة وتبعاتها، مع قليل من الحديث بين كبار السن عن العودة إلى فلسطين حلما وحقا، فحين التقاط صورة لمجسم كبير عن مفتاح العودة صرخت عجوز قائلة: هيدا مفتاح العودة.. مفتاح البلاد فلسطين.



شاتيلا

شاتيلا

شاتيلا