خبر بعيداً عن السفسطة وأمراضها ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:06 ص|29 أكتوبر 2013

في علم الرياضيات يقولون إن " أقصر مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم"، وهذا لا يجافي المنطق السليم لذي عقل سليم وهدف واضح ونية طيبة، ولا يخرج عن تعريف للمنطق قدمه الفيلسوف ابن سينا حيث عرَّف المنطق بأنه” الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله.". والكلام المنطقي المعبر عن عصمة الذهن من الخطأ موصل إلى الاعتقاد الحق الذي لصاحبه ومعبر عنه ومريح لقبيله، وهو بالنتيجة والضرورة لا يجافي العقل وقد يخدم المصلحة، وهو يسعى إلى تبيُّن الحقيقة وتبنيها والدفاع عنها والتمسك بها، ويبتعد عن السفسطة الكلامية التي تشغل حيزاً كبيراً من كلام الناس ووقتهم، وتساهم في التضليل وبما هو أشد وطأة منه، اعتماداً من صاحبها على القدرة على اللغو المقنَّع بمنطق بينما هو سوء النية وضعف الحجة. ويعرف بعض الحقوقيين السفسطة بأنها: " المغالطة وأنها أسلوب ملتو منحرف في الجدال والإستدلال، لا يهدف للوصول إلى الحقيقة وإنما إلى التضليل والخداع للإنتصار على الخصم والهروب من قبول حجته والإقرار بصحة قضيته مهما بلغت درجة وضوح صدقها، وهو ما يتضمن معاني المكابرة والمعاندة والمشاغبة.". وصاحب السفسطة وشريكه أو شركاؤه في السفسطة يفضون إلى الدخول وإلى إدخال الآخرين في التيه، ويعقدون القضايا ويغرقونها والمعنيين بها في شُعَب كلامية شائكة تشبه ودهاليز رطبة وفي انفعالات وأفعال غالباً ما تفضي إلى أزمات أو صراعات وهي في كل الأحوال كريهة ومنتنة.. وواقع الأمر أن كل شريك في هذا النوع من الكلام " السفسطة أو الـ LOGiQE MINOR  " حسب أرسطو، هو مراوغ يسلك مسالك معوجة ومضللة في التعبير ليخفي مقاصده الحقيقية، أو " يجادل" ليظهر قدرة على الكلام أو ليخفي عجزاً في تقديم الحجة المقنعة، وهو إنما يناور ويمكر ويخادع ليكسب أو ليقنع بما ليس مقنعاً لذوي العقول والمناهج العقلية السليمة.. وغالباً ما يدخل ساسة ومثقفون وإعلاميون هذه المداخل لأنهم لا يستطيعون السباحة خارج هذا الحوض المائي العكر.. إلا أن بعض أولئك وبعض أدواتهم ينتهجون منهجاً رياضياً مباشراً في بعض المواقف الاستثنائية المتعلقة بحسم قضايا وإشكالات، لا سيما مع من يصنعونهم ويكلفونهم القيام بمهام وأدوار محددة، وذلك حين يتوهم المصنوع أو المكلف بمهمة ودور أنه حر وقادر ومنعتق من القيود!؟.. وقد أغراني بالإشارة إلى هذا النوع من الأشخاص والعلاقات والسلوك والمنطق موقف لشخص لا أطيقه في صفوف سياسيين أعداء، وأصنفه مع غيره من السياسيين والديبلوماسيين الأميركيين أستاذاً في المراوغة والتآمر وذا باعٍ في الخداع، وصاحب قدم وضلع وأشداق في الأزمة السورية الدامية، وفي التآمر على سورية من خلال تأزيم أزمتها والاستثمار فيها لتحقيق أهداف أميركية ـ صهيونية ـ غربية استعمارية واضحة، وذاك الشخص هو السفير الأميركي في سورية روبرت فورد، حيث أتذكَّره وأذكره في موقفين واجه بهما من علَّمهم السفسطة فسبقوه إليها، فأصبح ولسان حاله يقول مع الشاعر مالك بن فهم الأزدي، "وينسب البيتان أيضاً للشاعر معن بن أوس المزَني:

أُعَلِّمُه الرمايَة كُلَّ يَومٍ       فَلَمّا استدَّ ساعِدهُ رَماني

وَكَم علمتُه نظمَ القوافي       فَلما قالَ قافيةً هجاني

أذكره وأتذكَّره في موقفين معبرين له مع بعض أطراف المعارضة السورية رداً على سفسطة قيادات منها، أحد الموقفين كان في الدوحة عندما أسقط مجلس استانبول " المجلس الوطني" ليصنَع الإئتلاف " ائتلاف الدوحة"، والثاني في استانبول قبل أيام من الآن في اجتماع له مع الائتلاف ذاته الذي كونه في الدوحة، حيث هدد قادته الذين ذهب ليقنعهم بحضور مؤتمر جنيف 2، وفق ما روى ديبلوماسي غربي، فقال: ".. إننا أنشأنا «المجلس الوطني» ثم قمنا بتهميشه، وقد «أنشأت الائتلاف» وأنا قادر على فرطه، وأنا من جاءكم بدعم المئة دولة واعترافها بكم.".. والسفير فورد في هذا الموقف لم يزد على أن أظهر قمة من قمم جبل جليد التواطؤ بين الإدارة الأميركية وحلفائها من جهة وبين المعارضة السورية المؤتلفة من جهة أخرى، وقد ذكَّر من اجتمع بهم ببعض الحقائق والوقائع لا غير، لكنه استحق الإشارة إلى موقفه ذاك لأنه استخدم منطقاً واضحاً مباشراً معبراً ومؤثراً لبيان موقف محدد وإلى سبيل الوصول إلى هدف يراد له أن ينجز، فكان في أسلوبه ذاك كمن يشير وفق المنطق الرياضي إلى أن أقرب مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم.

واستناداً إلى معطيات ومؤشرات منها ما رافق جولة الأخضر الإبراهيمي الحالية ومنها ما ينتظَر أن يسفر عنه اجتماع 5 ت2/نوفمبر 2013 بين الراعيين الروسي والأميركي وممثل الأمم المتحدة أن مؤتمر جنيف 2 سيعقد في موعده قبل نهاية ت2/نوفمبر القادم، وأن هناك جدية في التعامل مع هذا الاستحقاق، على الرغم من محاولات تعطيل انعقاده، وننتظر هذا على الرغم مما انطوى عليه البيان الختامي الصادر عن اجتماع لندن حول سوريا-22 تشرين الأول/أكتوبر من ألغام أشار إليها وندد بها الجانب الروسي بقوة. ومن تلك الألغام والأهداف خلق أوضاع واستفزازات تجعل الدولة السورية تُستَفَز فتتنصل من حضور المؤتمر، وهم يلغمون المواقف على الرغم من أنهم قالوا في البيان الصادر عن الاجتماع/ في الفقرة الرابعة منه: "4- إننا نرحب بالتقدم المحرز في الأعمال التحضيرية لمؤتمر جنيف الثاني ونتعهد بمساندتنا الكاملة للممثل الخاص المشترك. ونؤكد الحاجة إلى الاستعدادات المكثفة لمؤتمر جنيف الثاني الذي يمكن أن تجري أعماله في تشرين الثاني/نوفمبر، شريطة أن يتم تحقيق مزيد من التقدم. ويجب تحريك العملية قدمًا إلى الأمام على النحو المبين في الفقرة العاشرة وما يليها.".

وفي توقيت مقصود ومحاولة لتوضيح يشبه الرد على اشتراطات المعارضة عدم مشاركة الرئيس بشار الأسد في الوضع الانتقالي، استناداً منها إلى ما قيل إنه غموض في جنيف واحد، وحول بقائه في منصبه حتى آخر المدة القانونية لرئاسته / أيار 2014/ قال الإبراهيمي في مقابلة مع مجلة جون أفريك الفرنسية ما أعلن عنه عند وصوله إلى دمشق:" ـ أن الرئيس السوري "كان شخصا منبوذا" قبل الاتفاق حول السلاح الكيميائي السوري، "وتحول إلى شريك" بعده، مضيفا "إلا أن بشار لم يسقط أبدا (...) ومهما يقول الناس، فهو لم تساوره الشكوك على الإطلاق، لا لجهة ما يحق له، ولا لقدرته على حسم الأمور لصالحه".، وأضاف:"الرئيس بشار الأسد يمكن أن يساهم في المرحلة الانتقالية في سورية دون أن يقودها"، و" يمكن أن يساهم في الوصول إلى سورية جديدة.". ولا أظن أن السيد الإبراهيمي قال هذا الكلام لمجرد مد جسر مصالحة شخصية بينه وبين النظام بعد جفوة، فهذا الكلام الذي يقوله وسيط الأمم المتحدة لا يمكن إلا أن يكون متَّفَقاً على مضمونه مع الأمين العام للأمم المتحدة والراعيين الروسي والأميركي.. فضلاً عن أنه يشير واقعياً ومنطقياً إلى تبدلات وتحولات حقيقية في المواقف من النظام والرئيس بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 وتنفيذ سورية لتعهداتها والتزاماتها فيما يتعلق بالحصول على عضوية المنظمة الدولية المعنية بالأسلحة الكيمياوية وبالتعاون مع مفتشيها لتدمير المعامل والتجهيزات والمخزون الذي لديها من السلاح الكيمياوي.. وقد تم التعبير عن ذلك علناً وفي تصريحات رسمية.

نعم هناك من يعترض على مؤتمر جنيف 2 ويعارض حضوره ويرفض كل معارض يحضره ويتوعده بالعقاب، ولا يكتفي بالحض على عدم حضوره بل يعمل على إلغائه، ولكن هناك بالمقابل ما يمكن انتظار نتائجه النهائية حول الموضوع من اجتماع الخامس من ت2/نوفمبر في جنيف وما يحمله من قرارات وتوجهات حاسمة ومؤثرة في كثير من الجهات والدول والتنظيمات التي تقف من المؤتمر هذا الموقف، واجتماع جنيف ذاك في الخامس من ت2/ نوفمبر سيضع بعض النقاط على الحروف في هذا الشأن، وهناك دلالة لأن تسبق موعده دعوة ذات لاجتماع وزراء الخارجية العرب في الرابع من ت2/نوفمبر ضمن إطار الجامعة لتحديد موقف من المؤتمر وفيه. ويبقى السؤال الأهم: ماذا لو لم ينعقد المؤتمر أو تم إرجاؤه أو إلغاؤه، وما هو البديل؟! من الواضح أن نتيجة الإرجاء إراقة مزيد من دماء السوريين، ومن الواضح أيضاً أنه لا بديل عن الحل السياسي للأزمة السورية، سواء أكان ذلك وفق معطيات جنيف 1و2  أو سواه، وأنه لا تعديل لما تم الاتفاق عليه بشأن جنيف 1 أي مبادرة كوفي عنان بشقيها البيان والخطة/البرنامج، وأنه لا مجال لإعادة صياغة الخطة/ البرنامج الذي أقر في جنيف 1، وأنه لا يوجد حل عسكري لأزمة باتفاق عام يصل إلى ما يقرب من الإجماع الدولي، وأن الاقتتال وإراقة الدم وانتشار الدمار ومضاعفة الخسائر وتشريد المزيد من أبناء الشعب السوري في بقاع الأرض ومعاناتهم المأساوية في شتاء ثالث قادم هو الذي سيستمر، وأن تفاقم الأزمة وانتشارها سيشمل دولاً عدة في المنطقة إضافة إلى دول دخلت في دوامتها منذ زمن، وستنتشر النار هنا وهناك بسبب استمررها. فمن ذا الذي يقبل استمرار هذا الوضع وتصاعد وتائر الموت والخوف والخطر ممن تعني لهم سورية شيئاً حقيقياً، بمسؤولية أخلاقية وتاريخية ووطنية وقومية وإنسانية!؟ ومن ذا الذي يقبل من العرب والمسلمين ـ ولا نتطلع إلى أعدائهم ـ أن تنتشر نار الفتنة وتتطور فتحصد ملايين بعد ملايين على أرضية مذهبية أو عرقية وتزيد من حجم التطرف وانتشاره؟! أنا لا أتساءل عن موقف أولئك الذين وضعوا كل شيء خارج حساباتهم عدا الاقتتال وتحقيق ما يسمونه " الانتصار" ولا عن مسؤوليتهم،  فاؤلئك حددوا سبلهم وأهدافهم وخياراتهم ونهاياتهم ونهايات كثيرين معهم، لا سيما من الأبرياء.. وهم يستيطعون الإرباك والتعطيل وتحقيق اختراق سلبي هنا وهناك استناداً إلى ما يحكمهم من مواقف وخيارات وارتباطات ومن يحرضهم ويمول جهودهم.. ولكن لا يمكنهم أن يُعجِزوا إرادة دولية صادقة وحاسمة تريد أن توقف العنف والاقتتال والإرهاب وانتشار نار الحرب، وأن تفرض الحل السياسي وتحافظ على الأمن والسلم الدوليين بمسؤولية تامة وحرص مؤكد.. لا يمكنهم أن يعجزوا العالم أياً كانوا ومهما كانت قدراتهم.

وعلى هذا فإن تعليق أمل وأهمية على مسؤولية دولية خلاقة وتوافق دولي بناء يتم بين دول نافذة الرأي والقرار والإرادة في العالم كله.. وليس وهماً ولا عيباً ولا تراجعاً عن حق أو تفريط بأمانة.. ومن هنا نريد لمؤتمر جنيف 2 أن ينعقد وأن ينجح وأن يفرض إرادة خيرة ورؤية سليمة ومناخاً وطنياً وثقة بناءة على كل أطراف الأزمة السورية خصوصاً والمعنيين بحلها خصوصاً، لكي يتحقق حتى للمعارضين السوريين النتشددين من أهل لندن ما جاء في بيان اجتماعهم الأخير عبر ما يسمى" أصدقاء سورية" ونصه:"يجب أن يكون مستقبل سوريا ديمقراطياً وتعددياً وتحترم فيه حقوق الإنسان وسيادة القانون. ويجب أن يتمتع كل مواطن بالمساواة التامة أمام القانون بغض النظر عن خلفيته الدينية أو العرقية.".. شرط أن نصل إلى ذلك عبر منطق حقيقي ومنهج علمي ووعي مسؤول ومدرك لأبعاد ما يجري، عبر ديمقراطية سليمة واستقلالية تامة وانتماء وطني خالص، بعيداً عن الخداع والمكر والحقد والمغالطات والثارات وسيول الدم ومناخ الخوف، وفي حضن القيم والإخلاق والانتماء والإيمان، في خروج واضح على السفسطة ومنطقها وأعراضها وأمراضها.  

دمشق في 29/10/2013

 

علي عقلة عرسان

 


.