خبر سورية والثقافة والغرابيل ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:36 ص|20 ديسمبر 2013

يقول قائل القوم: إن سورية تحتاج إلى خمسين سنة بعد وقف الحرب الآن وربما إلى أكثر من ذلك لكي تعيد بناء ما دمرته الحرب، وأقول إن الحرب المجنونة دمرت الكثير، ومنحت لعدو سورية فرصاً، وألحقت بالجانب الاجتماعي والمعنوي والثقافي والروحي الذي كان عليه السوريون قبل الحرب، ما تشكل إعادته إلى ما كان عليه الحال قبل الكارثة، وليس إلى الوضع الأمثل الذي للعلاقات قبل عقود من الزمن على بداية تلك الحرب الكارثة، ولا نزعم أن سورية كانت في الوضع الأمثل قبل الحرب لأن من يقول ذلك يغفل أو يتغافل عن كثير مما هو خطير ومثير، فقد كانت المياه السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية ترين عندنا على تفاعلات سلبية في الأنفس تنذر بما لاتحمَد عقباه، ويحول دون التصريح بالكثير من ذلك الخوفُ، ومواجهة الاحتلال الصهيوني أو الاستعداد لها، وحرص السوريين على الأمن الاجتماعي، ورغبتهم في إيجاد حلول لتلك المشكلات العالقة والملفات المنسية أو شبه المنسية على رفوف مؤسسات وأجهزة ولدى طبقات من المسؤولين يقدرون وتضحك الأقدار، ولدى فئات كثيرة من الانتهازيين الذين يجعلون كل ما في الوجود الذي يحيط بأولي الأمر وردياً، وسمناً على عسل أو زيتاً على زيتون كما يقول بعض المتحدثين.

لكنني أقول من موقع المعايش للشعب السوري، العارف بالكثير من قدراته وإمكانياته ومهاراته وتطلعاته: إن عشر سنوات سماناً فقط كفيلة بإعادة بناء ما تم تدميره في الحرب الآثمة، على صعيد البنى التحتية والعمران المهدم وعمل الدولة ومؤسساتها، هذا إذا لجم الفساد والإفساد ووضِع حد للانتهازيين والمحسوبيات ولحضور أصحاب الادعاء العريض والثرثرة المجانية في أماكن صنع القرار ومواقع العمل الجاد.. أما الجانب المتصل بالخسارات المعنوية والثقافية والروحية والاجتماعية فيحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير أو إلى أقل منه بقليل إذا ما توجه السوريون بصدق ووعي وعزم وحسم، ابتداء من أعلى مستويات المسؤلية، إلى معالجة ملفات شائكة حديثة وأخرى قديمة عالقة منذ ستينات القرن العشرين بمسؤلية وطنية عالية وحكمة واسعة المجال، وأعتمدوا التوجه الوطني ـ القومي النظيف الصحيح الصريح الذي كانت عليه سورية في ومضات أو عهود، وشكل بعض خصوصياتها الوطنية والقومية والحضارية.. وهذا يستدعي إعادة نظر بالكثير مما هو مسلمات في العمل السياسي على الخصوص، كما يستدعي وضع معايير حاكمة لشغل المهام والمواقع والوظائف والقيام بالمسؤليات، تضع الكفاءة والقدرات العلمية والمعرفية والمهارات والسلوك والأخلاق في موقع متقدم عند اختيار الأشخاص لتلك الأعمل والمواقع والمهام، والحكم عليهم من خلال الأفعال والإنجاز وليس من خلال القرابة والموالاة وتقارير المخبرين ورضا الأجهزة، أو مجاملة ومراعاة " نفوذ" تلك أو ذاك من ذوي الحظوة المكتسبة بأساليب مرَضية مرفوضة اجتماعياً وخُلقياً. وكل ذلك يحتاج أولاً إلى ثقافة جادة واعية مسؤولة عن قيم وهوية وثوابت ومعارف وتاريخ حضاري وتطلعات مستقبلية لأمة كان لها مثل ذلك كله وأكثر في مراحل من تاريخها، ولن يستقيم هذا الأمر المعوج منذ عقود من الزمن مع وجود سطحيين يحكمون وينصحون ويتحكمون في هذه الميادين، ومع وجود وانتشار الميليشيات على أنواعها: العرقية والطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة، ودكاكين الطفيليين " الكسَبة" من الشللين والفاسدين المفسدين في مجالات الإنتاج والإبداع.. ولا بد لهذا من مناخ عام سياسي وثقافي واجتماعي يبدأ بجعل الإعلام على الخصوص يلتزم حدوده المهنية الصارمة ويبحث عن الحقيقة بموضوعية ومنهجية ومسؤولية ويكون الداعم لها والمدافع عنها ويركز على كل ما يساعد على بناء وأداء متميزين في أي مجال من مجالات العمل والحياة، بصرف النظر عن كل ما يشكل الحالات المَرضية المتحكمة بأشكال مختلفة.. والعمل على تخليص تلك المهنة التي يرتفع فيها أشخاص إلى مستوى الرسالة ويستشهدون على طريقها، ويهبط بها كثيرون إلى مستويات متدنية لا تضر بهم فقط " ففاقد الشيء لا يعطيه ولا يشعر حتى بفقده" بل تضر بالمجتمع والدولة والإنجاز وبكل أؤلئك الذين يكتوون بنار الظلم والتهميش والتقزيم ويعتَّم عليهم لأغراض وبأعراض منها أوامر على طريقة " حتى لا يفلت منا إذا كبر"، أو حتى لا يكون من " فئة" لا نحبها ولا نريد أن نرى منها علماً؟! إن على من يحرص على مناخ صحي في البلد بصورة عامة أن يعمل على تخليص هذه المهنة الحساسة " الإعلام" من " سلبطة" كل من هب ودب ممن يرغبون في الظهور أو يتوقون إلى تشغيل ألسنتهم فقط على طريقة " انظروا إلي"، أو ممن تلقيهم في هذا الخضم سياسات وأجهزة مخابرات وحتى شركات لتحقق من خلالهم أغراضاً.. وهناك الكثير الكثير من بين أولئك ممن يسهل عليهم، حتى  قبل أن "تفقس البيضة عنهم، أن يطلقوا أحكام قيمة في كل مجال يتناولونه، وأكثرهم أقرب إلى الجهل وفساد الضمير وإلى النزوع المرضي والأداء العقيم والفساد المقيم ذاك الذي يسرح ويمرح ويرهِب ويرعِب من خلال تمترس إعلاميين محددين وراء حق يُراد به باطل، حيث يشتم ويخرب ويبتز ويرتزق ويتجسس أحياناً وهو يحمل راية حرية الكلام في الإعلام تلك التي بلغت في هذا الزمن العربي الرديء والسوري الأردأ حداً غير مسبوق من تدني البضاعة والأداء المهني والمعرفي والأخلاقي والقيمي والوطني ـ القومي أو القومي الذي يفترض فيه أن يتوطن في أنفس وقلوب وعقول، وأن يكون حريصاً على الأمة وقيمها وقضاياها وكرامتها وعلاقات أقطارها وأبنائها ودمائهم ومصالحهم. وأكثر ما ينبغي أن يُراعى في ذلك كله ومن أجل فكر وأدب وفن في المستوى المطلوب، وثقافة بناءة بمفهوم أشمل وأعمق اختيار مسؤلين مقتدرين أكْفَاء ثقاة وأخلاقيين لا تأتي بهم الموالاة والأناشيد الصباخية التي ينشدونها إلى المراكز الحساسة، بل تضعهم قدراتهم وقيمهم كافة حيث يجب أن يكونوا ليخدموا باقتدار وإخلاص، ولا يكونون مصابين بأمراض طائفية أو انتهازية يوظفون مناصبهم لتحقيق أهداف خاصة وفئوية ضيقة عن طريقها، ويصعدون سلالم الموالاة طلباً لمزيد من الرضا والمكاسب ونشر تلك الأمراض، وهم محاطون بمنتفعين ومصفقين وبميليشيات تغطيهم عندما يخدمون أهدافها ويحققون مصالحها، أو عندما يكونون هم أصلاً من صنعها، كما حدث ويحدث في مواقع مسؤولية كثيرة، حيث فرط أو يفرط " المسؤل" بالأمانة والقيمة والمستوى والإنتاج والبناء ومصلحة الشعب والوطن ليرفع من " يحسِن إطراءه والدفاع عنه" في المواقع التي يتزاحم فيها الانتهازيون ليُقبلوا أو لكي يتقدموا الصفوف ويرتفعوا درجات على حطام الأمانة والتطلعات المشروعة للشعب.؟! إن المسؤولية والممارسة والتموضع في هذا المجال أكثر من حكمة وقيمة وأمانة ونظافة واستقامة وقدرة على الأداء ونضج الشخصية واستقلالية القرار والإخلاص لوطن ومصالح شعب، إنه راهن حياة الناس وحاجاتهم ومستقبلهم وقدرتهم على البناء والوعي والدفاع.. إن من يصلح لأن يوضع في ذلك الموضع شخص مسؤول ذو قدرة واحترام وقيمة، وقادرة على ألا يكون أمعة ولا يخيفه تلويح صحافة بافتراء أو إغراء، ولا تلويح جهاز أمن ما أو مسؤول أرفع منه مستوى بما قد يؤذيه.. وعليه أن يشعر بأنه يحمل الوطن باعتزاز وأمانة الشعب بثقة واقتدار. هؤلاء هم من يمكنهم أن يساهموا في البناء ويحموا البنائين والمبدعين والقادرين على العطاء، وعليهم أن يكونوا سماعين للحق مميزين له وقادرين على الصمود أمام إرهاب الفئات الهدامة بميليشياتها المتنوعة:"ثقافية وسياسية وإعلامية وغير ذلك"، تلك التي تصل بطرق ملتوية وتفعل ما تريد عندما يكون المسؤول ضحلاً أو فاسداً أو ضعيفاً أو خائفاً مشوش الفكر مخترق الإرادة.  لقد رأينا كثيرين ممن سعوا إلى مواقع وقدموا مصلحة الوطن لأشخاص أو أحزاب أو ميليشيات فارتفع شأنهم وانخفض شأن الوطن في المجال الذي شغلوه، ولكن تغطيتهم الإعلامية والسياسية " الميليشياوية كانت كاملة وناجعة، وذلك الصنف فيما يبدو يقبله الحكام ويقبلون عليه لأنهم يعملون بوحي ما يصل إليهم وهم في صياصيِّهم شبه محاصرين بالوهم والغرور. لقد ضقنا ذرعاً بالهدامين والواجهات التي تخاف منهم وتمالئهم وبكل من هو على تلك الشاكلة، وضقنا بصناعات " إعلامية وثقافية وفنية" على الإشاعة والدعاية وحتى بالتهديد والإرهاب الفكري والمادي أحياناً، و" تشمرخت في بعض الساحات والمجالات قامات يصدق فيها المثل القائل" تسمع بالمعيدي خيراً من أن تراه"، وحين تقاربها أو تقارب إنتاجها وأداءها بأدوات المعرفة والنقد العلمي تهب عليك رائحة جثة حديثة الدفن، فتعاف الأدب والفن والنقد والنبش والحفر.. ولكن تبقى الشماريخ رافعة أشواكها فلا يسمع أحد لمن لا ميليشيا أو مخلب له في زمن الميليشيات والمخالب!!. إن الثقافة البناءة تحتاج إلى مثقفين بنائين قادرين وإلى مسؤولين منتمين إلى مجتمعاتهم ومستنبتين في تربتها الثقافية والحضارية والقيمية والأخلاقية لا إلى مستوردين لها أو مصدرين إليها أو من " يقبُّون" في تربتها مثل الفطر السام ، فالثقافة التي تبني الإنسان الفرد والجيل بعد الجيل وتساهم في تكوين ضمير الأمة وحيوية وعيها وتحمل هويتها وقدرتها على النهوض والإبداع باعتزاز وانتماء.. تحتاج إلى كل رصيد الأمة الثقافي الحي القوي البناء، وإلى أشخاص يهضمونه ويتمثلونه ويستلهمونه ويضيفون إليه ويدافعون عنه، ويتفاعلون مع ثقافات الأمم باقتدار فيأخذون ويعطون من دون عُقَد، ويعملون ولو في الظلال القاتمة التي لا " تقاربها أضواء الإعلام" لكي يؤدوا رسالة ويبنوا صروح معرفة وقيم حضارة ويضيفوا إلى رصيد الأمة الثقافي إضافات من حيث الكم والكيف، إن من يقومون بذلك أشخاص مختلفون تماماً عمن يمارسون اليوم "الغوغائية الثقافية ـ السياسية ـ الإعلامية"، وعمن يحملون رايات وشعارات مزيفة ويقطعون القارات ارتزاقاً، ويهدمون قيم الحق والعدل وأسس بناء الأمة وتقارب أبنائها ومصالحها الحيوية. إن المؤهلين لهذه المهمة اشخاص لا يحتاجون إلى الكثير ويكفيهم أن يتوفر لهم مناخ إنتاج وإمكانيات بسيطة للقيام بذلك بهدوء وتواضع ودأب وفي أمن من جوع وخوف، ولكي يُستفاد منهم لا بد أن يطلع أصحاب القرار ومن يهيئون لهم ما يطلعون عليه على زبدة ما ينتجون ويرون.. وينبغي ألا يعاملوا على طريقة الهدامين تاريخياً الذين لا يملكون القدرة على البناء ولا حتى الرؤية للحاجات الاجتماعية الفعلية المستقاة من معايشة المجتمع والواقع الذي يشقى فيه الناس ومع ذلك يملؤون الساحات بالصراخ، أؤلئك الذين أتخمونا بترديد آراء وأفكار ونظريات مستوردة وفي أحيان كثيرة لم يهضموها من بعد اطلاع وفهم، ومع ذلك أرادوا أن يخلقوا مجتمعاً غير مجتمعهم ليطبق تلك النظريات المستوردة التي ثبت إفلاسها، ويحتاج تطبيقها إلى تفقيس بشر في " مداجن بشرية خاصة" يصلحون لحمل نظريات من هذا النوع الطوباوي وتطبيقها ربما في كوكب قد لا يكون أرض البشر.

نحن في سورية خصوصاً وفي مساحات عربية كثيرة مسمَّمون بهذا النوع من النظريات والأفكار والادعاءات الهدامة التي لا يعقبها بناء، وغارقون في سيول من التشويه الذي يرقى إلى مستويات تفوق التزوير للوقائع والحقائق والمعطيات والواقعية والأفعال والإنجاز التي يقوم بها أشخاص في تنظيمات قامت على الدعاية لغير أوطانها.. إننا نحتاج إلى المعرفة بتواضع وإلى الموضوعية والواقعية وقيم الانتماء  لنقوِّم في ضوء ذلك الإنتاج والأداء والأشخاص والقدرات وفق معايير صحيحة سليمة علمية ومنهجية تطبق من قبل مقتدرين، ويجري تمحيصها ونقدها وتطويرها بموضوعية من قبل قادرين عارفين بميادين أدائهم وببواطن الأمور نظرياً وعملياً. إن الكثير الكثير مما هو مستقر ومسلم به في مجالات ثقافية " فكرية وأدبية وفنية" على الخصوص، يحتاج إلى غربلة لطرح الزؤوان الكثير منه، ويحتاج إلى إعادة تقويم على أسس علمية منهجية ومهنية رفيعة المستوى، لكي نبني على أسس سليمة، ولكي تصلح وتستقيم تربةٌ ثقافية واجتماعية ينمو فيها الجيد والبناء والرفيع من العطاء والإبداع والأداء، وتزدهر فتزهر بما أهو أكثر تنوعاً وجمالاً مما يشتق من ألوان قوس قزح، تساهم في تكوين من يقاربها تكويناً سليماً، وتوحي لمن يتناولها ويتداولها بالخيِّر والبنَّاء والملهِم من الأفعال والأعمال والأقوال، وبالمثير لحوافز الإبداع والابتكار والخلق على غير مثال، والتحريض على التأمل والتفكير والتدبر، لكي نلج أبواب نهضة شاملة من جديد.

سورية ليست بلداً عقيماً، ولا هي خلو من التجارب والخبرات والقدرات والكفاءات.. ولكن الكثير من الممارسات الحمقاء أو القاصرة أو تلك الخالية من العمق والرؤية والمسؤولية أفقدتها بعض أبنائها المقتدرين، والكثير من مبادرات أبناء لها في حضنها كان يمكنهم أن ينتجوا ويبدعوا ويبنوا ويتقدموا بسورية التاريخ والحضارة إلى الأمام في هذا الزمن كما كان شأن سورية على مدى الزمن. وبين يدي هذه النظرة وتلك الآراء والمقولات سأقدم شيئاً مما هي عليه سورية التاريخية "ثقافة وحضارة وأداء بناء"، لعل في ذلك ما يدفع من يخربون ويدمرون ويرتكبون المجازر ويلغون في الدم ويقومون بأعمال وحشية أساءت لسورية وشعبها وتاريخها.. لعل ذلك يدعوهم إلى التوقف والتأمل، ويدفع الفاسدين والمفسدين إلى الكف عن فعلهم الدنيئ ولو لفترة من الزمن حتى تستعيد " البقرة السورية الحلابة" عافيتها ويستأنف السارقون سرقة حلبها واستثماره في الخارج، ولعل في ذلك أيضاً عبرة لعرب يضربون أختهم بسيف الحقد، ولكل من يعتبر بمدارات الزمن وتحولاته وبمتغيرات الحياة وحقائقها القائمة على حركة تحمل التغيير، فيرى بلده تنوعاً وطاقات خلاقة وتاريخاً مشرفاً و" جنة من جنان الدنيا" يمكن أن يهنأ فيها، ويراها أهلاً للسلم والأمن والمحبة كما كانت، ويرى بحكمة أنه عابر على تاريخها الطويل المجيد، وعلى نضال أبنائها المستمر من أجل الأمة العربية الذين هم بعض مشاعلها وهي بعض جسدهم والوجود، ومن أجل الأمة الإسلامية التي أضاء لها الشآميون طرق القارات والتجمعات البشرية، ومن أجل الإنسانية التي لهم بعض الفضل عليها ثقافياً وحضارياً.

 

دمشق في 20/12/2013

 

علي عقلة عرسان