خبر فهلاّ أضأت النهارَ دمشق؟!.. علي عقلة عرسان

الساعة 11:01 ص|29 نوفمبر 2013

 

دمشقُ..

تلوحين في موج هذا الخضم من الحزن والبؤس.. طوقَ نجاة،

فيغمر نفسي رجاءٌ، ويشتدّ فيَّ نشيدُ الحياة،

ويصرخُ توقي إليك:

"" حياتي دمشق..

وصانعةُ المعجزاتِ.. وفخراً تكون دمشق..

فيا زمن المُهلكات تفيا بظل الخلود.. ستفنى وتبقى دمشق..

ويا ليت قل..".

وتفتح " يا ليت" صدرَ المحيط،

تشقُّ عباب الدماء إلى التربة البكرِ.. تزرع قمحاً أصيلاً هناك،

وتغرس زيتونة في الحقول..

وتبقى انتظاراً لطير الأمانِ يظل الزمانَ..

يُظِلَّ البلاد، ويحيي العباد..

وتبقى انتظاراً لأحلام طفلٍ بدفءٍ وأمنٍ وعام سعيد..

بعهدٍ من النور فيه الجديد..

فلا تهربي يا دمشق من الحلم والحالمين،

وأصغي لصوت الصغار..

لمن يفرش الليلَ بالأمنيات ويفقدها في النهار..

لِمَن.. مِن الموت يصحو.. يغني:

"أزوِّق ليلي بشمعٍ، أرطِّب دربي بدمعٍ،

وأرسمُ دارة ضوءٍ بلون دمائي،

لينجابَ ليلُ يغشِّي سمائي..

فأصحو على سَريان الذبول يبدِّد مائي،

وتذوي بقلبي الحقول..".

أقول، أقول، ويذوي..

يذوب رويداً رويداً مدى ما أقول.

يمرُّ حنيني بدارة نارٍ فدارةِ نار..

وتُمحى رسومي، ويُمحى بعيني المدار..

ولا تمَّحي من عيوني دمشق.

 

 *  *  *

 

دمشقُ.. دمشقُ..

تلوحُ ببابك كلُّ المنائر حين يعُبّ الظلامُ دروبي،

وأسمع صوت البشائر من "قاسيونك" يغزو كياني كقرع طبول الفرَح،

ويجتاح شدوي نحيبي،

يبدِّد ظلَّ شحوبي،

ويمحو غيومَ التَّرَح.

وتَنْبُتُ في رئتيَّ الأماني،

وفي مقلتيَّ تلاوينَ قوس قُزَح..

فأركض.. أركض.. أركض..

بين الفُرات العريقِ ونهرٍ عَصيِّ يطوِّع كل العُصاة..

أدحرج ناري على الماء، أحرّق شوك دروبي،

ألملم نفسي، وأسجر يأسي،

وأجمِّعُ أهلى وأشتات قومي لعرسي..

وأصرخ بالناس: هيا.. وهيا..

لنمسح بالعفوِ كلَّ الذنوب.. ونصنع للناس يوم الفرَح.

 

*  *  *

تسحُّ دموعي على وجنتيكِ دمشق،

فأقرؤها زهرةَ الياسمين،

وضمة وردٍ.. وساقيةً من حنين..

وماء الحياة يفيض على العالمين..

أئنُّ.. تئنُّ دموعي..

ويثقل قلبي الأنين.. 

فأمشي حزيناً.. على شفرتين وطين..

أعود من الغوطتين إليكِ..

إلى باب "جَيرون".. دربِ الطيوبِ.. وخان الحرير..

ومئذنة الأمَوي العروس..

إلى نبع نهرك، نهرِ العطاء..

إلى بردى حيث كل الرجاء..

أعود.. فألقاك حزناً مصفَّى.. 

وألقاه دمعَ القرون،

ومن ضفتيه يضجُّ البكاء..

وفي ضفتيكِ تُقيم المنون..

فأبكي وأبكي ونبكي على من فقَدِنا..

على شامِنا.. على عزِّنا والبناء..

على الماء يجري حزيناً وفيه صبيبُ الدماء..

على "نجمتين"، و"عالي السناء يحاكي السماء"..

على حبنا والوفاء..

وأسأل عنك النهارَ.. فيسأل عنّي المساء..

أضيع.. نضيع دمشق.. يضيع الضياء..

ويسألنا الأمسُ عن يومنا،

وتسأل كل الشآم عن القادماتِ.. أيامِنا..

وعن صبوات السماء إلى أرضنا..

فأغرق في عتمةٍ من يباب..

وأصبح جنحَ الغراب..

يباباً يغطي اليباب..

يرينُ الغيابُ علي وأضحي الغياب..

وينساب ليلٌ بهيمٌ، ويغدو الصباحُ بحكمِ السراب..

يروح الحمامُ بعيداً بعيداً إلى غربةٍ من رُخام..

ويبقى بقربي صراخُ الأنام..

ونافورةٌ في فضاء المقام..

تنزّ دماءً وتبكي، ويرفدُها قاتلٌ لا ينام..

وتهذي مدى الوقتِ: "هذي دمشق"؟!.. وأهذي:

"أهذا أنا يا أنا في دمشق.. قبورٌ هناك وموت هنا..؟!

أهذا أنا.. في الشعاب دماء..

وفي الشام موتٌ وبؤسٌ وعيشُ الإماء..

وهينمةٌ بالأماني تشيخُ.. وما من رجاء؟!

أهذا أنا يا أنا في دمشق..؟!..

ونبقى على صهوات الدموع سؤالاً..

إلى أن ينام النهارُ على دمعِنا..

وتُدفنَ في الترب أعمارنا..

ولكن على العهد نبقى دمشق.. 

نموت وتحيا دمشق.

 

*  *  *

أراك الخلاصَ دمشق، وأخشى عليك ومنك وفيك..

وأخشى على الشام إن طالت النارُ أطرافَ ثوبكِ.. أخشى بنيكِ..

فأنت الشآم.. وأمّ العواصمِ، أمّ العروبةِ،

أمّ العباد، ووعد السماء لكل البلاد..

وأبحث عنكِ وأبحث فيك عن المعتَصَم..

إلى الأمَويِّ أشد الرحال..

عَجولاً أروح كريح الشمال..

وأرفع صوتي هناكَ، فيرفع صوتاً معي.. ونقول معاً:

".. أيا أمل الآملين دمشق..

متى نرفع السيفَ عن بعضنا..؟!

متى يُزهر العقلُ في أرضنا؟!    

متى يرفدُ العزمُ نهرَ الحياة بأصقاعنا..؟!

متى تستظل الحياةُ بنا..؟!

متى.. ومتى.. ومتى.. يا دمشق..؟!

وألهثُ.. ألهثُ.. بين البيوت..

وطفل يجوع، وطفل يموت..

وألهثُ.. ألهثُ..

تسبق قلبي المخاوفُ، يسبق قلبي الأمل..

أُداري دموعَ النوائب      أرجو دموعَ الفرَح

وتَفرش عيني الربيعَ      فيأكل قلبي الترَح

وألقاك بين الجراحِ      على شفتيك المرَح

تقولين:

"هذا شقيقٌ يخون      وهذا حفيدٌ فلَح؟!

وهذا صديقٌ وفيٌ      وهذا رفيقٌ سَرَح

وهذا عدوٌّ لئيمٌ        ولا عُجْب إن هو ذَبح

وهذا، وهذا، وهذا..    وصدرك للنائبات انشرَح

فأعجب منك، وأعجب فيك.. وهزؤك بالنائباتِ اتَّضح

أقول هي الشام تسخر بالعابرين على ظلها كعبور الشبح

وفيها فنون الحروب، وفيها فنون الكلام، وفيها فنون المرح..

أما زلت تهوين هذا دمشق..                

ويغريك ذوب الكلام نضاراً..

ورفع النشيد شعاراً..

وصادحُ ليلٍ صدَح..!؟

أما تبت يا جَنة من فتون..

وعشقاً تجاوز حدَّ الجنون..

وحضناً يحنّ لكل حنون؟!

أما تبت يا عشقنا والحنايا وكل متون الظنون؟!

أما زلت مهدَ الصِّبا والمرَح؟!

نئنُّ.. تصولين..

أماً تصون البنين، وتزأرُ، تدفع عنها المنون..

وتتئمُ فيك القرون مِراسلً، تثور الثغورُ،

ويعلو نشيدُ كقصف الرعود.. وغيث من المعصِراتِ هَتون..

يقول: الحياة دمشق.. وفرسانها يُجحِمون الحزون..

تهزين عودَ الزمان دمشق   فيسقط مجترِحٌ.. ما اجترَح

وتبدين أعلى من النائبات   ومن كل قَرحٍ إذا ما قرَح

فأحني لك الرأس أماً رؤوماً، وأدخل منك بهيَّ الجِنان..

يطوِّقني الزهر قبل الجُمان    ويحضنني الحُبُّ قبل الحَنان..

وأصحو على العيد في كل بابٍ.. على العشق يحتضن البيلسان..

أصيح: "دمشق.. وحق الإله دمشق".. وتجري دموع الفرح.

 

 *  *  *

دمشق.. أراكِ..

ولا ينظر القلب نجماً سواك..

أراك.. يبرعِم زنداك، رغم انصباب الدماءِ، نهاراً..

أراك مناراً.. أراك بهاء الحياة..

أضيئي إلى الصبح درباً دمشق.. وكوني النجاة..

وقولي: "تعالوا.. تعالوا..

وهاكم خذوا من دمشق النهار وعزماً..

وسيروا على ضوء قلب دمشق إلى أمةٍ واحدة..

إلى وقفةٍ ماجدة..".

أشام.. أشام.. أقول:

"الإناء الكبير يضمُّ الإناءَ الصغير،

ومن أسكَرته الوعود فأضحى عمياً جهولاً..

على ساعديك يصير البصير..

برحمةِ أمٍ، وحكمةِ شيخ، وطهر نبي، وحرص القوي القدير..

تعالي على الجرح وابني صروح السماح..

فأنت الإناء الكبير، وأنت الندى والفلاح.."..

فهلا فعلت دمشق، وهلا عصمت الصِّغار..

وهلاّ أضأت النهار..

فإنا انتظارٌ دمشق..

وإنا انتظار.

 

                                                       علي عقلة عرسان