خبر اتفاق إطار أم أوسلو (2)؟ ..هاني المصري

الساعة 11:00 ص|24 ديسمبر 2013

تتوارد الأنباء عن استعدادات أميركية غير مسبوقة وصلت إلى حد حجز السفارة الأميركية لخمسين غرفة في أحد الفنادق الكبرى في القدس، لتُشغِلَها الطواقم التي سترافق وزير الخارجية الأميركية في زيارته نهاية الشهر المقبل أو بداية الشهر الذي يليه، من أجل عملية كبرى لفرض «أوسلو 2» مغطى باتفاقية إطار لا تسمن ولا تغني من جوع.

كما يثار جدل حول صحة ما يقال إن كيري طرح خطة من أجل التوصل إلى «اتفاق إطار» بدلا من تسوية نهائية، تتضمن ترتيبات أمنية تتبنى جوهر المطالب الإسرائيلية، حيث أن هناك مصادر متعددة تتحدث عن هذه الخطة وبنودها، بينما ينفرد صائب عريقات بتأكيد وجودها تارة، عندما قال للصحافيين في بيت لحم عشية الأعياد: نقبل اتفاقًا انتقاليًا لا تزيد مدته على عام، ويحدد الحدود وتبادل الأراضي ومكانة القدس واللاجئين والإجراءات الأمنية، بينما نفى في مقابلة أخرى القبول بذلك، كما نفى وجود خطة أميركية أصلا.

وبغض النظر عن هذا الجدل، سأتناول في هذا المقال فكرة التوصل إلى «اتفاق إطار» لتبيان: هل هي خطوة صائبة، أم لا بد منها لأنها أهون الشرين، أم أنها خطوة ضارة وأضرارها مضاعفة كونها تعيد إنتاج تجربة أوسلو، ولم تتعظ مما جرى بعد أكثر من 20 عامًا على توقيع ذلك الاتفاق المشؤوم؟

لنبدأ بالتعرف إلى ما تعنيه عبارة «اتفاق إطار» انطلاقًا من الوقائع الماثلة والخبرة المستفادة، فهي تعني اتفاقًا حول الخطوط العامة التي سيتم الاتفاق عليها من دون الدخول في التفاصيل، وتترافق مع اتفاق حول حل انتقالي يتضمن كل ما يمكن الاتفاق على تطبيقه في الجوانب المختلفة السياسية والاقتصادية والأمنية. أي أن «اتفاق الإطار» أكثر تفصيلا من «إعلان المبادئ» وأقل تفصيلا من «معاهدة سلام» نهائية، وسيتضمن ما يمكن الاتفاق عليه حاليًا وتأجيل ما يُختلف عليه إلى مفاوضات مقبلة يتم الاتفاق على أن تنتهي خلال مدة أقصاها عام، ولكنها ستستمر إلى إشعار آخر، أو ستنتهي من دون اتفاق نهائي؛ ما يعني إعطاء الاحتلال مدة إضافية لكي يصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها القدس، إلى مليون وهو حاليًّا أكثر من 700 ألف.

إن التوصل إلى «اتفاق إطار» يعني عمليًا استمرار الأمر الواقع جوهريًا بصيغ وتفصيلات وتغطيات جديدة. وإذا كان استمرار الأمر الواقع مفيدًا للفلسطينيين أو أهون الشرين، فلم لا؟، «فما لا يُدرك كله لا يُترك جله»، أما إذا كان أسوأ الشرور جميعًا فيجب العمل بكل قوة لتغييره.

ما نراه في الواقع حاليًا أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي تحظى بتأييد غالبية الإسرائيليين تحاول وبمعدلات غير مسبوقة استكمال خلق الأمر الواقع الاحتلالي الاستيطاني العنصري، الذي يقطع الطريق على الاستجابة لأي حق من الحقوق الفلسطينية، بما فيها إقامة دولة على حدود 67. وما نراه على أرض الواقع أيضًا أن الحكومة الإسرائيلية بدعم أميركي وتواطؤ وعجز عربي ودولي، تستخدم المفاوضات لكسب الوقت والتغطية على ما تقوم به، لتتجنب بروز خيارات أخرى لدى الفلسطينيين، والعزلة والضغوط المتنوعة التي يمكن أن تحدث إذا تم وقف أكذوبة ما تسمى «عملية السلام». لذا على الفلسطينيين تبني استراتيجيات جديدة قادرة على تحقيق المصالح والحقوق الفلسطينية، أو على الأقل، إحباط المخططات الإسرائيلية وجعل الاستمرار في تطبيقها مكلفًا جدًا لإسرائيل؛ حتى لا يستمر الأمر الواقع الذي سيقود عاجلا أو آجلا الى قبوله والتعايش معه، وربما قبول إحدى صيغ الحلول الإسرائيلية.

لا نضيف جديدًا بالقول إن المفاوضات أحد أشكال العمل السياسي الضرورية، التي لا يمكن تجنبها إلا إذا كان بالإمكان اعتماد أشكال أخرى، مثل استخدام القوة العسكرية، لحسم الصراع. فالمفاوضات تكون ضرورية عندما لا يستطيع أي طرف حسم الصراع لمصلحته، ولكن حتى تكون المفاوضات مجدية لا بد من توفر استعداد للطرفين للمساومة.

إن الخبرة الطويلة العريضة للمفاوضات دلت على أن الاستعداد للمساومة توفر من جانب الفلسطيني وحده، الذي قدم تنازلات كبرى بالاعتراف بإسرائيل، ووقف المقاومة المسلحة، وبالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية، وتجزئة القضايا والحلول، والاستعداد لحل متفق عليه بالنسبة للاجئين، والموافقة على مبدأ «تبادل الأراضي»، وما يعنيه من ضم أراضٍ في الضفة والقدس المحتلة في أي حل نهائي. كما تدل المواقف والممارسات الإسرائيلية الحالية على عدم توفر أي استعداد إسرائيلي للمساومة، وعلى أنها تستخدم المفاوضات للتغطية على ما تقوم به من حسم للصراع لمصلحتها، لذا فإن المفاوضات الثنائية برعاية أميركية، ومن دون أسس ولا مرجعية ومن دون الاتفاق على وقف الممارسات الاحتلالية، لا التوسع الاستيطاني فقط؛ سياسة ضارة على طول الخط.

يبرز هناك دائمًا رأي يقول إن وقف المفاوضات لم يؤد إلى وقف الممارسات الإسرائيلية، وخصوصًا إلى وقف الاستيطان، وهذا صحيح؛ لأن وقف المفاوضات بعد فشل وانهيار قمة «كامب ديفيد» ومباحثات «طابا» لم يؤد إلى اعتماد استراتيجيات جديدة، ووقف المفاوضات بعد استئنافها بعد مؤتمر «أنابوليس» لم يكن وقفاً حقيقياً لها، بدليل عقد المفاوضات «التقريبية» و«الاستكشافية» وعدد هائل من اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية المختلفة، السرية والعلنية. لقد مُنِحَ خيار المفاوضات وقتًا طويلا ولم يحقق شيئًا تقريبًا.

إن وقف المفاوضات كان جزءًا من عملية المفاوضات نفسها، وكان يستهدف دائمًا استئنافها بشروط أفضل أو أقل سوءًا. مع أنه أدى إلى استئنافها بشروط أسوأ، والدليل الدامغ على ذلك أن استئناف المفاوضات في نهاية تموز الماضي تم من دون الاستجابة لأي شرط من الشروط الفلسطينية، على أساس أن إطلاق سراح الأسرى القدامى تم بشروط سيئة وفي إطار صفقة تشمل تجميد التوجة إلى الأمم المتحدة.

في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى والهوة الواسعة جدًا بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني، والأوسع أكثر بين الموقف الإسرائيلي والحقوق الفلسطينية التي تجاوزتها المفاوضات حتى في حدها الأدنى، وفي ظل عدم استعداد إسرائيل، ولا أقول الحكومة الإسرائيلية فقط، للمساومة ومنح الفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم أو مطالبهم التي تتقزم باستمرار المفاوضات؛ كانت المفاوضات وستكون ضارة.

تأسيساً على ما سبق، لا مفر إذا أردنا من تجاوز المأزق الشامل الذي واجهه ويكاد الجميع أن يعترف بوجوده من دون الجرأة على طرح خيار آخر، قادر على شق مسار جديد ومنحه الوقت اللازم للنجاح، لأن الوهم بأن الحل على الأبواب والدولة على مرمى حجر لم يؤد إلى دولة ولا إلى حل.

المسار الجديد البديل تتضح معالمه باستمرار، وهو يبدأ بإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام على أساس سياسي واضح واقعي من دون مغامرة ولا تفريط، وعلى أساس شراكة حقيقية من دون أوهام بقيام دولة من دون إزالة الاحتلال أو برضى الاحتلال، وبعد ذلك الخيارات واضحة: وهي المقاومة بكل أشكالها التي تناسب كل مرحلة، والتدويل، والمقاطعة، ووقف التطبيع، والاستعداد للتخلص التدريجي من التزامات «اتفاق أوسلو»، واستعادة الأبعاد العربية والإسلامية والدولية والتحررية الإنسانية، والاقتناع بأنك لا تستطيع الحصول بالمفاوضات على ما لم تكن قادرًا فعلا على الحصول عليه والاحتفاظ به.