خبر اليرموك نكبتنا الأخيرة...!> بقلم: أكرم عطا الله

الساعة 07:58 ص|12 يناير 2014

قفوا على أبواب المخيم واقرؤوا ما تيسر من آيات الموت الذي يصر على أن يرافق تاريخنا في كل العواصم... اقرؤوا ما تيسر من مجازر ومذابح ومآتم بلا معزين.. واقرؤوا ما تعسر من حليب أطفال
ولدوا حاملين لوائح اتهامهم.. فأن تولد فلسطينيا يعني أن تبدأ رحلة الدفاع الطويلة عن النفس ضد عقوبة الموت التي تلاحقك من الأخوة الألداء ومن الأعداء.
"اليرموك" نكبتنا الجديدة على امتداد مساحة الألم الذي يرافقنا منذ اقتلاعنا ولا زلنا معلقين على صليب الموت المصاحب لتاريخنا المثقل بالفجيعة ونحن نتنقل ببوصلة من القهر تدلنا على تجمعات شعبنا المتناثر والمفعم بالحزن دون زمن مستقطع بين فجيعتين لا تعطياننا وقتا لتجفيف الدموع، ماذا فعلنا كي يصب التاريخ جام غضبه علينا بلا توقف وبلا رحمة؟ كأن قدر الفلسطيني أن يبقى أسيرا أو شهيدا أو طريدا.
في اليرموك روايات بلا أبطال وشهداء دون معارك وحروب بلا شرف يخوضها من انتزعت إنسانيتهم بحصار الأبرياء باحثين عن انتصاراتهم على جثثنا والموت بالجوع أحدث وسائل القتل لديهم، وسكان المخيم يصرخون معتقدين أن هناك بقايا ضمير يمكن أن ينقذهم من آلة الدمار المجنونة التي تتفنن في وسائل القتل بالقنص أو بالذبح أو بالجوع وليس أمامهم سوى الموت أو الموت، ولا انتظار سوى حصار وأعشاب أصبحت تخجل من وجوه آكليها حين اعتادت على كائنات أُخرى.
في المخيم نفدت الحمير والقطط والكلاب، وفي كل يوم جديد تضاف إلى قائمة الموت أسماء جديدة وهو النداء الذي كان ذات مرة حين أطلق محاصرو مخيمات لبنان قبل سبعةٍ وعشرين عاماً نداء استغاثتهم المحفور في ذاكرتنا "أنقذونا فقد نفدت القطط" وكأن الحصارات لم تشبع من حصارنا بعد "تل الزعتر" حتى حصار بيروت وحصار المخيمات وحصار جنين وغزة وصولا إلى ما يدمي القلب لاجئي اليرموك وهم يطرقون بقسوة على أبواب ضمائرنا نحن البؤساء والفقراء وليس لدينا سوى أن نبكيهم عندما تلسعنا صورهم ورواياتهم حين يصرعهم الجوع.
كأن موتَهم يربط تاريخنا بتاريخنا الذي يأبى إلا أن يكتب بالدم وبالدموع وبأمعاء أطفال تكفر بحروب القرون الوسطى التي يخوضها العرب في الألفية الثالثة، ودموع جحظت وهي على مشارف الموت من شدة الجوع، فسحقاً لإنسانية تصبح فيها كسرة الخبر حلماً للإنسان، وأي عالم عربي هذا يستحق الحياة وهو يسير نحو السلطة على جماجم البشر، ويصبغ بساطه الأحمر بالدم الفلسطيني، وحين يصعدون للسلطة ندفع الثمن وعندما يهبطون ندفع فاتورة عجزهم، فحين سقطت بغداد كان الفلسطيني ضحيتَها وطريدها نحو مخيم كجزء من إرث التشرد الدائم "الوليد" وفي الحرب على دمشق يقام مخيم جديد، وكأن كل تلك العواصم تأبى إلا أن يكون تاريخها مكتوبا باللجوء الفلسطيني المتواصل، فلسنا شعبا لقيطا في هذه المساحة من الكون ليبقى التشرد قدرَنا، ولم نأت للتاريخ بجناية اغتصاب لأرض أحد، فنحن من ارتكبت الجريمة بحقه، ولسنا شعبا زائدا حتى تنفتح كل فوهات مدافع الكون ضدنا ليبقى اللجوء قدرَنا الدائم ونكتب حضورنا بالموت، فقد انغلقت في وجه مخيم اليرموك كل بوابات الوطن وانفتحت فقط بوابة الألم، فهل قدر الفلسطيني أن يحمل كل آثام التاريخ ونزوات سادة القتل ويسقط صريعا في صراعات العرب الطويلة؟
أتعبنا الرحيل الدائم واللجوء الدائم والنزيف الدائم والجوع الدائم والحصار الداهم، وأصبحت الفواتير أكثر ثقلا على القلب ونحن نعد طوابيرنا من القتلى وترمقنا عيون أطفال ماتوا جوعاً، ويصفعنا أنين من تبقوا إلى الدرجة التي من حقنا أن نتساءل عن جدوى الحياد الإيجابي الذي يطرح حين نحصي خسائرنا التي تفوق الاحتمال، وما معنى الحياد حين ندفع كل هذا الثمن، فعندما تصل خسارتنا إلى ألفي قتيل في اليرموك لم يعد لما يطرح من شعارات أي قيمة وسط نهر الدم، وإذا كان حزب الله استطاع نقل قواته للدفاع عن القرى الشيعية في سورية ألم يكن بالإمكان نقل جزء من الكفاح المسلح في لبنان للدفاع عن المخيم أو للحفاظ على حياده الإيجابي؟ أما أن نعيش الكارثة ونتلقى الضربات بهذا المستوى من عزلة السلاح وندعي الحياد فهذا يعني أن نظل متفرجين على لعبة الموت الطويلة بحقنا ونصبح كالكرة التي يركلها لاعبو الموت بأقدامهم وبفوهات بنادقهم.
خسارتنا أكبر من الاحتمال، وحين نعجز ليس عن الدفاع عن المخيم بل يتضح عجزنا عن إدخال الطعام لشعبنا، حينها لا تعود تجدي كل مبررات الوقوف جانبا، المهمة الآن كيف يمكن إنقاذ ما تبقى من الفلسطينيين هناك وسط الحديث عن أيام أمام المجاعة، وليس لدينا ما يكفي من القدرة على تحمل أن نصحوَ على مئات بل آلاف موتى المجاعة من شعبنا الذي لن يسامح أحداً.
مخيم اليرموك ومرةً أُخرى يكشف عجزنا في إدارة معاركنا، فكل هذا الموت الذي لم نتوقعه باغتنا كما كل الأحداث التي لم نعد لها سوى الصراخ والعويل، وهذا كان غائباً هذه المرة حتى عن وسائل إعلامنا، فاليرموك ليس خبرها الأول ولا العاجل ولا نداء استغاثة ولا تقارير بحجم الحدث ولا حقيقة تكشف من المسؤول عما حدث لنعرف من سيحاسب شعبُنا حين تأتي لحظة الحساب، والغريب أن هناك فصائل تجمع تبرعات لليرموك وكأن بواباته مفتوحة لقاطرات المساعدات، وكان أكثر جدوى لو استنفرت ما تملكه من وسائل إعلام لصالح المخيم هناك.
في اليرموك تتنوع أدوات الموت بين أدوات عصور التخلف بالموت جوعا أو بالقنص وما تفتق عنه العقل البشري من وسائل القتل الحديثة، بين الجوع وبين النار، وكأن عليه أن يجرب كل وسائل القتل والتعذيب التي اخترعت في ظل صمت العالم الذي بقى متفرجاً على نكباتنا المتوالية لعقود.
قبل كتابة هذا المقال أرسلت رسالة للصديق أحمد عمرو من مخيم اليرموك ليصف لي الوضع الذي سأكتب عنه، لم يرد أحمد علي، يبدو أن يديه المرتعشتين لم تعودا تقويان على كتابة رسالة أو أنه يقول غيباً "حين يكون الموت حاضراً لا قيمة للكتابة".. وفي رسالتي الثانية التي لن أنتظر ردها أيضا كانت من سطر واحد "يا صديقي أرجوك لا تمُت"..!