خبر صراع اليأس والأمل في العام الجديد ..فهمي هويدي

الساعة 10:51 ص|31 ديسمبر 2013

أتوقع عاماً صعباً على مصر في العام 2014، ولأننا سنحصد فيه ثمار ما زرعناه في عام الكراهية الذي سبقه فإنني لا أكاد أجد بين عناوينه ما يسمح بالتفاؤل، زاعماً بأنه لا يمثل المستقبل، وإنما هو مجرد سحابة داكنة وعابرة فيه.

(1)

أدري أن الخوف من الآتي المنظور يكاد يكون عنوانا للمشرق العربي بوجه أخص في العام الجديد. من لبنان وفلسطين إلى سوريا والعراق مرورا بمصر والسودان واليمن. إلا أنني أزعم أن لكل بلد أسبابه الخاصة الداعية إلى ذلك. ولئن كان سيناريو الانفراط والتشرذم سمة غالبة على أكثر الدول المشرقية، إلا أن الأمر لا ينسحب على مصر. التي لا يهددها الانفراط الجغرافي، في حين تدخل في مرحلة من المواجهة قريبة من تلك التي شهدتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 أيلول، حين أصيبت الدولة بلوثة عارمة دفعتها إلى التورط في معركة مفتوحة على الجهات الأربع ضد الإرهاب. ومن يتابع وسائل الإعلام المصرية وحملة التعبئة المجنونة ضد الإرهاب التي يروج لها صباح مساء، والتي تحشد لها كل الرموز والطاقات، لا يدع مجالا للشك في أننا نستنسخ ما جرى في الولايات المتحدة، فالهيستيريا واحدة. والمكارثية لم تختلف في البلدين. وتهمة الطابور الخامس التي وجهت ضد الرافضين لموقف الحكومة تكاد تكون متطابقة عندهم وعندنا. وما فعلته ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس آنذاك ديك تشيني، حين خصصت موقعاً لتتبع وإعلان أسماء أولئك الرافضين بين أساتذة الجامعات خاصة. لا تختلف عما يفعله بعض إعلاميي الأجهزة الأمنية عندنا بحق بعض المثقفين وحتى المسؤولين في الحكومة. وشعار من ليس معنا فهو ضدنا الذي أشهرته الإدارة الأميركية خارج حدودها مرفوع عندنا في الداخل والخارج، مع ذلك فثمة فوارق مهمة بين الحالتين، منها ان الحرب الأميركية انبنت على حقائق وقعت على الأرض، ودارت رحاها خارج حدود البلاد، في حين أن الحرب المصرية الراهنة انبنت على كم غير قليل من الأوهام والأغاليط وظل ميدانها الأساسي في الداخل. منها أيضا أن الأميركيين وجهوا نيرانهم في البداية ضد هدف واضح هو معقل تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، أما في مصر فإن السلطة اختارت هدفا لم يثبت انه الفاعل الحقيقي وراء الحوادث الإرهابية، برغم أن له اخطاؤه السياسية وغير السياسية التي لا تنكر. أما أهم تلك الفوارق فإن الحرب الأميركية ضد الإرهاب كانت موجهة ضد أناس من شعوب أخرى، أما في حالتنا فسهام الحرب موجهة ضد فئة من الشعب المصري ذاته.

(2)

قلت إننا سوف نحصد في العام الجديد ثمار ما زرعناه في العام 2013 الذي سبقه، وإذا تطلعنا إلى صفحة العام المنقضي فسنجد أننا زرعنا أمورا عدة يتمثل أبرزها في ما يلي:

ـــ إقصاء الإسلام السياسي وإخراجه من المشهد.

ـــ اعتماد الدور السياسي للقوات المسلحة، من خلال الوضع الخاص لوزير الدفاع الذي جرى تقنينه في نص الدستور، والذي يحول قيادة القوات المسلحة إلى مركز قوة في الساحة السياسية، خصوصا في ظل الضعف المشهود للأحزاب السياسية.

ـــ إضعاف دور الحراك الأهلي ومنظمات المجتمع المدني، في ظل القانون الذي صدر باسم تنظيم التظاهر، وتضمن قيودا عدة على ممارسة ذلك الحق، الأمر الذي استخلص منه الجميع أنه أريد به منع التظاهر وليس تنظيمه.

ـــ تسييس القضاء ودفعه كي يصبح طرفا في الصراع الدائر، خلال اخضاع إجراءات التحقيق والضبط، ونظر القضايا أو حفظ البلاغات وكذلك أحكام القضاء لمتطلبات وملاءمات السياسة الأمنية.

ـــ استعادة السياسة الأمنية، التي كانت متبعة في مرحلة ما قبل الثورة، بما استصحبته من ممارسات شكلت انتهاكات لحقوق الإنسان. أعادت إلى الأذهان ما ظن الجميع أن الثورة تجاوزته وطوت صفحته. أسهم في ذلك قرار إعادة العناصر الأمنية التي سبق استبعادها لارتباطها بمرحلة مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي إلى وظائفهم السابقة.

ـــ فتح الأبواب للتشكيك في ثورة «25 يناير»، من خلال تجريح الحدث وتلويث سمعة المشاركين فيه، لتأسيس شرعية جديدة لما سمي بثورة «30 يونيو». وفى الوقت الذي بذل فيه البعض جهدهم للقطيعة مع ثورة « 25 يناير»، فإن قرائن عدة لاحت في الأفق المصري الجديد مشيرة إلى التصالح مع نظام مبارك الذي انتفض ضده ثوار «25 يناير». وكان ظهور رموز وأبواق عصر مبارك في الساحة الإعلامية من تلك القرائن، التي كان بينها أيضا إسهام أثرياء ذلك العصر في مساندة معارضي نظام محمد مرسي والدعوة إلى إسقاطه.

ـــ إذكاء وتأجيج الخصومة مع حركة حماس في قطاع غزة، وفي الوقت ذاته، ممارسة درجة ملحوظة من التهدئة مع إسرائيل، حتى بدا أن ضغوط النظام المصري موجهة بشكل أساسي ضد الفلسطينيين الذين يسكنون القطاع، التي تمثلت في هدم الانفاق وتكرار إغلاق معبر رفح إلى جانب حملات التشهير الإعلامية.

ـــ الانخراط في محور «الاعتدال» العربي الأكثر ارتباطا بالسياسة الأميركية، والاعتماد شبه الكامل على دعم ذلك المحور ومساندته في التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر.

(3)

ربما لاحظت أنني لم أتعرض للسياســات الاقتــصادية، التي أحسب أن لأهل الاختصاص في شأنها كلاما كثيرا، يضيف مسحة إضافية من التشاؤم إزاء سيناريوهات السنة الجديدة، وهو أمر لا غرابة فيه لأن جزءا كبيرا من النشاط الاقتصادي يرتبط باستقرار الأوضاع السياسية وهدوئها. ولأنني آثرت أن أترك تناول الشأن الاقتصادي لأهله، فسوف أكتفي هنا باستعراض الحصاد المفترض لما تم زرعه في الساحتين السياسية والاجتماعية، وهو ما ألخصه في النقاط التالية:

ـــ مصير الحريات العامة في العام الجديد محفوف بالمخاطر، لسبب جوهري يتمثل في الضعف الشديد للمجتمع المدني. والفراغ المؤرق المخيم على الفضاء السياسي، ذلك أن مصر خرجت من العام المنصرم وقد توزعت على معسكرين. أحدهما متغلب قابض على السلطة يضم تحالفا عريضا تقوده المؤسسة العسكرية والأمنية يضم غالبية الكيانات السياسية (الليبرالية واليسارية) ومعها فلول نظام مبارك، إضافة إلى القضاء والإعلام. المعسكر الثاني مغلوب ومهشم يضم جماعة «الإخوان» ومعها بقية الكيانات المنخرطة في التحالف من أجل الشرعية، وقد التحق بالمعسكر المغلوب مؤخرا عدد محدود من المنظمات الحقوقية. وذلك المعسكر المتغلب لم يكن لديه مشروع للوطن، ولكنه اجتمع على هدف إسقاط حكم «الإخوان». وإن تحقق ذلك فإن الاستمرار في السلطة سيصبح هدف المرحلة المقبلة التي تم التمهيد لها برفع أسهم المؤسسة العسكرية ومعها القضاء العسكري، وإصدار قانون منع التظاهر وإنشاء محاكم خاصة للإرهاب. وستكون الأجهزة الأمنية هي الحارسة لكل ذلك، خصوصا في ظل استمرار مسلسل اجتثاث الإخوان وإقصائهم من الحياة السياسية. وإذا كان الوضع المستجد لم يحتمل في بداياته حلقة واحدة من البرنامج الساخر، الذي كان يقدمه الدكتور باسم يوسف، فلنا أن نتصور مقدار حساسيته إزاء حرية التعبير بعد تمكينه.

ـــ إذا كانت جولة إخراج «الإخوان» من السلطة قد حسمت في العــام 2013، فــإن الــعام الجديــد يفــترض أن يشهد الجولة الأهم التي سيتم بمقتضاها إخراجهم من السياسة. ذلك ان كل القضايا التي أعلن عنها في العام السابق سوف يحســم أمرها خــلال السنــة الجديــدة. وبحسب المعلومــات المتاحــة فــإن عدد الذين احالتهم النيابة إلى القضاء من «الإخوان» وحدهم يقدر عددهم الآن بنــحو 1800 شخــص. وهناك مئات آخرون وجهت إليهم الاتهامات بالتحريض على العنف وتعطيل الدستور وغير ذلك. ولم يتم تحديد مصيرهم بعد، ذلك غير المعتقلين الذين تقدر المصادر «الإخوانية» عددهم بأكثر من 14 ألف شخص. يفترض أن يحسم أمرهم أيضا العام 2014.

ـــ إضافة إلى ما سبق فإن جراح العام 2013 ستظل معلقة على جدران العام الجديد، ولا أحد يعرف كيف ستعبّر عن نفسها. أخطر تلك الجراح ما تعلق منها بضحايا فض الاعتصامات التي يتفق الجميع على أن العدد الأدنى لقتلاهم هو نحو ألف شخص (مصادر الإخوان تتحدث عن ثلاثة آلاف) ذلك بخلاف المصابين والمعاقين. وهو الملف الذي لا يزال مغلقا ولم يبذل أي جهد لمداواته وامتصاص مراراته، ناهيك عن إعلان الحقيقة فيه. وأخشى ما أخشاه إذا ما استمر ذلك الوضع أن يؤدي إلى موجة جديدة من العنف، الذي ينطلق من الثأر وتصفية الحساب، خصوصا أن الضحايا لم يكونوا من «الإخوان» فقط، ولكن بينهم أناس ينتمون إلى جماعات إسلاميــة أخــرى. والعــنف في هذه الحالة قد لا يستــهدف مؤســسات النــظام فقط، ولكنه قد يستهــدف أيضا ضرب نــقاط الضعف في المجتمع (الأقباط مثلا) والاقتصاد (السياحة أقرب مثل).

ـــ في حين شهدت سنة حكم الدكــتور مرسي انخراط كل التجمعات الإسلامية في العمل السياسي العلني والسلمي بمن فيهم الجهاديون والسلفيون والمتصوفة، فيخشى أن تشهد مرحلة الإقصاء والاجتثاث المقبلة عودة التنظيمات السرية، بأفكارها الخطرة وتداعياتها التي تهدد الاستقرار والأمن.

ـــ في العام المنقضي توجهت أصابع الاتهام إلى حركة حماس في غزة بالضلوع في تهديد الأمن القومي المصري، وتضاعفت تلك الاتهامات بعد عزل مرسي، إلى الحد الذي دعا البعض إلى تصنيفها كحركة إرهابية مع «الإخوان»، وهي للأسف التهمة ذاتها التي وجهتها إسرائيل إلى حماس وغيرها من فصائل المقاومة. وفي العام ذاته برزت سيناء باعتبارها بؤرة ومعقلا للجمــاعات الإرهابية والتكفيرية، وفى وسائل الإعلام المصرية محاولات للربط بين حماس وبين تلك الجماعات، رغم أن العام 2012 شهد إنشاء غرفة عمليات اشترك فيها ممثلو حماس مع الجهات المصرية المختصة للتعامل مع الوضع في سيناء. وليست هناك مؤشرات توحي بأي تطور يدعو للتفاؤل بمستقبل العلاقة مع الطرفين في العام الجديد، لأن ثمة تصعيدا في مواجهة حماس لا يستبعد في ظله حدوث صدام عسكري تشجعه أطراف عدة، إلى جانب أن الوضع في سيناء لم يعد مؤهلا لأية تهدئة، خصوصا أن القضاء على الإرهاب القادم منها لم يحقق هدفه خلال السنة الماضية.

(4)

العنصر الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال هو أن مصر أكبر من الطرفين المتصــارعين، الغالب منــهما والمغــلوب. ذلك أن ثمة مساحة وسطا تحتلها كتلة جماهيرية حية لا تنتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومن رحم تلك الكتلة خرج المجهولون الذين فجروا ثورة «25 يناير» وأعادوا إلى المجتمع حلمه المغيب وبلده المغتصب والمنهوب، ولم يتحقق ذلك بالمجان، ولكن الشباب القادم من المجهول دفعوا ثمنه من دمائهم. ويخطئ من يظن أن ملف «الإخوان» ومسعى اجتثاثهم هو أهم ملــفات العــام الجديــد. وبرغم أننــي لا أجــادل في أهميته إلا أنني أزعم أن الأهم هو مستقبل الديموقراطية في مصر ومعه مصـير ثــورة «25 يناير». الأهم هو استعادة الحلم الــذي ما كاد يحــط عــلى الأرض حتى جرت ملاحقته ومطاردته فعاد إلى موقعه معلقا في الفضاء، بانتظار المجهولين الذين استدعوه في العام 2011 لكنهم لم يحملوه وعادوا بعد ذلك إلى المجهول.

لست أرى في السحابات الداكنة التي تلوح في الأفق نهاية المطاف. وأقاوم بشدة فكرة ضياع الحلم والاستسلام لليأس من المستقبل، لأننا عشناه ولمسناه في لحظة خاطفة. ولأنه كان، فذلك يعني أنه ممكن وأنه سيكون.