خبر في رد الادعاء بخيار الضرورة ..فهمي هويدي

الساعة 11:27 ص|07 يناير 2014

لا أجادل في قوة شعبية الفريق عبد الفتاح السيسي، لكنني أسمح لنفسي بأن أجادل في أنه رجل الضرورة الذي لا بديل عنه لحكم مصر، لأن الضرورة ذاتها تفرض علينا أن نوسع من دائرة التفكير في حل الإشكال الذي نواجهه.

(1)

أرجو أن تلاحظ أني أناقش الفكرة، ولا أتحدث عن الشخص، فإنني لا أخفي أن في نفسي شيئا من استخدام الوصف الذي تردد في وسائل الإعلام المصري في تزكية الرجل، لأنني لا أستطيع أن أنسى أني سمعته مع غيري مرارا في وصف الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي ظل يوصف بأنه القائد الضرورة، وقد ظل كذلك طوال 28 عاما تحول أثناءها إلى القائد الكارثة.

ذلك أن فكرة القائد المخلِّص الذي يتعلق به حلم الأمة من الخطورة بمكان فضلا عن أنها تنتمي إلى ثقافة أزمنة تجاوزها العصر فضلا عن الفكر السياسي، ذلك لا يلغي فكرة الزعيم التاريخي الذي قد تأتي به الأقدار مصادفة، لكي يفرض نفسه على التاريخ بإنجازاته التي تحوله من حاكم يدير إلى زعيم يقود ويبادر.

والأول يتفاعل مع الأحداث، في حين أن الثاني يصنع الأحداث.

في التاريخ المصري القديم اقتضت الضرورة أن يصنف الفرعون باعتباره الملك الإله لأنه كان يعد ضابط النهر، على أساس أن ضبط النهر هو بداية كل شيء، عليه يتوقف النماء ويتحقق خصب مصر ويمنها، كما ذكر جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر".

وجمال حمدان هو من أفرد في كتابه فصلا عن العلاقة بين البيئة النهرية والطغيان السياسي، وعرض فيه للنظريات التي اعتبرت تلك البيئة أكثر استعدادا للقبول بالطغيان والحكم المطلق، ذلك أن ضبط النهر يصبح مسوغا لضبط الناس والتحكم في مصائرهم.

تغيرت الدنيا في العصور اللاحقة حتى صار "ضبط الناس" موكولا إلى مؤسسات المجتمع، وإن ظل "الملك الإله" يؤدي دوره بمسميات أخرى في الأنظمة الاستبدادية دون غيرها.

وانتهى الأمر بتراجع دور الحاكم الضرورة ليحل محله الحاكم الرمز، الذي لا يدير بشخصه ولكن من خلال المؤسسات المحيطة التي باتت هي الضرورة لإدارة المجتمع واستقراره.

(2)

مسوغات الضرورة المطروحة في الفضاء السياسي المصري تتمثل في ثلاثة عناصر، هي: غياب البدائل المؤهلة للرئاسة التي تلقى تأييدا شعبيا، الفراغ السياسي المخيم والناشئ عن هشاشة الأحزاب السياسية وانفصالها عن المجتمع، الاضطرابات الحاصلة في البلد التي أدت إلى وقف قاطرة التنمية وإشاعة عدم الاستقرار في المجتمع.

في هذا السياق يشير أصحاب فكرة الضرورة إلى أن الثورة المصرية كانت انتفاضة شعبية عارمة، ولكنها كانت بغير قيادة أو رأس، حيث توافقت الكتل الجماهيرية العريضة على ضرورة تغيير نظام مبارك وإسقاطه، لكن ذلك التوافق لم يترجم إلى التقاء على قيادة تحظى بالإجماع الشعبي، ولو بصورة نسبية.

هذا الكلام بعضه صحيح يحتاج إلى تعليق، وبعضه يفتقر إلى الدقة وبحاجة إلى تصويب.

في ما يخص التعليق فإنني أنبه إلى أننا لا نعرف في خبرة التاريخ أو مراجعه ثورة سريعة نقية أنجزت التحول الديمقراطي بقليل من التكاليف وبكثير من التسامي والتسامح.

ومثل هذه الثورة غير موجودة إلا في ميتافيزيقيا السياسة، تماما كما أنه لا توجد ثورة في التاريخ إلا وأعقبتها ثورة مضادة أطلقتها بقايا الأنظمة السابقة عليها، مستفيدة من خبرتها في الإدارة والقمع ومن عناصر القوة التي كانت قد حصلتها، والعائدون في هذه الحالة الأخيرة عادة ما يكونون أكثر خطورة وعنفا، لأن الانتقام والدفاع عن المصالح والمصائر يعدان محركا أساسيا لها.

إن الفراغ السياسي يعد نتيجة طبيعية تعاني منها الأنظمة التي تعقب سقوط الأنظمة الاستبدادية، لأن تلك الأنظمة في سعيها للانفراد بالسلطة تعمد ليس فقط إلى تدمير البنى السياسية في الحاضر، وإنما إحداث ذلك التدمير في المستقبل أيضا.

وسبيلها إلى ذلك هو حرق بدائلها بوسائل القمع والقوة التي تملكها، حتى يشاع أن بعض سلاطين العثمانيين كانوا يقتلون الأطفال الذين يتصورون أو يتوهمون -أحيانا من خلال المنجمين- أنهم سيكونون بدائل لهم في المستقبل.

لا غرابة إذن في غياب البدائل، ولا مفاجأة في إدراك الفراغ، كما أن الصراع مفهوم بين القوى السياسية الجديدة والصاعدة، بحكم حداثة العهد بالتجربة والشكوك المتبادلة بين تلك القوى التي طال إقصاؤها فحرمت من خبرة الإدارة وجهلت أساليب العمل المشترك، ولأنها خارجة من ثقافة عقود القمع، فلم تعرف كيف تدير خلافاتها بالحلول السياسية والسلمية.

ما هو في حاجة إلى تصويب وتدقيق هو القول إن الثورة المصرية لم يكن لها رأس أو قائد، وهذا صحيح إذا تحدثنا عن شخص أو جماعة بذاتها، لكن الأصح أن الثورة كانت لها رؤوس عدة وليس رأسا واحدا.

وتلك الرؤوس هي التي تولت التحريض والحشد ورتبت الإدارة والأمن ومقاومة غارات الشرطة ورتبت الرعاية الصحية ودبرت الأوضاع المعيشية.. إلخ، حتى أذهب في ذلك إلى أن المجهولين الذين قاموا بكل ذلك كانوا بمثابة حكومة موازية فرضتها الضرورة في الظل واستدعاها الأمر الواقع.

وأركان تلك الحكومة جاؤوا من المجهول وذهبوا إلى المجهول، ولم نرَ لهم أثرا بعد ذلك، ومن ثم انضموا إلى الصفحات المجهولة والمطموسة من تاريخ الثورة المصرية التي لا أعرف متى يمكن أن نتعرف على حقائقها.

(3)

حين تواتر الحديث في عهد مبارك عن ترشيح ابنه للرئاسة ترددت مقولة غياب البدائل وتكرر الحديث عن غياب أي مرشح بديل، فيما بدا أنه إشارة ضمنية إلى أن الابن بدوره هو خيار الضرورة.

وقتذاك سألني أحد الصحفيين في هذه النقطة فكان ردي أنك حين تطفئ النور فمن الطبيعي أن تنعدم الرؤية، وبدلا من الشكوى في هذه الحالة، فإن الحل الطبيعي والبسيط هو أن تمد يدك لاستعادة الضوء وأن تفتح النوافذ، وحينئذ سترى ما لم تكن تراه.

واسمح لنفسي بأن أردد المقولة ذاتها في مناقشة فكرة انعدام البدائل، وأضيف إليها أن الذين يطلقون الفكرة يصوبون أنظارهم نحو شاشات التلفزيون وصفحات الصحف، التي صارت أهم منابر تصنيف النخبة وتوزيع شهادات الجدارة والنجومية السياسية، بل والثقافة أيضا.

في حين أن الأبصار ذاتها لو اتجهت صوب المجتمع بآفاقه الرحبة وتكويناته المختلفة فسوف ترى مشهدا مختلفا تماما، وعند الحد الأدنى فسوف يكفون عن الحديث عن انعدام البدائل.

في السبعينيات، كنت في الكويت مع أحمد بهاء الدين إبان رئاسته لمجلة "العربي" وكانت مثارة في القاهرة مسألة تشكيل وزارة جديدة، وكان الرئيس السادات على وشك زيارة الكويت، وقتذاك سمعت بهاء يقول إن بوسعه تشكيل وزارة كاملة من الخبراء المصريين الموجودين في الكويت.

وكان رأيه في أن السادات ذاته ليس شخصا استثنائيا. (لاحقا سمعته يقول الكلام ذاته عن مبارك الذي حكم مصر طوال ثلاثين سنة، وكان رأيه أن السادات أكثر ذكاء منه).

ما أريد أن أقوله إن المشكلة ليست في غياب، ولكنها في ضيق الدوائر التي لا تسمح برؤية تعدد تلك الخيارات.

ثم إن هناك مشكلة أخرى تتعلق بزاوية النظر إلى الحل، وهل تركز على اختيار الفرد الأكثر قبولا، أم أنها تُعنى بالفريق والمؤسسة التي يتم التعويل عليها في إدارة المجتمع.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن التعبئة الحاصلة في مصر للانحياز إلى خيار الضرورة ربما كانت موصولة بثقافة البيئة النهرية وفكرة الفرعون ضابط النهر الذي ينهض بدور ضابط المجتمع أيضا (هل لاحظت أنه في الحالتين ضابط؟!)، علما بأننا لا نعرف هوية الأطراف التي تغذي تلك الحملة، وتؤجج الحماس الشعبي واسع النطاق لصالح التعلق بالفرد المنقذ والمخلِّص.

ناهيك عن أن هناك علامات استفهام كثيرة حول دور أركان نظام مبارك وشبكة المصالح التي ارتبطت به في إذكاء ذلك الحماس من خلال المنابر الإعلامية بوجه أخص.

إن الخيارات تتعدد ومواهب القيادة تبرز حين تفتح الأبواب على مصاريعها أمام المجتمع لكي يفرز ممثليه بصورة طبيعية، وهذا الإفراز يتحقق من خلال الانتخابات التشريعية والمحلية والنقابية وغيرها من المكونات التي تخرج من رحم المجتمع ولا تفرض عليه من الطوابق العليا.

أما القيادات السابقة التجهيز -التي تهبط على المجتمع في لحظة تاريخية استثنائية- فإنها تمثل مغامرة كبرى، حتى ولو أحيطت بمشاعر الحفاوة الجياشة.

وفي بلد كبير كمصر له ظروفه المعقدة التي فرضتها عوامل التاريخ والجغرافيا، فإن المغامرة لا تعد أفضل الوسائل لتأمين المستقبل ولا إحسان قيادة المنطقة.

علما بأن التجربة أثبتت أن مصر -التي أثبتت أنها أكبر من أي جماعة- تظل أيضا أكبر من أي فرد مهما بلغت قدرته وتعاظمت قوته وتضاعفت شعبيته.

(4)

إننا لا ينبغي أن نتجاهل أو ننسى أن ثورة قامت في مصر عام 2011، وأن الجماهير حين خرجت آنذاك فإنها اقتحمت الحيز العام لأول مرة في تاريخها، وأنها لن تقبل بالعودة إلى الحيز الخاص مرة أخرى.

والذين يحاولون تجريح خروج الجماهير يوم 25 يناير بدعوى حصر الشرعية في تظاهرة 30 يونيو وتحولات الثالث من يوليو، هؤلاء يقفون في صف الثورة المضادة في حقيقة الأمر.

رغم أننا لا نشك في وطنية بعض الذين خرجوا في هاتين المناسبتين مدفوعين إما برفض حكم الإخوان أو بالرغبة في تصويب مسيرة 25 يناير وليس الانتقاص منها أو الانقضاض عليها.

إن الثورات المضادة مصيرها الفشل طال أجلها أم قصر، فقد صمد آل البوربون عبر ثورتهم المضادة في فرنسا نحو 35 عاما، ظنوا أثناءها أن الأمور استقرت لهم فمارسوا تقاليدهم الإقطاعية القديمة كما تجسدت في ديكتاتورية شارل العاشر، إلا أن ثورة عام 1830 بددت ذلك الحلم.

كما أن شاه إيران استطاع أن يبقى في السلطة نحو عقدين من الزمان بعد إفشال ثورة محمد مصدق، إلا أن أداءه لم يصمد طويلا، لأنه حينما عاد إلى سابق عهده وفر وقود الثورة التي انطلقت عام 1979.

واستطاع أوغستو بينوشيه أن يستمر في حكم شيلي لسبع وعشرين سنة بعد انقلابه عام 1973 على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، لكن الممانعة المدنية والسياسية انتصرت في النهاية، ونجحت في خلعه وإنهاء استبداده في عام 1990.

واستطاع مجلس قيادة الجيش في بوليفيا القضاء على الحركة الثورية بزعامة فيكتور أستنسورو بعد فوزها في الانتخابات عام 1951، لكن لم يمضِ عام حتى اندلعت الثورة في كل مكان وأطاحت بالمؤسسة العسكرية الحاكمة.

ولماذا نذهب بعيدا ونحن نرى الحاصل في سوريا، حين وجدنا أن النظام السوري استطاع أن يبقى في السلطة وأن يتحدى الثورة الشعبية التي اندلعت عام 2011، مستعينا في ذلك بقوة الإكراه وبفعل التناقضات الإقليمية والدولية، إلا أن ذلك يظل محدود الأجل رغم أنه باهظ التكلفة، لأن المارد الشعبي كان قد خرج من القمقم ولم يعد مستعدا للعودة إليه مرة أخرى.

إنني أفهم أن يعجز بعض العوام عن قراءة الواقع أو التعلم من دروس التاريخ، لكنني أستغرب أن يغيب ذلك عن وعي العقلاء والراشدين الذين أراهم يتصدرون المهرجانات والسرادقات المقامة ترويجا لخيار الضرورة، وذلك وجه آخر للأزمة التي نمر بها يحتاج إلى بحث آخر ومناقشة أكثر تفصيلا.