خبر ثلج ودماء ومطر.. علي عقلة عرسان

الساعة 11:53 ص|13 ديسمبر 2013

من تُراه يحتمل أن تكون أرض وطنه مزيجاً من ثلج ودم ووحلٍ، ومعظم أبناء شعبه ينغمسون في تلك الحمأة التي تكون الأرض السورية اليوم مضافاً إليها الدمع والألم والخوف والجوع، لتتكوَّن من ذلك كله عجينة أو جِبلّة من نوع فريد لم يألفها السوريون من قبل.؟! لم أكن أتخيل أن تهب على سورية الشعب والوطن عاصفةٌ هوجاء بمثل هذا العنف والطول والشدة والاستمرار فتحصد من الأرواح ما تحصد، وتعرض الناس والدولة إلى معاناة مرة أشد منها تراكم البؤس في زمن البؤس هذا.. لكن يبدو أن الواقع يدهم المرء أحياناً بما هو أشد حضوراً وقوة وسيطرة وسطوة مما يجود به الخيال ويصنعه التخييل.

في العاصفة الثلجية التي تهب هذه الأيام على بلاد الشام وقلبها سورية، تابعت وجهاً من وجوه المأساة القاسية التي تعصف بالزمن السوري فتزيده صعوبة على ما فيه من صعوبة، ورأيت من السوريين والسوريات، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، من هم بين شدقي طبيعة لا ترحم، وبين مخالب أناس أشد فتكاً وقسوة على الناس من الوحوش الكاسرة إذا جاعت.. رأيتهم في مشاهد ومشاهد تتفطر لها القلوب وهم فُرادى وجماعات في المخيمات المنتشرة وراء الحدود وفي تلك التي تلطخ المدن والقرى والمزارع والحقول والجرود والجبال ببقع من سواد المأساة، بأجساد بشر وحرائق أرواح، غدت كلها لطخات عارٍ في وجه من يرى البؤس البشري ولا يرحم البائسين، ومن يرى عبثية القتل والتدمير ويستمر في القتل والتدمير. الثلج يحرق كما النار، لكن في مدى القطب الآخر للطبيعة حيث الثلج نقيض النار.. أفما رأيت يا رعاك الله النبتة الغضة كيف يحرقها الثلج فتصبح سواداً بعد اخضرار وهي المنزرعة في قلب تربة رطبة يجمدها الجليد؟! أوما رأيت الشجرة السامقة المتعافية في شتاء سيبيري وهي محروقة الأوراق متفحمة الأغصان من شدة لذع الثلج لها في أثناء تموضعه " بحنان!؟" على كل خلية ظاهرة من خلاياها؟!.. لا بد أنك رأيت أو سمعت أو قرأت، وتلك صورة تقرِّب إليك وضع السوريين الصغار العالقين اليوم في الجرود وغيرها حيث ينتشرون برفقة الجوع والخوف والزمهرير، وهي تقدم لك صورة الرجال في قامات السنديان وبعضهم تحرقه العاصفة الثلجية ببردها حيث يشيب مرتين وتتساقط أحلامه وآماله عند قدميه حين يجد نفسه أعجز من أن يحمي طفله أو زوجه أو بيته أو وطنه..!! يا الله ما أقسى أن تقف عاجزاً أمام الموت والحريق والبؤس البشري وجنون القوة وأنت قلب يبكي وعينان يتجمد فيهما الدمع.!؟

الطبيعة لم تخذل تلك الشرائح الواسعة من السوريين، ولا هي خذلت سوريين غيرهم ممن ينعمون بالدفء ويحلبون الشعب صباح مساء ويبيعونه مع حليبه في الأسواق، ذاك أن الطبيعة عادلة بصورة ما ولا تفعل فعل القسزو المدمر بتخطيط وتدبير وفساد ضمير شأن بعض البشر في ذلك.. إن من خذل سورية ومعظم السوريين هم أولئك الغوغاء المتلفعون بأيديولوجيات ويثغون بثقافة ولا ثقافة ولا قيم لهم، ويتفلسفون بلا فلسفة، ويشوهون صورة الجيدين بمهارة، ويمارسون الإرهاب الثقافي بصورة خاصة من خلال ميليشيات تحترف الإرهاب والتزوير/ ويثرثرون نقداً في حين يعمل الآخرون ويُذمون، وكان نهجهم التاريخي في البلدان التي يرونها الهوامش أن يضعفوا الوطن أمام من يعتبرون أن الأوطان ينبغي أن تكون تابعة له لأنه مركز النظرية والتطبيق، وبعض أولئك لم يستفق بعد من وهمه رغم مرور ما يقرب من ربع قرن من الزمن على ىسقوط الوهم الأكبر وما كان بنظر العارفين آيلاً للسقوط بلا جدال.. ومن خذل سورية والسوريين أيضاً أولئك الذين عاشزا ويعيشون المراهقة الثورية ويعبون من أوهام العصموية المتغطرسة تلك التي لم تنفع ولم تشفع ولم تسمن أو تغنِ من جوع، بل هدمت ودمرت وأدمت ورفعت الأدعياء وأهلكت الأكْفَاء القادرين على العطاء والبناء، ونمَّت الكراهية والعنف بصورة منظمة من مارسوا ويمارسون وفق تصنيفات ومواصفات.. ومَن خذل سورية والسوريين أيضاً وأيضاً تجارٌ ولصوصٌ وأفاقون في زي ساسة وإعلاميين و" مثقفين" باعوا الوطن والشعب والتاريخ بدولارات وأوراق إقامة وجنسيات ذل، وارتموا في أحضان دول وأجهزة مخابرات وجهالة تتلفع بزي المعرفة، ومذهبيات ذوات أكل خَمطٍ منبتها فاسد ونشرها مفسِد، ورفعوا على الوطن والشعب سيف أعدائه التاريخيين من الصهاينة والغربيين الاستعماريين واستعدوهم بكل الوسائل والسبل لكي يسحقوا الجيش والبلد والشعب ليأتوا هو بقوة الأعداء والغرباء حكاماً غلى أشلاء وطن وشعب، ولم يكن في الوطن، من كان منهم فيه، إلا قمم ادعاء وسيول بلاء ولعنة على العدل والحق والحرية المسؤولة والصدق، وعلى كل من يبني ويعمل ويدرك معطيات الواقع ويفرق بينها وبين الأوهام، وعلى كل من يتمتع بقدرات وكفاءة وخلق نبيل وقيم سليمة وضمير حي.. ولم يكن أقل من أولئك خذلاناً للشعب والوطن والتاريخ في سورية الحبيبة: الظالمون والمستبدون والفاسدون والانتهازيون والفئويون، والمذهبيون المستترون صوتاً المعلَنون فعلاً وردود أفعالٍ وممارسات سقيمات الغاية والنهاية، ويضاف إليهم مَن هم في حكم من الحواشي والاتباع أولئك الذين كان دورهم وهمهم تأليه الفرد والصراخ بالشعارات لإسكات العقل وعقل الألسن، ومن كانوا يثبطون همم الصادقين المخلصين للوطن والشعب والأمة، ويقفون بشراسة بوجه المصلحين والقادرين على الأداء بمهارة وخلُق، ويُحسَب في ذلك الفريق أصحابُ النظرة الضيقة والأفق الأضيق والصدر الحرج ممن وُضعوا على مشارف الارتياد لأمة العرب كلها فاختاروا الارتياد لزاروب ضيق في مجال تفكير وتدبير أضيق.. ومنهم أيضاً من عتوا عتواً وغالوا مغالاة في الموالاة للطائفة أو المذهب أو العرق أو الحزب أو الفئة من الناس أو للأشخاص المتنفذين والمتسلطين، تاركين الخضم الواسع: "الشعب والوطن والمواطَنة والحكمة وشرف العروبة والتسامي القيمي الرفيع وسماحة الإسلام الذي جاء للناس كافة ورحمة للعالمين"، ليسبحوا جميعاً في المياه الطحلبية الضحلة.. فصار فريق من كل أولئك الخاذلين كافة مطرقةً وصار الآخر سنداناً، ووقع الوطن والشعب والدين والهوية والقيم الوطنية والقومية والإنسانية كلها، كما وقع لحم الناس وعظمُهم، بين المطرقة والسندان.. ثم تنادى هؤلاء وهؤلاء على من ينصرهم فسعى الموت والدمار والإرهاب إلى وطن الحياة والعمران والأمن " سورية" على قدمين راسختين، وأخذ البلد الحبيب، سورية المستقلة، يفقد المحبة ويتحول إلى العداء والفوضى والرعب، وأصبح مساحة لتصفية الحسابات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية، وصار الصراع في سورية وعليها يخاض بسواعد أبنائها ومن يناصرهم استناداً إلى انتماءات مرَضيَّة معدية، وصارت الشام أرضاً مفتوحة ينفذ فيها أصحاب الاستراتيجيات والسياسات والمصالح أهدافاً ومخططات وغايات وثارات.. وهي وحدها تدمى وتدفع الثمن، نعم سورية الشعب والحضارة والتاريخ هي من يدمى ويدفع الثمن.. وأي ثمن.. بينما يمضي من يسمي نفسه ناطقاً باسم شعبها في غيه يعوق الحوار والحل السلمي بأمر آمر، ويتقدم منه بشرط آمر، ويقبض في الحالين من مالك ومستثمر آمر، ويبقى الشعب في سورية يعاني القهر والألم،  وتبقى الشام جرحاً نازفاً لأشهر وأشهر بل لسنوات وسنوات.؟!

    أنا اليوم أرتعد وأنا أقف أمام البؤس البشري في أحد أشد تجلياته قسوة، ارتعد بوصفي إنساناً يشارك الناس إنسانيتهم، وبوصفي مواطناً سورياً يقف أمام محنة شعبه ووطنه، وبوصفي عربياً في سورية العربية ذات الأهداف القومية والثوابت المبدئية والتطلعات العربية المشروعة.. يحمل وتحمل أهدافاً عربية سامية، ولا يليق بها الصَّغَار، ولا يجوز أن يدمرها الصِّغَار!! أقف مزدوج المحنة فاشلاً في الامتحان إشكالي المشكلات المشتبكة أو المتشابكة في ثنائيات عضوية معقدة: إنسانيتي ومواطنتي، انتمائي القومي وعقيديتي الدينية الشاملة الإسلام، حقي وحق الآخر في الوجود والاختلاف والمساواة، مسؤوليتي عن الدم والدمار والموت وانعدام مسؤوليتي في الوقت ذاته انعدام مسؤولية العقل العجز عن الفعل في زمن الجنون.. إلخ، وأجد أن كلاً من تلك الثنائيات خنجراً يماَنياً عريقاً "جَنْبِيَّة ذات شُعب"، ينغرس في كل من كليتَيّ، وفي كبدي ورئتي، وفي قلبي وأمشاج أحشائي.. والألم صاعق صاعق صاعق.. فماذا أفعل؟ ومن تُراني أناشد وأنا في وضعي هذا وألمي هذا مع وضع شعبي هذا؟! ومن تُراني ألوم؟ وما جدوى اللوم مع جريان الدم ليل نهار والاستهانة بالحياة وتجمع الذئاب على وعلٍ شامس يطلب الحياة؟!، وممن تُراني أنتظر موقفاً يليق بوطن عريق وشعب ذي قيم وتاريخ وحضارة وفضل على الحضارة الإنسانية كلها كسورية؟!.. فسورية، لمن يعلم ولمن لا يعلم، هي مهد أقدم للحضارة، وهي التي منحت البشرية الأبجدية فانتثلت الكتابة من المقطعية والمسمارية إلى تركيب الكلمات من حروف والجمل من كلمات.. ومن ثمَّ دَلَف البشر إلى مداخل المعرفة المسجلة بأسلوب علمي تلك التي ساهم فيها كل إنسان استناداً إلى مبدأ الأبجدية، أبجدية أوغاريت الكنعانية.. فغدت سورية بذلك ولذلك وطناً حضارياً ثانياً لكل إنسان أياً كان وطنه الأصلي وجنسه.

 اليوم سورية تُستهدف، أو على الأصح، يستمر استهدافها ويتصاعد، وتأتي الطبيعة على قدرٍ لتشارك غلاة البشر ومسعوريهم غلوَّهم وسُعارَهم فتأخذ قسطها في إلحاق الألم بشعبي وبالأبرياء من أبناء وطني.. وأجدني اليوم أقرب ما أكون إلى الأطفال، أولئك الذين يفترسهم البرد والجوع والخوف، وتقرأ في عيونهم الماساة وهم يفترشون الأرض الرطبة الموحلة في خيم لا تكاد تهدأ حتى يقتلعها الريح ويطوِّح بها وبساكنيها هنا وهناك، فوق الثلج المدمَّي والتراب الحزين.. أنا مع الأطفال الذين يتاجر بألمهم من يتاجر في مخيمات وبلدان، ويعلن أنه حامٍ لهم في أماكن ومواقع من بلدي ليكسب مالاً أو عطفاً أو مساحة في إعلام لا يتاجر بالآلام.. أنا مع أطفال يعمل على "تحريرهم" من البطش والإرهاب من يعلن أنه يفعل ذلك فيصبحون بين نارين " محرِّرتين" أو بين نيران " المحرِّرين"، فيهربون إلى السهول والجرود والمزارع والقرى فتلتقطعهم الطبيعة بأصابعها الثلجية وتعصف بهم وبآمالهم الريح.

ألا يا من تقولون إنكم الأشد حرصاً على الشعب السوري وصغاره من سواكم، وترفعون السلاح باسمه وتقتتلون باسمه.. ألا امنحوا أطفاله فرصة الأمن والدف وكسرة الخبز ولو في خيمة موجلة أو مدرسة مهدمة بعض الجدران مخرَّقة بالقذائف والرصاص.. ألا أمنحوهم قليلاً وابتعدوا عنهم قليلاً، ثم اقتتلوا واقتتلوا واقتتلوا إلى أن تبشموا من الدم، ولكن من فضلكم ابقوا بعيداً عن الأطفال وبراءتهم.. ألا حرِّروهم من تحريركم لهم فقد شابوا وهم أطفال؟!.. ألا وإننا ضقنا بالاقتتال والدمار والجوع والخوف والدموع، وبتجار السوق وتجار الأزمات كباراً وصغاراً، من تاجر المفرق وصاحب دكان الخضرة إلى مالك الديار وتاجر السياسة وآخر انتهازي وانتهازية يحِلان قتل الأخ والجار في سبيل علوِّ كعب هذا وذاك من المسؤولين و" الثوار؟!" والسماسرة والتجار.. ألا ضقنا وضاق بنا المدى الرحب والعالم الطيب، أما العالم الذي يريد أن يقضي علينا بأيدينا ليرتاح ونشقى فيضيق بنا إذا حكَّمنا العقل والمنطق والدين والضمير في شؤوننا وهدأنا قليلاً..!! ألا فضحتمونا وأدميتمونا وأهنتمونا ودمرتم بيوتنا وحقولنا وتفوسنا وأحلامنا وآمالنا وحتى رغبة الحياة فينا؟! أفلا يكفيكم هذا؟! أفلا يكفي ما لحق بكم جميعاً وما ألحقتموه بنا جميعاً، وبسورية الوطن وحصن الأمة ومعقد رجاء الكثيرين من أبنائها المخلصين من بؤس وخراب وسوء وعار؟!.. أفلا يكفي ما نرى من دمار وخراب وموت، وما لحق بمن يشعرون بمعانى الانتماء للأمة العربية من غضب ويأس وعار من جراء كل ما جرى ويجري في سورية الأمل القومي والمئل القومي؟!.. ألا كفي، وأَخرجونا من براثن العذاب الذي نحن فيه بين النار والثلج والدماء والماء وقسوة الحياة والأحياء.. ألا كفى.. كفى.. كفى.. واتقوا الله..؟!..

ماذا قلتُ؟ هل قلتُ: اتقوا الله؟! أعوذ بالله الذي لا يُستعاذ بسواه.. فقد يَعُدُّني كل من يقاتل ويقتل ويقتتل ويحرض على الاقتتال من هذا الفريق أو ذاك، من هذا البلد العربي الحنون أو ذاك، ومن هذا البلد الأجنبي الصديق أو ذاك.. وتعدُّني أذن تسمعني هنا أو جدار يتنصت علي من هناك.. فيعُّني/ وتَعُدُّني كما أسلفتُ مكفِّراً له، أو كافراً به، أو زنديقاً في عصره وفي مساحة نفوذه وأمره.. فيستحل دمي باسم الوطن والعدل والحرية والثورية والعذابات البشرية، أو باسم الله.. تعالى الله عن ذلك سبحانه، فقد جاء في الصحيح قولٌ مفاده: ".. أن هدم الكعبة المشرَّفة حجراً حجراً أهون على الله من أراقة دم مسلم بريئ".. جل الله سبحانه، وتبارك شانه، والحمد له في السراء والضراء، فله الملك وله الأمر وإليه الرجعى.. أما نحن فغبيده، وآخر دعوانا " أن الحمد لله رب العالمين"، عليه نتوكل وبه نستعين.

دمشق في 13/12/2013

 

                                        علي عقلة عرسان