خبر تأمُّل..القتل ليس طريق حياة.. علي عقلة عرسان

الساعة 09:14 م|17 ديسمبر 2013

 

 

الإماتة ليست طريق حياة بالمعنى البشري المباشر والضيق للكلمة، ونادراً ما تكون طريق إصلاح في الحياة، ولكن الموت طريق الطبيعة الذي يؤدي إلى حياة جديدة، بمعنى من المعاني، وذلك من خلال قانون تجدد البقاء الكامن في تجدد الفناء، وذاك فعل قدرة إلهية، فسبحان الذي: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ " الروم ?19?.
أما القدرة البشرية فهي أداة تقوم بدورها المنوط بها في هذا المجال: هدماً وبناء، إحياء وإفناء.. وهو دورٌ وظيفي كامن في جبلَّة البشر "الأداة" الذين تحتوي مكوناتهم الحيوية العميقة " جيناتهم" عوامل الهدم والبناء حتى فيما يتعلق بهم هم أنفسهم، أجساداً وأرواحاً، فعمليات الهدم والبناء تلك تتم دائماً في الجسم ومن ثم في الكيان العام للكائن البشري الحي الذي تتكون فيه الشخصية من تفاعل مركب ومعقد ومديد بين الجسمي والاجتماعي والنفسي على الخصوص، وتسهم المعرفة بتعديل وتطوير.. والنتيجة الحتمية موتٌ يتجدد وحياةٌ تتجدد، وبينهما حبلٌ سُريّ لا ينقطع، فيه من الحزن والمسرة ما فيه، مع ترجيح هنا وآخر هناك لمصلحة الحزن أو المسرَّة، وذاك ما قاربه أحمد المعرّي حيث قال:
إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ أضْعَا فُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
ويبقى سؤال: "هل الإنسان مخيَّرٌ أم مسيَّر" قضية فلسفية ذات معطيات وفيرة تسمح بجدلية بلا ضفاف، ويبقى المؤمن محكوماً بـ:" وهديناه النجدين"، " وكل نفس بما كسبت رهينة"، وبكل ما يجعله مسؤولاً عن فعله وخياراته وقدراته على التحكم بطبيعته وانفعالاته وشهواته وغرائزه ترجيحاً منه للخير على الشر وللإيمان على الإلحاد، بوحي من إعمال العقل في الكون والخلق والقدرة الكامنة وراءهما.
وبين فعلَيْ الإحياء والإفناء تقوم برازخ وبرازخ تضيق أو تتسع، وتقدم للكائن الحي المدى والفرص والدروس والعبَر، وهي برازخ تمر بها الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان، فمنها من يشعر بمعاني وجوده فتزداد عليه وطأة ذلك الوجود وتكبر معاناته فيه، ومنها من يمر بتلك البرازخ أو بمعظمها من دون أن يشعر بوطأتها، وهناك كثير من البشر على شاكلة كائنات أخرى لا يشغلهم ما يتعلق بالوجود ومعانيه ومفاهيمه ومدركاته ومراميه، فَكما قال أحمد الجعفي:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
والبشر على مستويات في العقل والإدراك والإحساس بالذات والكائنات والأشياء، وبالآخر الذي هو الوجود على نحو ما، حيث يراه بعض الفلاسفة والناس جحيماً، "سارتر مثلاً"، ويراه آخرون شريكاً في الشرط الإنساني والمصير الإنساني لا تكتمل الحياة إلا به وفق نظرة موضوعية تفاؤلية لا تشنج فيها ولا تمرد، وهناك من يرى الآخر النعيم فـ "الجنة بلا ناس ما تنداس" كما يقول المثل العربي، أو هي العزلة والوحدة والنفي الذي لا يُطاق حتى لو كانت الجَنة.
بعض البشر مرهفون و"مفاعلاتهم" العقلية والحسية والشعورية تعمل بنشاط كبير، ويبصرون بقلوبهم ولا يعدمون قدرة أبصارهم على نقل الخارج إلى الداخل لتتم عملية التمييز والتحليل وإعادة التركيب والإدراك حسب المعطيات والأحاسيس والمدارك، وأكثر أولئك النوع من البشر يعانون أو يسحقون تحت وطأة ما يرون ويسمعون ويفهمون ويحللون، ومن ثم فهم من يشعرون أكثر من سواهم بعبثية الأفعال وغبثية الوجود في حالات، وبعبثية الموت خاصة وعبثية القتل عامة في كل الحالات.. وربما كان أولئك على حق من زاوية رؤية محددة، ولكنهم يغرقون دوماً في المعاناة ويقفون على شفا الجحيم من خلال ما يرون ويسمعون ويتألمون، فيتمردون أو يثورون أو يتطامنون وحتى يسحقون بصمت، وتظهر انعكاسات ذلك كله في تفكيرهم وتعبيرهم وعلى ذواتهم وفي مرايا الذات والوجود لديهم.. وهم من بعض الوجوه على حق كما أسلفت.. فحين يتردى البشر في مهاوي البؤس والفقر والجوع والقهر، ويستهين أناس بالحياة والعدل والكرامة، ويشعر الإنسان بالظلم وبعجزه المطلق عن أن يستنقذ نفسه أو يخفف المعاناة القاسية أو يقدم المساعدة المجدية لسواه، وحين يتحول القتل إلى نهج ذي صبغة شبه عامة، لا سيما في الحروب ويصبغ الكينونة بالعنف والدم.. يصبح الموت إفناءً مجانياً بنظرهم، من دون ملاحظة ذات جدوى واعتبار لإمكانية تحقق توازن منظور أو غير منظور في عملية الإحياء والإفناء التي هي في صلب قوانين الطبيعة ومن مستلزمات خلود البقاء، بقاء الأنواع والأجناس لا بقاء الأشخاص المتفردين في توهم العظمة والخلود.
في بلادي التي تعيش حالة مأساوية فريدة بسبب الحرب المجنونة المديدة، بعد أن كانت واحة أمن ومحبة لا تخلو من منغصات تكبر أو تصغر ومن ظلم وشكوى وأمراض اجتماعية ذات أسباب عدة منها أسباب سياسية، لكنها تبقى دون حد الكارثة ودون همجية القتل ووحشية الإجرام.. في بلادي سوريا دخل الموت لدى كثيرين من الناس مرحلة الشعور بمجانيته وعبثيته وبكونه مجرد قتل للقتل وتدمير للتدمير ونشر للخراب والرعب والكراهية، وفشا ذلك الشعور نسبياً بين الناس مع استمرار تلك الحرب لأكثر من سنتين عجفاوين داميتين بائستين، ودخولها دوائر العمه والجنون بامتياز. وقد أدرك بعض أطراف تلك الحرب أخيراً خطرها على البلاد والعباد، لكم بعد أن أفلسوا في الحصول على تدخل عسكري مدمر يحسم الأمر لمصلحتهم ويقضي على خصومهم، فأخذت قلة منهم تدرك، "بعد خراب البصرة" كما يُقال، أن الهدف من تلك الحرب العبثية المجنونة هو تدمير سوريا الدولة والمؤسسات والبنى الحيوية فيها كافة، وإضعاف الشعب السوري وروحه المعنوية، وجعله يتخلف وينكفئ على نفسه إلى عقود من الزمن، وأن من أهم أهدافها قتل أكبر عدد ممكن ممن لا يرضى عنهم أعداء السوريين والعرب والمسلمين ويعتبرون إبادتهم راحة لهم وأمناً.. ومن الطبيعي أن يدرك الحكماء والعقلاء والمنتمون بقوة وصدق ووعي إلى الأمة العربية وسماحة الإسلام، ومن يحملون الهوية العربية والروح الوطنية باعتزاز، وينتمون إلى الشعب عقيدة وثقافة وحضارة، وكل العارفين ببواطن الأمور.. أن يدرك أولئك جميعاً ألا مصلحة في ذلك كله إلا لأعداء سوريا وأعداء الأمتين العربية والإسلامية، وأن ما يحدث هو نكبة وأكثر من كارثة على كل العرب الذين ينظرون إلى سوريا بوصفها حصناً وموئلاً قوميين. أما أولئك الذين يحتمون بالأجنبي ويعملون تحت إمرته وبتحريض وتمويل منه، فلا يملكون من أمرهم شيئاً، وعلى الرغم من أن قلة منهم أخذت تشعر هذا الشعور وتقف على مشارف ذلك الإدراك إلا أنها ما زالت وستبقى أسيرة ارتباطاتها، ومقيدة بملفاتها التي تضخمت كثيراً، فهي لا تملك أن تغير من الأمر شيئاً لأن أمرها هي ذاتها لم يعد بيدها مذ رهنت نفسها لدوائر وأموال وأوامر خارجية، وارتضت أن تكون واجهة وأداة وستارة يتقدم من خلفها العدو إلى حصن الأمة ليدمر ما يشاء كيفما يشاء، وبأيدي سوريين وعرب ومسلمين.!؟
الموت هنا لم يعد عملية إفناء لإحياء، ولا عملية هدم لبناء، ولا وظيفة طبيعية، ولا عبثية مجنونة، بل أصبح نهجاً عدوانيًّا مقصوداً وسياسة واعية لأغراضها تهدف إلى القضاء على شعب وهوية وثوابت وخيارات، وعلى وطن فيه من الأبرياء أضعاف أضعاف ما فيه من المرتكبين والمجرمين والطغاة والمتسلطين والمستبدين والانتهازيين والفاسدين والوحوش والوالغين في الدم والإثم، لتتم من خلال ذلك كله عملية سياسية دنيئة بكل المقاييس والمعاني والمفاهيم، يقتل فيها بشرٌ بشراً بوحشية تحت ذرائع وخلفيات شتى منها دينية ومذهبية وعرقية وسياسية، ومن أجل فرض هيمنة قوى وسياسات وتبعيات وخيارات ومواقف على دول وشعوب من طرف قوى ودول وشعوب أخرى ذات تاريخ في العدوان والاستعمار والقتل، ولتنصيب واجهات "وطنية" خاضعة للمهيمن والمحتل والآمر، تركض على مد بطنها لتثبت أهليتها وتنال شهادة اعتماد لها ممن يشغلها بوصفها الحصان الذي يراهَن عليه ـ وهي تستميت على التسلط، وتتآكَّلها شهوة الحكم كما تتآكَّل سواها ممن لا يرى في الحكم إلا شهوة ورغبة في الظلم والقهر والنهب وإهانة الآخرين.. وتستبد بالجميع شهوات وأمراض وفتن فينشرون الداء بعد الداء والقتل بعد القتل "دماً وناراً وعاراً" في المدى الجغرافي والسكاني والاجتماعي والثقافي لسوريا وما حولها حتى لتخال أن الأرض جحيم والبشر أبالسة ووحوش قُدت قلوبهم من صخر؟!.
وإذا كان هناك من يتصور من هؤلاء وأولئك أن البلد والشعب في سوريا، سينجوان بذينك النهج والفعل من طغيان وتسلط وفساد وفتن وأمراض اجتماعية فتاكة، ويتمتعان بأمن وحرية وكرامة، فلا أظنه على حق، لأن نهج القوة إن حكم سيقوم على مثل ما قام به سابقه من قوة وفساد نهج، وربما يزيد عليه كثيراً لكي يحكم ويبقى ويأمن ويرسخ، وهو نهج ليس بقادر على أن يعوض الشعب والبلد بأحسن مما كان عليه الحال المرفوض المطلوب تغييره، بل سيوغل أهل النهج المستجد في اتباع طرق جهنمية قد تكون غير مسبوقة لترسيخ وجودهم وتثبيت أقدامهم.. وهي طرق تؤدي إلى الموت العبثي والقتل المجاني والجنون المطبق، وتشيع هدماً للهدم وقتلاً للإفناء، وبؤساً في الأرجاء.
القتل ليس حلاً، والموت العبثي تدمير مجاني للحياة بلا بدائل حياة، والوحشية تورث الوحشية وتسوِّغها، والدم يستدعي الدم.. ومن يقرأ التاريخ البشري قراءة مسترشدٍ به، على ما فيه من صحيح ومزيف ومحرف ومشوه وملفق، تمتلئ جوانحه بالكثير الكثير من المقلقات والمخاوف والعبر، وبما يعزز القول بأن القتل العبثي ليس حلاً ولا هو طريق إصلاح وحرية وتحرير وعمران وازدهار، وأن الأساليب الوحشية في تصفية الحسابات والخلافات تقود إلى ما هو أشد وحشية واستنفاراً للغرائز البدائية، وأبعد استئصالاً لآخر مخالف أو معاد أو مناهض، وأعظم فتكاً مما كان قبله من ذلك النوع من الأفعال والأساليب لبشر ضد بشر.
نحن في الواقع المعيش أمام معطيات ووقائع وحقائق وقوانين، وكثيراً ما تعترض طرقنا نشوزات صارخة تعبر عن ذاتها في تصرفات وتدابير وتناقضات لا يقبلها عقل ولا يقرها منطق ولا يرتضيها ضمير حي.. ودوماً نجد أنفسنا في الحياة أمام قوانين الطبيعة التي تجدد الوجود وتحافظ على الأنواع والأجناس بفعل الإفناء للإحياء واستمرار البقاء، وأمام بشر هم قوى وظيفية وأدوات محكومة بتكوينها ووظائفها الطبيعية، وأمام انحراف نفوس وتطرفها وتشوهها بل جنونها الوحشي واستفحال أمراضها المستعصية، حيث تضعنا أمام نزوع بشري متنامٍ إلى الشر والقتل والإرهاب والتدمير وتبادل تصفية الحسابات مع نظرائها من الناشزين أو مع من تستهدفهم بين حين وحين لنزوع شرير في جبلتها يعبر عن ذاته بدموية مكشوفة ووحشية موصوفة، ولا ينحصر أذاه في الخصوم بل يصيب الأبرياء الذين يصبحون ضحايا بلا ذنب ولا حول ولا قوة، ويشكل طفرات مكلفة ومرعبة وهدامة في أداء عبثي هو الجنون والجريمة.. وهذا منحى أو نهج بشري لا ينسجم أبداً مع إيجابية قوانين الطبيعة العادلة المحكومة بقدرة خالقها وحكمته، بديع السماوات والأرض، فالق الحب والنُّوى، مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، حيث تتخلق الحياة بقدرته من الحب والنوى، أي مما يُظن أنه " جمود وسكون وعطالة ذاتية، بل موت"؟! وذاك هو الفعل الإلهي الخلاق المعجِز البناء، حيث الإفناء للإحياء، في وظيفية طبيعية حيوية تهدف إلى استمرار الحياة وتجديدها وتطويرها. ومن منظور الإيمان لا نعتقد أن النشوز البشري العبثي الذي سبق وأشرنا إليه هو في نهاية المطاف نوع من تمرد على القدرة والحكمة، بل هو صراع الخير والشر، ودخول الحي في محنة وامتحان، شأن فاعليه يشبه من أبواب شأن إبليس الذي رفض أن يسجد لآدم كِبراً فنُبذ، والتمس من خالقه مهلة ليُدخل آدم ونسله في المجنة والامتحان فأعطي سؤله، فيما يشبه الرهان على الإنسان الذي يقع في أحابيل الشيطان: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ?ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى? يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا " الإسراء: 62 فسبحان الله الذي له في خلقه شؤون تمتلئ من جرائها قلوب البشر بأنواع من الشجون.

علي عقلة عرسان