خبر الذاكرة في خدمة المستقبل.. علي عقلة عرسان

الساعة 05:40 م|22 نوفمبر 2013

يكثر الكلام عندنا في خضم الحرب عن دور الثقافة وأهمية تطويرها وجعلها بمتناول الأجيال القادمة لتكون مؤثرة تستهم في التكوين والتغيير من جهة، ولتكون قادرة على خلق مناخ يمكِّن من تجاوز ما فعلته الحرب وما تقتضيه استعادة قيم العيش المشترك، تلك التي بقيت راسخة في مجتمعنا لقرون وقرون من الزمن..

وعلى هذه الطريق أريد أن أقدم شيئاً من مخزون الذاكرة ليكون في خدمة المستقبل، وهو من مقاربة لتجربة قاسية وثرية ومعبرة في المجتمع الألماني يوم انقسم إلى دولتين ثم عاد ليهدم جدار برلين ويعيش في ألمانيا الموحدة.. واقدم هذه التجربة من ألمانيا الديمقراطية التي كانت تمثل موقفاً متشدداً في العهد السوفييتي الذي كان مؤثراً فيها ثقافياً وسياسياً، وأقدم ذلك من خلال تجربة عشتها، أستعيدها بحذافيرها وليس من خلال تنظير أصبه على الورق.

  وأستعيدها كما سجلتها منذ عقود من الزمن دون زيادة أو نقصان، لأقف على ما كان واقعاً ترتفع فيه رؤية ويستنطق استشرافاً، وأصبح من ثم متغيرات تم التطلع إليها والإرهاص بها من خلال فكر ورأي وحركة شباب ومجتمع.. وأعيد قراءتها على مسامع من يسمع، لأن فيها أكثر من درس لمن يريد أن يتعلم من التاريخ وتجارب الشعوب، وإرهاصات الفكر والأدب وتطلعات أهل الرأي وأحلامهم. إنها صفحة تعود إلى ما قبل هدم جدار برلين، إلى عهد كانت فيه ألمانيا لديمقراطية دولة.. ولكن في أحشائها كانت أحلام وتطلعات تنفذ من بوابة "براندنبرغ" إلى برلين الغربية وأوروبا الموحدة.. هل ترى في ذلك الذي سجلته وأعيد اليوم قراءته، بعض الفائدة.؟! أرجو ألا أكون مخطئاً إذا قلت: نعم. وهذه هي صفحة من صفحات الذاكرة كما سجلت تماماً في حينه.

 قال توماس مان في عام 1952: "لدي انطباع بأن جمهورية ألمانيا الديمقراطية تبدي الاحترام والتقدير الكبيرين للفكر إذا لم يكن معادياً."..وأضيف إلى قوله:" أنها اليوم تفتح صدرها للحرية وتتسع لرأي المعارضين وتناقش الفكر المعادي.".

زرت ألمانيا الديمقراطية أكثر من مرة، وأتيحت لي فرصة رؤية شوارع وساحات وأماكن كانت خراباً وأصبحت الآن تعج بالحياة والعمران على رأسها مدينة درسدن. كنت من أوائل الذين دخلوا برج برلين، ومشيت على قسم كان ترابياً بين شارع "انتر دن لندن" وقصر الثقافة، في الوقت الذي كان فيه عمال البلدية يقومون برصف الطريق، وفي ذلك الجزء من الشارع العريق حضرت، في دار للفن هناك، عرضاً متميزاً لأوبرا اسبارتاكوس، وفي إحدى زياراتي وجدت "شتات برلين" يرتفع في مكان كان بالنسبة لي فارغاً أو يكاد. وقد زرت في ألمانيا الديمقراطية عدة مدن إضافة إلى برلين، وفي أوقات مختلفة أذكر من تلك المدن: لا يبزع ـ بوتسدام ـ فايمار ـ درسدن ـ مكديبورغ ـ شفيرين ـ وفرانكفورت غوته، وقرية صغيرة تحمل اسم ذلك المعمل العريق الذي يعرف اسمه كثيرون في العالم "ما يسن"، مركز صناعة الخزف الألماني المتميز الذي يعود تاريخه إلى مئات من سنين خلت.

ويبقى في ذاكرتي من ألمانيا الديمقراطية صور وانطباعات وحالات ذكرى منقوشة بعمق في أعصابي ولا أقول في قلبي.. منها ما حدث في "البرلينرانساميل" حيث شاهدت عدداً لا بأس به من مسرحيات برتولد بريخت، ومسرح النو الياباني الذي شاهدته هناك لأول مرة في حياتي، وعرضاً تربطني به صلة خاصة هو مسرحية "المأساة المتفائلة" من تأليف الكاتب الروسي فيزيفولود فشنيفسكي، تلك المسرحية التي ترجمتها وأخرجتها للمسرح القومي بدمشق، وكان لي بعد مشاهدة عرضها هناك نقاش مكثف مع المخرج والممثلين خلف الكواليس خرجت منه مكللاً بباقة كبيرة من الزهور كان قد تلقاها الممثل الأول على الخشبة، فأصر على أن يقدمها لي بعد الحوار.

في "المتروبوليتان" تلقيت خبر حرب تشرين 1973 بعد ساعتين من بدئها، كِنت في كواليس المسرح ومعي فرقة فنية ( فرقة أمية للفنون الشعبية ) وكنت مديراً للمسارح والموسيقا آنذاك، وبهذه الصفة كنت مسؤلاً عنها. وكان علي في ذلك الوقت أن أتخذ قرارات صعبة في ظروف صعبة، وكان ذلك، فقد تحولنا إلى جنود في جبهة العمل خارج البلاد، غيَّرنا برامجنا وطفنا ألمانيا يرافقنا ضابط سابق في الجيش الألماني هو سيدة حازمة ودقيقة، ثم طفنا بعد ذلك هنغاريا، نرفع صوت الوطن وننادي بالتحرير ومقاومة الاحتلال، وتحولت لقاءاتنا أينما ذهبنا في ألمانيا إلى لقاءات تضامنية، بالمفهوم العام الشامل والفعلي لمعنى التضامن، وسأذكر دائماً قرية ألمانية متواضعة على الحدود، قدم لنا أطفالها ثمرة يوم عمل قضوه في جمع ثمار من الغابات وأهدوا قيمتها لشعبنا عن طريق جمعية الصداقة الألمانية ـ السورية.. إنه عدد محدود جداً جداً من الماركات، لم أعد أذكر الرقم الآن، ولكن اللفتة ذاتها لا تقدر بثمن. يكفي أن يشعر الأطفال الألمان بعدالة قضيتنا وأن يبذلوا جهداً للتضامن معنا لنشعر أننا في وجدان المستقبل. وسوف أتخذ من تلك الحادثة مدخلاً لانطباعاتي عن المؤتمر العاشر لاتحاد الكتاب الألمان الذي عقد بين 24 ـ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 في برلين.. فأقول إن الثقافة في نهاية المطاف قيم ومعايير أخلاقية وروحية وإنسانية، قيم علم وقيم عمل تجعل للحياة معنى، ولكل جهد يبذل فيها وظيفة تحقيقاً لغاية سامية. إننا لم نُخلق عبثاً، ولا ينبغي أن نعيش عبثاً أو هملاً.. فهذه الهدية الثمينة "الحياة" يجب أن نستثمرها جيداً، ونعيش دقائقها بغنى، ونجعلها ثرية بما يكفي.. لنا ولسوانا، فهذا نوع من فضل وذكرى نتركها في الأرض. والحياة حين نستثمرها جيداً توفر لنا المتعة، وللأجيال الفائدة، وللنوع البشري استمرار البقاء والتطور والتسامي. وفي الحياة نوسع أفق المعرفة، ونمخر، بالوعي المعرفي, عباب المجهول لنكتشف العالم وذواتنا ونوسع رؤانا، لكي نحلم ونعمل ونحقق الأحلام وتتسع رقعة سيطرة الإنسان على المجهول، وتزداد قوانين المعرفة العلمية لديه وتغدو في خدمة الحياة والإنسان. ولا أظن أن هناك طموحاً أكبر وأسمى من ذلك الذي ينشده الأدب والفن وترتاد عوالمه الكلمة والنغمة والحركة واللون، من أجل أن نصوغ مستقبلاً ورؤية، أملاً وعملاً، يشعر معهما الإنسان بالسعادة في ظل أمن من جوع وخوف، هما أهم ما يحتاج إليه الكائن الحي.

والكتاب الألمان الذين كان لي شرف حضور مؤتمرين من مؤتمراتهم، التاسع والعاشر، كانوا يضعون في مقدمة اهتماماته التزامهم، أو التزام الأدب، بالسلام والاشتراكية والحياة الحرة الكريمة للأفراد والشعوب والأوطان في عالم يتسع للجميع ويتطلب غنى الثقافات وتنوعها وتفاعلها من أجل إغناء الحضارة والحياة وجعلها أكثر لياقة بالإنسان.. فهل هم بذلك يجسدون نداء إعلان الجمهورية الذي ترافقت معه انطلاقة ثقافية جديدة إنسانية ومسؤولة في ألمانيا، أم أن الأدب خاصة والتوجه السليم للثقافة عموماً هما اللذان أعليا أصلاً النداء الذي يقول:"لقد نشأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 1949 على الخريطة دولة ألمانية شعارها وإلى الأبد، لا الحرب بل صيانة السلام، ولا للكراهية بل الصداقة بين الشعوب. وهنالك لأول مرة في التاريخ، دولة ألمانية، يعلن شعبنا وبكل سريرة نقية وأمام العالم، مناصرته لها."..

وسجَّلا على حدود ألمانيا الديمقراطية شعاراً يقرؤه القادم والمغادر: "لا يجوز أن تنطلق أبداً حرب عالمية جديدة من الأرض الألمانية".؟

أياً ما كان الأمر فالنتيجة الواضحة تشير إلى أن الثقافة والعمل السلمي يعتليان العرش في تلك البلاد التي أفسدت فيها النازية السلم والثقافة في أيام غير بعيدة، وهي تسير الآن بتصميم في اتجاه إنساني، وتردد مع بتهوفن وعلى أرضية من إبداعه العظيم "كل البشر سيصبحون أخواناً".

ولكن هل ألمانيا الخمسينات هي ذاتها ألمانيا الثمانينات؟! وهل الكتاب الألمان في المؤتمر التاسع، هم أنفسهم في المؤتمر العاشر؟! كثير من الوجوه رأيتها والأسماء سمعتها في المؤتمرين، وأكاد أقول بإخلاص: إن الشخص ذاته ليس بالضرورة هو هو. ولا أعني ذلك التطور الذي لا بد أن يرافق نمو الشخص والمعرفة والتجربة في الحياة.. فهذا طبيعي، ولكن المناخ تغير فتغير الأداء، وتحركت في الأعماق أفكار وكلمات وآراء واعتراضات وأسئلة تنتظر أجوبة.. والبحث مستمر.. فالحياة حركة والحركة تحمل التغيير.

لقد أثرت تماماً رياح غورباتشوف على المناخ الألماني الديمقراطي، كما أثرت في مناخ سائر البلدان الاشتراكية، وربما في كثير من البلدان. و" العلنية والديمقراطية وروح التغيير وإعادة البناء" تتجلى في كثير من المواقف والآراء والكلمات. وحتى أكون دقيقاً لا بد أن أشير بوضوح إلى أن ما لمسته في المؤتمر العاشر لاتحاد الكتاب الألمان، وفي لقاءات الكتاب في عهد "العلنية والديمقراطية" كان أكثر وضوحاً واعتراضاً وجذرية، واستُعملت الحرية في بعض الحالات القليلة استعمالاً متطرفاً بشيء من العداء المكشوف والمناقضة الصريحة لثوابت فكرية وممارسات مسلم بسلامتها في العهود السابقة جميعاً.

لقد كان الصديق هرمان كانت على حق حين قال في افتتاح المؤتمر: "نتكلم الآن من برلين المدينة القديمة التي تتجدد، بأفضل مما تكلمنا في أية مرة سابقة.. اللحظة هي الآن.. والبناء يعلو.". كان على حق فالكلام هذه المرة مختلف، إنه يحمل طعم مناخ مغاير لكل مناخ سابق.. "في هذه القاعة لن نتكلم فقط عن الفاشية ولكن عن الحرب الباردة أيضاً، وندافع عن الشعر ونطرح قضايا الكتاب، ولا بأس في أن نقول أن كتاباً مشهورين غادروا إلى الجانب الآخر.. نهتم بكل ما يعني الأدب ذلك الذي يلعب دوراً كبيراً في أنسنة الإنسان". كما أشار ستيفان هرملين.

إن المناخ الجديد يفرض نفسه، ورياح التغيير تهب على ألمانيا الديمقراطية أيضاً، والمناخ الجديد يرسم معالمه السياسة الجديدة التي تجلت هناك في كثير من مظاهر التفكير والتعبير، وفي الممارسة الديمقراطية العلنية.. إنه المناخ الذي لا يمكن تجاوز معطيات واقعية بدأ يضعها في الحسبان بشكل مسموع، وحدد إيريش هو نيكر الأمين العام للحزب رئيس الدولة بعض معالمه حين قال في 16/12/1987: "لا يوجد بديل مقبول عن التعايش السلمي بين دول ذات أنظمة اجتماعية متباينة، ويستنتج من ذلك أنه ينبغي استبدال المجابهة بتعاون قائم على قاعدة عريضة. وهذا ما ينطبق أيضاً على العلاقات مع جمهورية ألمانيا الاتحادية. ونحن على يقين من أنه على طريق كهذه فقط، يتم بناء الدار المشتركة: "أوروبا". دار سلمية لجيرة حسنة بين دول اشتراكية ورأسمالية (...) دار لا تشكل فيها المجابهة، بل التعاون بين دول ذات أنظمة اجتماعية متباينة، القانون الأساس لنهج كل بلد ولقيادة كل حزب ودولة". وهذا المنطق يحل محل منطق آخر تجاوزته المعطيات المعاصرة، ويشكل مدخلاً أكثر واقعية في السياسة الدولية وفي العلاقات الاجتماعية والثقافية بين الدول والشعوب والثقافات، فكيف بين دول لشعب واحد وثقافة واحدة.

هناك جيلان من الكتاب: جيل يعيش بعد رحلة الحرب وما قبلها ويعيش للمرة الثانية رحلة ما بعد الحرب. وهو جيل له رؤية: تعذَّب وتشرد وانتهك ضميره وتعرت روحه وجرحت على أكثر من شفرة سيف، ولقد رأيت كثيرين منهم، واستمعت، من فوق منصة مؤتمرات دولية، اعترافات وإدانات للذات صادرة عن ضمير يفيض بالمعاناة وشخصية تريد أن تتحمل وزر الآخرين وذنوبهم..قال أحدهم أمام حشد كبير من الكتاب في مؤتمر اتحاد الكتاب الألمان:

"كنت جندياً على الجبهة الروسية ووصلت إلى مشارف موسكو، وهناك تعلمت درساً. امرأتان أثرتا في ولقنتني كل منهما درساً في الحياة. تلك الفلاحة الروسية على مشارف موسكو، وآنّا زيغرز الكاتبة والمناضلة الألمانية. آنّا علمتني الإصرار والنضال بروح إنسانية عالية في أصعب الظروف، والانتماء الواضح للفقراء وللاشتراكية.. وقد كانت رئيسة لاتحادنا. والفلاحة الروسية سألتها وأنا في قرية على مقربة من موسكو وبالبزة العسكرية الألمانية: هل موسكو بعيدة من هنا فقالت: برلين أقرب لك منها. يومها رمقتها باحتقار ولكن درسها نبت ونما في دماغي وهو يكبر حتى اليوم".

 ـ وجيل الشباب الجديد الذي ينظر إلى الكبار على أنهم انتهوا، أدوا أدوارهم وما عليهم إلا أن يتواروا وأن يخلوا الساحة للنشئ الذي يتفتح في أفق ومناخ آخرين. وهو جيل بعيد عن الشعور بالمعاناة، لم يذق طعم الويلات، ربما شاهد بقايا الأحياء المهدمة ولكن الآباء وفروا له طفولة أقل قسوة وحياة أكثر لياقة بالإنسان، وها هو يتنفس هواءً مغايراً لذاك الذي تنفسه الآباء.. جيل له أحلام وآمال وتطلعات، ويعيش في ظروف مختلفة نسبياً، يريد أن يحقق ذاته، وأن يتجاوز قيوداً يشعر بوجودها، ولذا فهو يتململ ويريد أن يغير وربما أن يحطم أشياء كثيرة، وتغريه أحياناً النظرة من بوابة "براندنبرغ،"، ويصمد أمام إغراءات وسموم الإعلام الآخر الذي يحاصره، ولكنه يحلم كثيراً بالطيران فوق سور برلين إلى الغرب.

إنه جيل لديه إمكانيات إبداعية ـ باعتراف الكبار ـ وربما كان على شيء من العجلة، فهو ابن عصر السرعة والصواريخ العابرة للقارات وعصر ارتياد الفضاء. وهذا الجيل توفر له إمكانيات جيدة، والمناخ الثقافي الموجود في ألمانيا الديمقراطية مناخ متميز بتنوعه ووفرة ما يقدم فيه من نشاطات، وفي الإنتاج المقدم قيمة لا يمكن تجاوزها. ولا شك في أن الأجيال الناشئة، من المبدعين أو سواهم، وجدت بين يديها ما لم يحلم به أبناء الأجيال السابقة مجرد حلم: المكتبات ودور النشر والمجلات والصحف والمتاحف والمسارح والمؤسسات المهتمة بالثقافة على الصعد جميعاً وفي الأماكن والمجالات كلها، الأمر الذي حقق مقدمات النهوض في مناحي الحياة المختلفة، ولاسيما الثقافية منها. ويضاف إلى ذلك نظرة منفتحة وإنسانية للثقافة هي النقيض التام لما ساد قبل قيام ألمانيا الديمقراطية، وتتجلى تلك النظرة في توجه تجسده الثوابت التالية التي تحدد الموقف من التراث الثقافي للأمة وللإنسانية، والموقف من الثقافة المعاصرة انطلاقاً من روح العصر:

 ـ "انطلاقاً من سعة نطاق مفهوم الثقافة، فإن التراث الثقافي يشمل كل ما يدل على قدرة الإنسان الخلاقة، وكل ما اكتسب حتى تاريخ الإنسانية الحالي من الآراء والأفكار عن جوهر العالم وماهيته، وعن الإنسان وكل ما وضعه من المبادئ والمثل التي تهدينا إلى المستقبل، وعن كل ما يخلق من قيم الجمال والشعر وما يخدم تطور الإنسان. كما ويشمل الأدلة والشواهد الموروثة للتقدم الاجتماعي والفكري في كل ميادين الثقافة. أي في ميادين العمل والبيئة والعلوم والفنون. ويشمل التراث الثقافي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية جميع الإنجازات الثقافية التقدمية والإنسانية الكبيرة التي حققتها شعوب كل القارات"، كما تنص المادة 18 من الدستور.."إن من يريد إتقان أداء مهام العصر وسلوك طريق إلى المستقبل بخطا ثابتة وأكيدة عليه أن يطلع على خبرات الماضي وتجاربه وقيمه الثقافية"، كما كان يقول إيريش هونيكر.

وعلى ذلك فإن المعطى الذي يقدم للحركة الثقافية يسمح لجيل الشباب بمثل هذا التوق إلى الانعتاق، ولكن هل يمكن القفز فوق الواقع وفوق حقائق العصر؟! هذا ما يحاول أن يلقنه الكبار للشباب، وهذا أيضاً ما يحاول أن يقدمه الشباب للكبار على أنه تفسير جديد ورؤية جديدة فرضتها حقائق العصر ومعطياته، ولا بد من القفز فوق تاريخ وتجارب مرة ثبتها الماضي في ذهن الكبار حتى لا نبقى أساراها.

فلمن يكتب النصر في هذه المعركة التي لا تدور في ألمانيا الديمقراطية وحسب، وإن كان لها هناك خصوصية وظروف مغايرة لما لسواها؟! إن منطق الحياة يشير إلى استمرار التقدم والتغيير، ولكن منطق الحياة يشير أيضاً إلى ثبات ما هو سليم ومنطقي وأصيل عبر التاريخ. إن صراع الأجيال من حقائق الحياة، وربما كان لا يأخذ طابعاً جدياً في مجالات الكتاب، ولكنه موجود بدرجات مختلفة، ولا يجوز أن نهمله كما لا يجوز أن نضخمه.

لقد اتضحت أمور كثيرة، وتغيرت حدود وأفكار ووقائع بين الألمانيتين على الخصوص، كانت مجرد أحلام، أو إرهاصات لمن يقرأ التاريح والحراك الاجتماعي قراءة نقدية.. وعلينا في بلدنا وضمن ظروفنا أن نجيد قراءة الحوادث والمعطيات والتحركات والأفكار المتضاربة بمسؤولية لنصل إلى ما يبني ويفيد ويجمع، ويعطي للأجيال فرصاً وأمناً وأملاً.