خبر خياركم في الجاهلية.. علي عقلة عرسان

الساعة 01:36 م|10 يناير 2014

مع كل تعثر في ليل أليل بويل، وبمفجَّعة تعوِل فيرقن صوتها على صفحة النجم مصيبَتها، ومع توجع جريح بعد جريح، وأنين ذبيح إثر ذبيح، وصيحة ذاهل عن نفسه من رعب يفنيه وبنيه.. أردد.. وفي صوتي رجع صدى بعيد بعيد، يمتد من صاحب " قفا نبك" إلى زمن الصديد وقلوب قدت من صخر لا يقطع فيه الحديد، ولا يجدي فيه ولا معه البكاء، أقول:

أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي       بِصُبحٍ، وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ

فكل صباح تتراكم جثث فوق جثث، وتتخثر دماء فوق دماء، وتفتح دروب الشؤم بوجوه من يهيمون على وجوههم خوفاً من موت، فيموت الواحد منهم في اليوم أكثر من موت.. وتخرب ديار وتُقفر ديار.. ومن يتورطون في القتل ويُقبلون على الاقتتال لا يتورعون عن جرم يرتكبونه ولا عن فعل من أفعالهم المشينة، ولا يتوقفون لحظة لينظروا في نتائج أعمالهم وما يقومون به مما يجلب الدمار والعار.. مع أنه أصبح أوضح لهم ولسواهم من الشمس في الضحى أن الاقتتال لن يحسم الأمور ولن يحقق نصراً للمتقاتلين، "فلا نصر لمنتصر على شعبه ووطنه"، والمستفيد الأول من ذلك كله هو عدو الأمة الأول "إسرائيل" ومعها الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة فكل أولئك مع الصهاينة يشجعون على أن يفني كل فريق من المتقاتلين على " عظْمة" السلطة في سورية الآخر، ليتخلص كل من كل وتبقى الهيمنة لأصحاب المصالح من المستعمرين والعنصريين وتجار السلاح والدم والقيم والسياسة والنجاسة.

لا صحوٌ ولا اتعاظ، وكل فريق من الذين يهدِرون دماء بعضهم بعضاً ودماء الناس الأبرياء ويقتلون الوطن وحتى الأمة بالنتيجة، في سورية الضحية، يمسك بحبال "عقيدة وفق مفهوم له خاص به" يرى من خلالها أنه الحق وليس فقط على حق، وأن من واجبه أن يفنيَ الآخر ليستقيم الدين وتستقيم الدنيا، وما الدنيا بمستقيمة حتى لو نبش الناس قبور الأموات من الناس السابقين وأعادو قتلهم بحرق العظام وتدنيس الترَب.. الدنيا دار افتئات، وأكثر أهل الافتئات طغاة، وأطغاهم مغرورٌ قصير النظر فاقد القدرة على التبصّر والاتعاظ والاعتبار بمن عَبر على دروب الطغيان ممن سبقه من أهل الحكم وأهل الدنيا، ممن يحكم ظلماً ويظن العدل الباقي في الأرض وفلك السماء ما دام بقاء، وأنه لا يحول ولا يزول، ويدعو الناس إلى الدفاع عن حكمه وخياراته التي يقاتل من أجلها وفق " فهمه لعقيدة يعتقدها"، ويجزم بأنه إنما يدعوهم إلى نصرة العدل وإقامة الشرع وإعلاء شأن الشرعية والحرية والكرامة الوطنية والقيم الإنسانية.. إلخ.. وهو يغطس في الوهم ويبيع الناس الهم والغم والموت في ليل طويل يطول؟!.. إن أكثر الجُناة بغاة، والبغي لا يقيم عدلاً ولا يبني حياة ولا تؤسس عليه دولة أو يقوم عليه حكم أو ملك، ومن يمَّ لا يمكن أن يكون ملاذاً للناس من الافتئات والظلم والطغيان والفساد والإفساد.

وفي يومنا الكالح الممتد سنوات سود، يبدو أن كل شيئ مسخراً لمن يفتن الناس بالمال أو بالكلام أو بالقوة أو بشهوة البغي وحتى بالتطلع إلى الحرية والعدل، فيسيرون وراءه إلى حتوفهم، وتأخذهم الحمية لما هم فيه وما هم عليه، فيذهبون إلى المدى في الغي والبطش والغواية. ها نحن أولاء بين فرقاء من أولئك نمشي إلى قبورنا بلا أكفان، ونعيش يومنا بانتظار أن ننزف ليضرج دمنا أرضاً غدت تضيق به وتضيق بنا، ونحن الأضداد نتزاحم على لحودها، و..

رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً       ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ

على حد تعبير فيلسوف المعرة التي غدت اليوم تعج وتضج بفلسفة القتل والقهر والحرب ولا يرى من فيها عبثية العبث ببنيها وبني العروبة والإسلام فيها.

المدعوون إلى الحوار أو " التفاوض" في جنيف2 لا يرون في ذلك مخرجاً لهم مما هم فيه ويرون أن خروج الآخر من السلطة هو المخرج، وذاك المطلب لا يتوفر لهم ولا يمكن أن يقبله لا رعاة الحل السياسي ولا الفريق الذي يختار الدخول في الحل السياسي ويرتضيه، ويرغب في أن يصل إليه عبر جنيف، ولكنه لا يرى أن جنيف تكفيه شر الحرب، فالحرب على الإرهاب تستمر ما استمر الإرهاب كما قال وأعلن وكرر، وكل ما يراه من المسلحين، الداخليين والخارجيين من سوريين وغير سوريين، على تعدد غاياتهم وتنوع مشاربهم، ينطبق عليه تعريف الإرهاب، ومن ثم فالحرب على من يقوم بذلك مشروعة ومستمرة. هذه الخلاصة أو النتيجة أو الحصيلة هي التي يواجهها كل من يقارب ما يجري على الأرض السورية المضمخة بالدم الضاجة بتعابير الحزن والمثقلة بالدمار..

وبعض أهل المعارضات على حق حين يستنتجون أن جنيف2 لن تقودهم إلى ما يطلبون ولا تحقق لهم ما يرتضون، حتى لو نجح المؤتمر بتشكيل "حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة" تنفذ ما جاء في جنيف1 حيث المطالب والخطوات المحددة هناك تعتبر مرجعية لجنيف 2، ذلك لأن الكثيرين منهم، حتى لا أقول كل واحد من رؤوسهم المعنيين بسلطة على نحو ما، يرغب بأكثر مما يقدر عليه، ويطلب ما لا يساعد الواقع المعيش على تمكينه منه، وهو في المحصلة لا يرغب بل لا يجرؤ على المجيء إلى دمشق وزيراً ومسؤلً، فهو يعرف أن أمامه أكثر من حقل ألغام، وأن هناك من ينتظر مجيئه ليصفي معه حساباً، سواء أكان ذلك النفر ممن والاه أو ممن خاصمه ويحمله مسؤولية بعض ما أصابه وأصاب الشعب والجيش والبلد.. وكثير من أفراد الشعب أصبح مهيأً لتحميل المعارضين وزر ما جرى لأسباب وأسباب وأسباب.. ولا يقتصر الأمر على من يمكن أن يقوم بشيء من ذلك ممن يوالون النظام ويرفضون المعارضات وما تقوم به من عراضات واستعراضات ومؤامرات، ومن يحملونها مسؤولية كل ما جرى للجيش والسلطة والبلد.

ونحن نتابع ما يجري على أرض الواقع بين المسلحين كافة والجيش العربي السوري من جهة، وبينهم فيما بينهم، أي بين المعارضات المسلحة في الداخل على الخصوص من جهة أخرى، أي بين داعش والحر والجبهة الإسلامية والنصرة وبقية الأطراف.. من اقتتال وعنف وممارسات، وكل ذلك لا يسلم منه المدنيون قتلاً وتهجيراً.. كما أننا نتابع ما يجري بين المعارضات في الخارج والداخل، على تعددها، من اختلاف يصل إلى درجة التعري أمام العالم.. حتى الائتلاف المعارض لا يأتلف ويتشظى بعد أن يختلف، ومنذ ألفه روبرت فورد وآلف بين قلوب أهله على أنقاض " المجلس الوطني" الذي ساهم أيضاً في تكوينه، وهو على شفا التشظي، ويتناحر فيه الموالون حسب تعليمات من يمولون ويدعمون ويخططون، وتلعب بمعظم أطرافه رياح السياسة "اختلافاً واتفاقاً، تباعداً وتقارباً بين المسيرين ومسيريهم الفعليين.. وهو تارة يثور فيه وعليه "المجلس الوطني"، وتارة بعض "الديمقراطيين"، يساريين ويمينيين، وآناً تخرج من قيادته عناصر لتعود إليه بعد "بوس لحى" ووقت يطول أو يقصر، وآناً ينعيه ناعٍ بما أوتي "من فضل على الثورة" لأنه سُجن أو "انشق" أو اختيار " المنفى" طلباً لما يعز ويخفى، وقس على هذا الكثير من الأمور الممتدة بين الصفع والقمع واللدغ واللسع وغير ذلك مما يتبرأ منه الذين يضعون أنفسهم فوق الممارسات الخطأ والتصرفات الفجة، في حين يسترون ممارساتهم بدهاء موروث.. ومن خلف الائتلاف قوة على الأرض السورية أساسها "الجيش الحر" الذي كلما اقترب استحقاق مؤتمر جنيف2 والحوار الداخلي أعلن الرفض والاختلاف مع الائتلاف " كلاً أو جزءاً"، أو خرجت منه ألوية وكتائب لا تريد أن يذهب باسمها إلى حل سياسي لا في جنيف ولا في سواها، وكونت جبهة مقاتلة على الأرض لا تأتمر بأوامره.

وفي مؤتمر استانبول الأخير، وفي دوامة الانتخابات "الرئاسية" وزخمها، وبعد صدور بعض نتائجها، أعلن أربعون مؤتلفاً على الأقل انسحابهم من الائتلاف أو انشقاقهم عنه.. وبدا أن السبب التوجه نحو المشاركة في مؤتمر "جنيف2"، ولكن قائلاً من داخل البيت قال: إن الأمر يتعلق بالانتخابات ونتائجها وموقف الرعاة الأساسيين المتنافسين مما أسفرت عنه، ونفى آخر من داخل البيت أيضاً ذلك وقال: إن الأمر يتعلق برفضٍ قاطع  لتوجهٍ أو قرارٍ ما بحضور مؤتمر جنيف 2 الذي وزّعت على أطرافه دعوات للحضور في 22 كانون / يناير 2014 في مونترو بسويسرا، ولم يحسم الائتلاف أمره بعد لا بشأن الحضور ولا بكيف يكون تشكيل الوفد المعارض المطلوب أن يكون واحداً وأن يتشكل من المعارضات الأخرى بما فيها الائتلاف، ولم يتم أي بحث في تنسيق المواقف والآراء والرؤى والمطالب التي ستطرح على طاولة الحوار " التفاوض" في جنيف2، ولا الاستفادة بالنتيجة من التدريب الذي تم لعناصر "مؤتلفة" على كيفية المشاركة والحضور الفاعل في مؤتمر دولي لم يعتد كثيرون منهم على حضور مثله.. وتلك تدريبات لا تخلو من إشراف الولاة على الموالين لضمان أن يجلبوا النصر لهم.. وقد أجَّل الائتلاف اتخاذ قرار بشأن جنيف إلى السابع عشر من الشهر الجاري لرأب الصدوع، على أن تسبق ذلك وتمهد له وتبين ما ينبغي أن يتبين للجميع، اجتماعات للأصدقاء والجهات والعناصر الفاعلة في هذا المجال.. تمتد بين باريس وقرطبة و.. و..

وكل هذا وسواه، وما أعلن ويعلن وتتناقله وسائل الإعلام على عجره وبجره، وغدا مشاعاً.. يتصل بما يجري في الساحة السورية وللشعب السوري الذي تحمل ما تحمل من " محبيه جميعاً ومن حماته والمدافعين عنه والحريصين عليه"، ويتوق الآن إلى أن يرتاح قليلاً بين فترتي عراك وعراك، واشتباك واشتباك، وهلاك وهلاك.. وكل من يعنيه الشأن السوري على الصعيد العسكري ـ الأمني أو السياسي التفاوضي أو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يجد نفسه مضطراً لمقاربة شؤون من هذا النوع تبعث في الأنفس شجوناً من كل نوع، ويبدي فيها رأياً لأنه المستهدف بها في نهاية المطاف، وذلك من حقه حتى لو لم يستطع أن يغير من الأمر شيئاً فعذيره أن نذيره سبق عويله.

فما يسيل من دم وما يجري من حوادث فيها الوحشي وغير الإنساني والمأساوي وما لا يليق ببشر أن يتعرض له أو أن يراه، لا يمكن أن يترك أحداً يعيش في " ملكوت اللاأدرية، والحيادية، والفرجة الأبدية"، على الكارثة البشرية التي تعيشها سورية، ولا على ما يجري بين من يعنيهم الأمر مباشرة أو من هم أطراف في كل ما يجري لها وفيها.. وقد بلغ الألم والعجب بالكثيرين الحد الذي ما بعده حد، وبلغ بي العجب من ذلك ما جعلني في أكثر من الجهد العيش فيما يشبه اللحد، وعجزت عن تكوين صورة أو لوحة فسيفسائة منسجمة أو متماسكة، وليس بالضرورة لوحة فنية، من مجموعة عناصر متناقضة بقوة تكوِّن المشهد أمامي، وكل من هو في تكوينه منشغل أساساً بغير ما يُعلن عن الانشغال به وما يتم الانشغال به جدياً من أهداف.. ويمكن لقلة من هذه الملة أو تلك، من هذا الفريق أو ذاك أن تبيع الجميع بخمسٍ من الفضة قبل صياح الديك.؟!

وإذا كنا في سورية أمام كارثة جراء كل ما جرى ويجري وما نرى وما نسمع وما يتشكل أمامنا من صور تشي بصور الأيام والحوادث المقبلة، وهو ما يشكل كوابيس لنا حتى في أحلامنا، فنحن في جنيف2 لن نكون في أحسن الأحوال، ولن نكون فيها ومن دونها بلا عقبات وعقبات، ولا يمكن أن تكون الحلول لأزمتنا الخانقة/ حربنا الطاحنة، سهلة على الإطلاق.. ومَن يقول: إن " حلاً دولياً أصبح جاهزاً وسيُفرض على الجميع" سيواجه على الأرض بما يضيق مدى حلول من هذا النوع لأن جزءاً من الشعب سيرفض المفروض عليه، ومن ثم لا بد من صيغ أخرى غير الفرض من أعلى، ومن يقول بأن حضور هذا البلد أو غيابه سيخرج الزير من البير، ويغير أميراً بأمير قد يكون واهماً، فالشعب أوعى من أن يضحك عليه أحد بجعل الوجه قناعاً والقناع وجهاً.. والتقدير أن الرؤوس الحامية في سورية لم يعد لها مكان، لأنها لا تستطيع أن تجعل البلاد تتجاوز المحنة وتتجه نحو وأد الفتنة ولا أن تجلب الأمن والسلم والإخاء " ففاقد الشيء لا يعطيه" ولا يجوز أن يتسلم أمرنا من يعود بنا إلى الوراء فلن تكون سورية كما كانت بعد الذي جرى فيها، ولا يجوز أن يتسلم القياد أشخاص يقفزون بالبلد في الفراغ أو إلى المجهول، أو إلى " معلوم مرفوض من الأكثرية" نرى معالمه وتبرق ملامحه من هنا وهناك مع هذا وذاك.. فما سال من دم وما تحمله الشعب من معاناة جدير بأن يشفع للسوريين بولادة أمل قوي بحياة أفضل من جميع الوجوه، ومن ثم لا يجوز أن ينطبق فيها وعليها "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام"، فما يجري فيها، وفق تقدير مقدرين، لا هو من الجاهلية ولا من الإسلام..".

والله أعلم.

دمشق في 10/1/2014