خبر أوسلو 2 ..نادية سعد الدين

الساعة 10:49 ص|21 نوفمبر 2013

لن تتأثر قضايا الوضع النهائي بمسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الجارية حاليا، ولا حتى بنتائجها، سواء إذا قدر لها الخروج بشيء ما وفق سقفها الزمني المحدد بتسعة أشهر، ما لم يتم تمديده والدوران مجددا في نفس حلقة التفاوض المغلقة، أو الإعلان المتأخر عن فشلها الحتمي.

ولا يرد ذلك، فقط إلى طبيعة سياق المفاوضات، الممتدة منذ إطلاقها رسميا برعاية أميركية في 30 يوليو/تموز الماضي، وإنما أيضا، بسبب التقاطع البينيّ لأهداف الطرفين من التفاوض، بين مقاربة فلسطينية "للحل النهائي" ومسعى إسرائيلي لاجترار "أوسلو" في نسخته الثانية، وسط بيئة طاردة للأول، ولكنها جاذبة لأي صيغة "تسوية"، في ظل الانحياز الأميركي للاحتلال وضعف الدعم العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، خارج إطار المواقف التضامنية.

فإزاء ما جرى تصويره "خرقا" أميركيا لجمود العملية السلمية، تمكن وزير خارجيتها جون كيري غداة ست جولات مكوكية للمنطقة من جمع الطرفين على طاولة التفاوض لبحث قضايا الوضع النهائي (اللاجئين والقدس والاستيطان والحدود والأمن والمياه) خلال تسعة أشهر وصولا إلى اتفاق سلمي من شأنه إنهاء جوهر الصراع العربي الإسرائيلي.

وجاء ذلك بعد أربع سنوات "رئاسية" عجاف من أي تحرك جدّي للسلام، خلا الإمساك بتلابيب الملف وتحييد دور الأمم المتحدة وغض الطرف عن انتهاكات الاحتلال في الأراضي المحتلة، من دون طرح رؤية لإنهاء الصراع أو امتلاك الإرادة لفرض حل متوازن.

وتحت وطأة ضغط أميركي و"استحثاث" أطراف عربية، دُفعت السلطة الفلسطينية إلى "تكسير" شروطها المسبقة لاستئناف المفاوضات بوقف الاستيطان وتحديد مرجعية واضحة وفق حدود العام 1967 والإفراج دفعة واحدة عن الأسرى في سجون الاحتلال المعتقلين منذ ما قبل اتفاق أوسلو (1993).

وهكذا ذهب الوفد الفلسطيني المفاوض إلى طاولة المفاوضات خاليا من أوراق القوة والإجماع الوطني الشعبي والفصائلي، والبدائل الإستراتيجية الأخرى، ومكتفيا بإنجاز "يتيم" و"مجزوء"، على أهميته، باتفاق إطلاق سراح 104 من الأسرى "القدامى" ضمن أربع دفعات، بحسب تقدم مسار المفاوضات، من دون أن تنجح "جبهة" الرفض العريضة في ثني السلطة عن قرار استئنافها، على وقع استمرار الاستيطان وغياب المرجعية وإمعان الاحتلال في اعتداءاته ضد الفلسطينيين، مقابل التجميد الفلسطيني "المؤقت" للمضي في خطوات المسعى الأممي، غداة نيل فلسطين صفة "دولة مراقب"، غير عضو، بالمنظمة الدولية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، رغم المطالبات الشعبية والفصائلية المتكررة لمحاكمة الاحتلال على جرائمه في الأراضي المحتلة.

وبذلك، تجري المفاوضات بدون قاعدة مرجعية ولا اشتراطات مسبقة، خلا احتكامها إلى ميزان القوى القائم، بما فيه ممارسات الاحتلال على الأرض، بما يجعل المفاوضات وكأنها غطاء سياسي للممارسات نفسها، ومصدر راحة لراعيها وملتزم دعمها "الأميركي" من وطأة عبئها وحساب نتائجها طالما صاحب القضية العادلة وضحية ظلم الاحتلال يفاوض الظالم المحتل وسط كل ما يجري من متغيرات فرض الأمر الواقع التي تمس صلب ما يفترض "نظريا" أنها مطروحة لنقاشهما على طاولة التفاوض.

وبينما تسير القيادة الفلسطينية في خيارها التفاوضي الأوحد، على وقع زهاء ألف وحدة استيطانية جديدة شهريا، منذ انطلاق المفاوضات، وقرابة 19 ألفا مماثلة منذ بداية العام الحالي (وفق تقديرات فلسطينية)، وفي ظل التهويد والاقتحام المتكرر للمسجد الأقصى المبارك والمقدسات الدينية والعدوان المتصاعد ضد الشعب الفلسطيني، فإن الاحتلال الإسرائيلي يمضي قدما في نمط عدوانه الثابت، من دون أن تسهم جلسات التفاوض في كبح عجلة مشروعه الاستعماري، مغرقا المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة بالمستوطنات والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية، ومستبقا قضايا الوضع النهائي بقانون (صدر في 21/10/2013) يفرض على الحكومة موافقة ثمانين عضو "كنيست" قبل البدء في أي مفاوضات تتعلق بتقسيمها أو التنازل عن أي جزء منها.

ورغم أن المؤشرات الراهنة لا تشي بامتلاك الإدارة الأميركية -قريبا على الأقل- خطة واضحة لحل الصراع وإنما إدارته فقط، إلا أن المحاذير تبقى قائمة من مغبة الخروج "بصيغة" ما لتسوية العملية السلمية والقطع على أي خيارات أخرى، مثل انتفاضة ثالثة مرشحة للاندلاع.

وتزداد تلك المخاوف في ظل مسعى أميركي لإغلاق هذا الملف على وقع المتغيرات الجارية في المنطقة، وإزاء ما يتردد من تسريبات خارج طوق السرية المفروض على جلسات المفاوضات حول الاتفاق المرحلي و"التغاضي" الفلسطيني عن الاستيطان مقابل الإفراج عن الأسرى والموافقة على تبادل أراضٍ بنسبة 1.9% بما يعني الإبقاء على 65% من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة تحت السيطرة الإسرائيلية، وغيرها من الأنباء المصاحبة لتناقض تقييم مسار التفاوض بين "عدم التقدم"، وفق تصريح كيري أمام وزراء الخارجية العرب (27/10/2013)، ونفي فلسطيني إسرائيلي "وصول المفاوضات إلى طريق مسدود" (14/10/2013)، بما يثير مخاوف فلسطينية من "صيغة" تتجاوز الحقوق الوطنية، بينما ينتفي ضمان التزام الاحتلال بها، قياسا بتجارب سابقة.

وإذا كانت احتمالات التوصل إلى "اتفاق ما" واردة عند كثيرين، لكنه لن يفضي إلى وضع حد للصراع، وإنما سيعمل فقط على تغيير نمط تفاعلاته وإدارته بوسائل وأساليب أخرى، فالفجوة لا تزال كبيرة بين شروط الحد الأدنى للتسوية المقبولة عربيا على الصعيد الرسمي، والتسوية كما يريدها الكيان الإسرائيلي، أو كما يتصور أنه معني بها وقادر على فرضها.

ويزيد من ذلك اختلاف الهدف، فبينما يجهد المفاوض الفلسطيني لبلوغ اتفاق نهائي خلال السقف الزمني المقدر له، وصولا إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، فإن أقصى ما يمكن أن يبلغه المفاوض الإسرائيلي مجرد اتفاق مؤقت يسمح بتأجيل بحث القضايا الشائكة في جلسات تفاوضية أخرى ممتدة.

وفي المحصلة، فإن نسخة "أوسلو2" ستكون في انتظار الجانب الفلسطيني، عند أحسن أحوال نتائج التفاوض، فالحكومة الإسرائيلية الحالية، كما نظيراتها السابقات، لا تؤمن "بحل الدولتين" وليست راغبة في السلام ولا في تقديم أي شيء للفلسطينيين، في ظل برلمان عنصري يضم في أكثر من ثلث مقاعده غلاة المستوطنين والمتطرفين اليمينيين، وتشكيلة حكومية يمينية استيطانية متطرفة.

هذا بالإضافة إلى انتفاء وجود اختلاف حقيقي بين الأحزاب، بمختلف توجهاتها اليسارية واليمينية والدينية، تجاه القضية الفلسطينية، حيث ترفع مجتمعة "لاءات" العودة إلى حدود 4 يونيو/حزيران 1967 وتقسيم القدس وحق العودة ووقف الاستيطان، وإبقاء السيطرة على منطقة الأغوار، مقابل إما الحديث عن دولة فلسطينية منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح أو رفضها كليا.

وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أورد في خطابه الذي ألقاه في جامعة بار إيلان، معقل اليهود الحريدييم، عام 2009، القبول "بحل الدولتين"، شريطة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف "بيهودية دولة إسرائيل" وبإجراء المفاوضات بدون شروط مسبقة، إلا أن القبول الإسرائيلي به لا ينم عن إدراك متأخر بحق الشعب الفلسطيني في الدولة، وإنما كسب الوقت فقط.

إذ يدرك الجانب الإسرائيلي قدرته على التحرر من ضغط اللحظة والانفلات من أي التزام تجاه العملية السلمية، في ظل مشهد عربي مأزوم لن يعرف الاستقرار قريبا، على الأقل، والانشغال بالقضايا الداخلية ومعالجة التفاعلات المرتبطة بمتغيرات المنطقة، بما يمنح الاحتلال فرصة كافية لتعميق الخلل القائم لمصلحته.

غير أن الإشكالية تكمن هنا في التعويل المستمر للقيادة الفلسطينية على مسار التفاوض، باعتباره خيارا إستراتيجيا أوحد يتقدم على سواه من البدائل الأخرى، ولا يأخذ العنصر الإسرائيلي بالاعتبار.

ورغم قناعة أطراف فلسطينية قيادية بفشل المفاوضات واستحالة تمكنها من إنهاء الصراع، وفق ما رُسم لها أميركيا، وعدم إيمان الجانب الإسرائيلي "بحل الدولتين"، إلا أن هناك أصواتا تخرج بفكرة "التفاوض التكتيكي" وليس "الإستراتيجي"، بهدف انتزاع المزيد من "المكاسب على الأرض" حتى ولو كانت صغيرة، وإرضاء المجتمع الدولي، وعدم ظهور الجانب الفلسطيني وكأنه سبب عرقلة جهود العملية السلمية.

غير أن القيادة الفلسطينية، وهي تستل هذا المنحى، فإنها تخرج من كل جولة تفاوض جديدة بخسائر فادحة، وقضم آخر لمساحة الأراضي المحتلة حتى بلغت نسبة 80% من الضفة الغربية بعد الإبقاء على أقل من 20% للفلسطينيين مقطعة الأوصال إلى "كانتونات" غير متصلة، بحيث لن يبقى منها شيء إذا ما استمرت متوالية المفاوضات غير المتناهية، تزامنا مع التلويح، دون قصد التنفيذ، بخيارات أخرى كإجراءات عقابية للاحتلال، مثل الذهاب إلى الأمم المتحدة.

ولكن لغة التفاوض لأجل التفاوض تعني في جانبها الآخر الإبقاء على الوضع القائم، من حيث استمرار وجود السلطة، وحفاظ بعض "المتنفذين" على مكاسبهم وامتيازاتهم التي "سطوا" عليها من خلال مناصبهم أو مواقعهم بالقرب من السلطة وأصحاب القرار، وذلك على حساب الشعب الفلسطيني.

إن أي "اتفاق" قد يتم التوصل إليه لن ينهي الصراع، ولن يكون قادرا على إنهاء جوانب الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، حيث ستبقى قضايا جوهرية عالقة، مثل حق عودة اللاجئين والقدس، في ظل شكوك بالتزام الاحتلال بأي اتفاق تسوية، قياسا بتجارب سابقة.