خبر مقاربات ثقافية.. علي عقلة عرسان

الساعة 11:49 ص|22 أكتوبر 2013

في سورية "جبل المآسي راسخ الأوتاد"، يطال الدولة والشعب والمؤسسات والأفراد، كلٌ حسب ما تفضي إليه الاستهدافات والمتغيرات والتحولات، هذا قدرها وقدر أهلها فيما يبدو، أو أنه ضريبة خياراتها الوطنية والقومية.. فمذ خرجت دولةً من عباءة السلطنة العثمانية وحتى اليوم وهي تخرج من صراع لتدخل في آخر دفاعاً عن استقلالها أرضاً وشعباً وإرادة سياسية وقراراً وطنياً، وعن خياراتها السياسية وثوابتها القومية ورؤيتها الوحدوية والتزامها العروبي، ويتجدد الصراع الذي يستهدفها قيمة وموقعاً وموقفاً وحضارية ويستهدف خياراتها والتزاماتها الفريد، ولكن الذين يدفعون الثمن الفادح لأنواع الاستهداف هم بالدرجة الأولى المخلصون والمنتمون بصدق وضعفاء الناس وبسطاؤهم، إنهم يدفعون الثمن الفادح في كل وقت وفي أثناء كل صراع وحرب وأزمة وكارثة.. ويدفعون ضرائب متعددة الأنواع تمتد من ضريبة الدم إلى ضريبة الجوع والإهمال والتهميش وحتى الاتهام والملاحقة أحياناً، ويخضعون لابتزاز " المستقوي بالخارج على الداخل، أو بمركزه وبقوة من قوى الوطن سيطر عليها، أو بعصبية أو حزبية أو طائفية متطرفة استنفرها في الداخل وركب موجتها إلى المكاسب والمناصب، فاستفاد وما أفاد"؟!.. اليوم مثل الأمس منذ دخل غورو دمشق على أجساد شهداء ميسلون وفي مقدمتهم الشهيد يوسف العظمة.. وإلى دخول المستعمرين الجدد والمستثمرين الأجد في الأزمة السورية المأساوية الراهنة بالمال والسلاح والإعلام والأدوات البشرية المسخَّرة للقتل والتدمير وتشويه صورة الشعب والبلد والدين والثقافة، ولنشر الفوضى المدمرة والفتنة المذهبية وخدمة أهداف أعداء سورية والأمة العربية ومن يتاجرين بالسياسة والدماء وبأمن الناس ولقمة عيشهم في الأزمات.   

يقول قائلون اليوم بالتآمر ويتهمون الوعي ويحملون الثقافة مسؤولية.. ولا شك في أن التآمر موجود، وشبه مستمر، ويغير جلده ولونه ووسائله ويبدل أقنعة بأقنعة وأدوات بأدوات، لا سيما ابتداء من عام 1947 وانخراط سورية في قضية فلسطين بوصفها قضية العرب المركزية من جهة وقضية سورية بامتياز، فالشام الشعب والثقافة والسياسة العربية المبدئية لا تعترف "بسايكس – بيكو"، على الرغم من وجود ساسة سوريين وعرب آخرين ورثوا الاتفاقية المأساة وعضَّوا عليها بالنواجذ.. والتآمر لن ينتهي، وليس كل ما بنا من أدواء نتيجة التآمر علينا ولكن لا يجوز إنكار وجود التآمر والمؤامرات والمتآمرين فتلك سمة المستعمرين والحاقدين وأدواتهم، وذاك أوضح من أن يحتاج إلى توضيح.

أما اتهام الوعي فأمر وارد والدليل عليه قائم، ومظاهره عمت البلاد ونتائجه تصيب القاصي والداني وتلحق بالشعب والبلد وسمعتهما ما لا يليق بسورية مطلقاً.. ولكن من هو المسؤول عن ضعف الوعي أو انعدامه وعن أبرز نتائجه: "الخراب والقتل وتحول طاقات كثيرة إلى أدوات بيد من يستهدف اليلد سواء لأهداف خارجية أو لأغراض داخلية"؟! إن السؤال ملقى على من حجبوا الشباب عن المعرفة والموضوعية والتواضع، وعلى من كونوا فريقاً منهم تكويناً " ميليشياوياً غوغائياً" وألغى قدرتهم على المحاكمة ورؤية الخطأ في الآخر وفي الذات بموضوعية ومنهجية سليمة، ومن جعلهم من ثم لا إدركون معنى الهوية ومقوماتها وما تلقيه على حاملها من التزامات، وما تقتضيه من تحمل للمسؤولية الاجتماعية والسياسية والثقافية عن كل ما يشكل معطيات سلبية انطلاقاً من سلامة المواطَنة وصدق الانتماء للوطن والأمة والشراكة التامة في كل ما يقتضي التصويب والتصحيح والتنوير.. والسؤال مطروح بثقله في هذا المجال على من سدوا أمام الشباب أبواب الأمل فكانت البطالة وكانت الحاجة وكان الجوع.. وهم يتملصون من المسؤولية دائماً ويمارسون الأخطاء باسمها دائماً، وهم ومن يثقون بهم ويعتبرونهم مصادر المعلومات التي لا يرقى إليها الشك مَن يهمشون القادرين، ويشككون بالوطنيين، وينصبون أنفسهم قيمين على الناس والفكر والعلم، ويتدخلون فيما لا يعنيهم، ويمارسون التعالم على من يعلم وهم إلى الجهل والجاهلية أقرب منهم إلى معرفة ذواتهم حيث من هناك يبدأ سؤال المعرفة والوعي بالذات والآخر.

أما الثقافة فحدث عن مجالاتها ومآلاتها وأمراضها ولا حرج.. فكم من هزيل القوام قزم القامة تسلم المسؤولية في مركز هنا وآخر هناك وصار مسؤولاً عن نشاطاتها ولا صلة له بحقل من حقولها، ولا يملك إلا الولاء لمن لا يبحثون إلا عن الولاء فيمن تسند إليهم مسؤوليات حتى في الحقول الثقافية، وكم من تنظيم يرفع من ينتمون إليه إلى درجة المفكر والفيلسوف والمبدع والأديب بمجرد الانتماء إليه، عن طريق ميليشيا الإعلام والتنظيم، ليشكل منه/ منهم عصاً غليظة يضرب بها أصحاب الكفاءات ممن هم في غير التنظيم أو ممن لا يوالونه.. وكم من شخص صدق ذلك الذي ارتفع إليه بالنفخ فضاع وأضاع.؟!.. وكم من متسلق تعمشق سلالم من "يرعون الثقافة في بواديهم؟"! فوصل بالولاء وحكم وتحكَّم، وكم من السياسيين الانتهازيين تركوا أتباع تنظيمات وأجهزة معينة تسرح وتمرح في وزارات ومؤسسات لقاء أن يرفعهم أولئك ويجملوهم ويحموهم في مقابل أن يسيطروا على تلك المواقع.. فربحت الانتهازية وخسرت الثقافة وبقي المجتمع خارج حدود الاستفادة وبعيداً عن المعطى الثقافي والإبداعي السليم القويم "فكراً وفناً".. وكم من الادعاء والافتراء والتضخيم والتقزيم، الإضاءة والتعتيم، مورس وما زال يمارَس ضد أشخاص في أوساط مبتلاة بأمراض شتى تمتد من العُصابية الحزبية إلى العصبية القومية ومن الأمراض الأيديولجية إلى الطائفية والمذهبية والعرقية؟!.. فهل في مثل هذا الوسط المريض تنمو الثقافة البناءة وتنمي الوعي والمعرفة والشخصية والانتماء والمسؤولية والإبداع والأدب والفكر والفن؟! ومن أسف أن تلك ما زالت سمة من سمات ذاك الوسط المُبتلى بسيطرة أوساط أخرى عليه وبكثرة الانتهازية والادعاء في مجالاته، وبتطبيق معايير الولاء بدلاً من معايير الكفاءة والاقتدار والإبداع!!. وأكبر مصائب تلك القطاعات كلها، الثقافية منها وغير الثقافية، رواج المدلّسين المحترفين الذين يشوهون صورة هذا ويجملون صورة ذاك ويقدمون ويؤخرون على أسس من مصالحهم ومصالح الأحزاب أو المؤسسات أو الطوائف والأيديلوجيات والأجهزة التي ينتمون إليها.. والمسؤول المتلقي للأحكام = الوشايات راضٍ بل هو في غاية الرضا وعلى تمام الثقة بمن يمسحون له الجوخ ويتزلفون ويتذللون بين يديه.!!

وحين أقارب هذا الواقع، وأستعيد بعض ما كان وما ينبغي أن يكون، أشعر بالألم وأتذكر شخصيات ثقافية وأدبية ومفكرين وفنانين ومبدعين سوريين ابتلعتهم العتمة وخيم عليهم الصمت ولحق بهم الأذى أو هُمِّشوا وهُمِّش إنتاجهم في حياتهم وبعد مماتهم، ولم يذكروا في الإعلام المهيمن الذي اعتنى بآخرين أقل منهم بكثير كثير كثير، لأنهم أولئك المستحقين  لم يستزلموا ولم يختاروا الولاء لهذا " الراعي أو ذاك" ليسرح بهم في بوادي الفكر والأدب والفن، ويشملهم برعاية بادية السياسة والإعلام والحزبية السورية.  

وخطر لي في هذا المجال أنه من الواجب إلقاء بعض الضوء على أشخاص من أولئك وعلى أعمال لهم لكي نتذكر بعض التفاصيل التي لا بد منها لمشهد ثقافي سوري متكامل وشامل وسليم.. واخترت اليوم واحداً من أولئك، ليس هو الأكثر تفوقاً واستحقاقاً ولكنه من أواساط المستحقين وممن لم ينل بعض ما يستحق، وسيكون لي مستقبلاً إن شاء الله بعض الوقفات من آن لآخر مع آخرين من ذوي الحق والاستحقاق، فربما يلفت هذا النظر لمن هم في صلب فسيفساء المشاهد الثقافية والأدبية والإبداعية الأصلية والأصيلة في سورية الحبيبة التي تحتاج لكل أبنائها. ومن اخترته اليوم هو عبد الرحيم. آل شلبي، أو: ع. آل شلبي كما يحب أن يذكر اسمه.

فهل كان آل شلبي بوهيمياً من نوع فريد كما يقول عن نفسه؟! أم أنه يا ترى شخص كونته الحياة وكوته حتى استوت عنده الأوصاف والأفعال، حسنها وسيئيها، فصار لسان حاله يقول ما قاله أبو الطيب:

وَأَيّا شِئتِ يا طُرُقي فَكوني

                        أَذاةً أَو نَجاةً أَو هَلاكا

 

 

 

ذاك السؤال ما زال يعاودني كلما ذكرت الصديق "آل شلبي" وكثيراً ما أذكره.

لا شك مطلقاً في مقدار المعاناة التي مر بها، لاسيما في تلك الأيام التي كان فيها واحداً ممن سحقتهم ظروف الحرب العالمية الثانية في أوربا وهمومها وقسوتها، حيث كان يعيش ويعمل ويتعلم ويخوض تجاربه العميقة "ع. آل شلبي" هكذا كان يحب أن يقال له، وأن يكتب عنه، وحين ناديته باسمه "عبد الرحيم" قال، والدهشة في عينيه: كيف عرفت ذلك؟! أنا اسمي "ع. آل شلبي" لا أعرف بغير هذا الاسم، من قال لك، من..؟!. ابتسمت وبادلني ضحكة مرحة مقتضبة نثرت براءته وبساطته وطيبته في المكان. قلت: كيف لا أعرف زملائي وأصدقائي؟!.

كثيراً ما كنا نتبادل الأحاديث، كان البشر يطغى على قسماته ولكنه لا يمسح عنها ظلال المعاناة الصعبة وظلال الليالي السود أو لا يستطيع ذلك، وكان تعلقه بالمعرفة وبالإبداع يجعله في بعض اللحظات شخصين في واحد، وقلبه يترجح بين هوى كل منهما، أحدهما مهووس بالمتابعة ودقة البحث، وآخر متمرد على ذلك مأخوذ بالعوم في بحور الإبداع. عبد الرحيم طيب، من طينة حلب، نفخت فيه الثقافات الغربية نارها ونورها وعب منها الكثير الكثير وملأت رئتيه وفاضت في شرايينه، ولكنها لم تغير عَرْفَ عوره أبداً، ولا هي شلّت جذور انتمائه إلى ثقافة كونت أصوله وامتدت عبر فروعه، وتساكبت في عطائه، وحركت وجدانه، وشكلت هويته.

أتقن الفرنسية والألمانية والإنكليزية وألم بلغات غربية أخرى، وكان بوسعه أن يكون واحداً من أساتيذ الجامعات، وأن يكون لحياته مجرى آخر غير ذاك الذي انسكبت يه قطراته وسالت مدى عمره، لولا تلك السيدة التي أخذت يده يوماً ومشت معه في قبو جامعة السوربون في فرنسا وقالت له: "انظر ها هي آلاف الرسائل الجامعية تقبع هنا على الرفوف، ليس لها أجنحة لتطير، ونادراً ما تأتيها أجنحة تحمل من يطير. لكن الإبداع، الرواية والمسرحية والشعر، كل ذلك يرفرف بعيداً في فضاء  الأرض ويذهب في كل الأرجاء بعيداً متجاوزاً الزمن والجغرافية، ويعيش في وجدان الناس.".

وكان لتلك الكلمات تأثير كبير عليه جعله يعيش حالة تردد بين الانصراف إلى الإبداع أو متابعة الدراسة العلمية الأكاديمية والبحث في مجالاتها، الأمر الذي جعله في نهاية المطاف، ينصرف عن التحصيل العلمي، ليعيش مشدوداً كالوتر الدقيق بين تطلع وآخر بين إبداع ومتعة غير محدودة بالاستمتاع بالإبداع.

وجرفته الحياة إلى حيث أراد أن يجرب ويتعمق التجربة فنضج هناك على تلك النار التي اضطرمت من حوله وفي أحشائه، فأحرقت منه شيئاً وأبقت منه أشياء، ومن رماد ذلك الذي احترق كان يتوثب من آن لآخر ما يحيي الذات ويضفي طعماً على ما بقي له من حياة.

وكأني به يراجع نفسه ويرجّع حزنه في لحظات فذة من تلك اللحظات الحياتية قائلاً: "أردت أن أسحر لأفترس فافترسني سحري"؟! نفسي الأمارة هي تلك التي "تريد أن تربح كل معركة تخوضها" ولكن من تراه يخوض حرباً ضد الدهر وينتصر عليه؟! ربما لا أحد.. فمنذ غلغامش والمجربون يحصدون الخيبة وينجرعون الحسرة، فلا خلود لجسد حي، ولا ديمومة للذة مشتعلة، ولا وجود لروح يتوثب على موج الدهر مدى الدهر.. ومن يذهب في المغامرة أبعد يعاني من صقيع أشد، ويرتد إلى زمن الواقع ووقائع الزمن صعِقاً محروقاً بنار الغربة والتجربة، ليعيش مع الناس واقع البشر الفانين، ولينتظر مصيرهم، ذاك الذي يلقاه كل إنسان مهما امتد ظل، وارتفع مجد، وحلق جناح، وتطاولت رؤى.

في عبد الرحيم شيء من التصميم على الولوج من سم الخياط، وفيه حرص على استنفاد معطيات التجربة والبحث في ثمالة الكأس عن شيء لم يصل إليه الآخرون، وفيه من معدن أولئك الثائرين المحبطين، من أجل الكرامة والعدالة والحرية.. فيه شيء أودعه الكلمات فأصبح علماً عليه وخلاصة له وشيئاً حياً منه لم ينصع لقانون العدم الذي يلاحق خلايا الأجساد والأشياء ويقارب الأنفس.

هكذا وجد أنه "يكون" وهكذا وجد أنه يبقى: "الإنسان يكون.. حين يمتلىء فمه بالعلقم والدم ويبقى متفائلاً". وأزعم أنه بقي متفائلاً أو أقرب إلى التفاؤل في حياته، كل حياته، منه إلى اليأس المميت على الرغم من السم والدم والعقلم.. وقد تجلى ذلك في إصراره على متابعة العمل، رغم ما لديه من أسباب تجعله يسأل: ولماذا، ولمن أعمل؟! شأنه في ذلك شأن كثيرين من السوريين الذين أبدعوا وخدموا بلدهم بإخلاص وبنوا شخصية متفرِّدة فكان أن همشهم الصغار والمدعون وزرعوا في أنفسهم الحسرة على البلد والإبداع ومعيار القيمة والحكم الرشيد.

كنت أستشعر تعلقه بالحرية، ولم أقف على مفهوم محدد لها عنده يؤطرها أو يجمدها، كانت دفقاً واقتحاماً لكل العقبات والقيود، كان يطير ولا يدقق في أن حركة الطائر المنعتقة من أي قيد حرية، وكان مصباحها يأخذ زيته من نسغ الوريد، وحتى حين تراه هادئاً مبتسماً مستسلماً في فترات يتراءى لك أنه كمون شديد القوة بانتظار الاندفاع نحو أفق من آفاق الحرية والإبداع. هكذا بدت لي الحرية عنده، وهكذا بدا لي هو في حضنها واحتضانها - ولا أزعم أنني تقصيت عن ذلك المفهوم في كل ما كتب لأقف على حد وضفة وميناء- ولكن شدة تعلقه جعلت ذلك يبدو لي هاجساً وشاغلاً وموضوع بحث في الوقت ذاته. وكأنما كان يمضي في تجربته، وحتى في بوهيميته، إلى مدى بعيد ليثبت أنه حر في مجتمع مقيد.. قد نختلف معه في ذلك وقد نوافقه عليه، ولكن يصعب علينا أن ننكر عليه صدق انتمائه إلى الحرية.

وقد أدركت أنني على شيء من الصواب فيما ذهبت إليه من رأي حول موضوع الانتماء للحرية وممارستها، عندما تمعنت في قوله على لسان "الشيخ" في مسرحية "حكاية الحكايات": "هل يجب على المرء، في عالمنا، أن ينتحر أو أن يذهب إلى هلاكه ليبرهن لنفسه على حريته"؟!.

هكذا إذن؟! إنه تحد للذات، أمام الذات، ليبرهن لها أنه من الحرية وإليها، وحتى ليَذهبن به الرأي والتصميم إلى حدود الاستعداد للانتحار من أجل إثبات مصداقية انتمائه لتلك المعشوقة: الحرية، وأمام من؟! أمام نفسه ولنفسه، وليس أمام الآخرين أو من أجل إقناعهم بشيء!؟ لا سيما أولئك الذين يفيضون ادعاء ويذهب بعضهم إلى " كسر مزراب العين" ليلفت النظر إليه؟!

ذاك هو في صيرورته وسيرته وسره ذلك السؤال المر الذي بقيت مرارته تسيل لتملأ الحلق وحقل الرؤية أمام الروح، وهي تتابع بحثها عن ذاتها وعن حريتها في الحياة.. القيد.. أو القيد الحياة!؟! كان، رحمة الله، ذواقة فيما يقرأ، وإذا ما تحدث عن المسرح تحدث بدراية وفهم وهواية، وتجد لديه حساً سليماً ووعياً يشمل مقومات اللعبة كلها. وكيف لا يكون كذلك ولا يصل إلى ذلك وقد كان ذاك عشقه في زمن طويل صعب، وامتد زمناً طويلاً بوصفه هاجسه الأكبر في مدن ضخمة عريق فيها ذلك الفن، قضى فيها سنوات مديدة من عمره؟! إنه من نفر شغفوا بالمسرح فشاهدوا عروضاً متميزة، وحرصوا على قراءات متميزة لأمهات النصوص المسرحية، فجاءت خبرتهم نتيجة عشق وحرص ومتابعة وقدرة على الفهم والاستيعاب، ورغبة في الانتماء والانتساب والاكتساب.. في "حكاية الحكايات" نقف أمام كاتب متمكن من فنه، واثق من قدراته، يعرف إلى أين يذهب وهو يندفع في تقديم شخوصه ومشاهده وحواره.

وإذا ما توقف المرء عند نماذج من الفعل المسرحي الذي قدمه، أو عند نقص الشخصيات وهي تخوض صراعها على أرضية ذلك التكوين وبسببه، فإنه لا شك واجد وراء ذلك الذي يقف على تفاصيله ومقوماته وقيمه، مؤلفاً مسرحياً يعرف ما يريد.

إن شهريار الذي  أصبح ألعوبة شهرزاد في المسرحية استلب إلى الحد الذي صار معه أشبه بدمية لا تحسن أن تتماسك إن غضبت الملكة، وقد انقلب إلى عكس ما كان عليه أمره عندما بدأ يقتل كل يوم امرأة، بعد أن يتزوجها ليلة واحدة فقط، لينتقم من جنس النساء، لأن امرأته خانته مع عبد له. لقد أخذ يعيش في الخداع ويسوغه ويستسيغه، وقد أنجبت شهرزاد ثلاثة أطفال من غيره، كان سعيداً بأن يدعي أبوتهم، وهو يكاد يدرك أنه خرقة وسخة لاغير.

وشهرزاد الفتاة الغفل في بدايات أيامها تصبح جذوة شيطانية للشهوة والوعي والسلطة، حتى لتأمر وتتآمر على أبيها ذاته، الوزير الأول، وتسيطر على مليكها، زوجها، وتقيم الحرب على قدم وساق بينه وبين أخيه الملك "شاه زمان"، وتنتزع مملكة الأخير الذي جاء ضيفاً على أخيه ليعقد صلحاً ويحقن الدماء.. فعلت به ذلك لأنه لم يرضخ لشهوتها المتقدة ورغبتها فيه، وذهبت في الانتقام منه ومن أختها "دنيا زاد" إلى حد أن قتلت أختها لتكوي قلب الملك الضيف بحقدها. لقد سدت شهرزاد المنافذ على القلبين الطيبين، ومنعت "دنيازاد" الطيبة من أن تتزوج وتقيم حياة معادلة لحياتها هي. إنه حقد المرأة الملذوعة بنار الترك وانتقاصها الأسود.

وفي حكاية الحكايات "ألف ليلة وليلة" رؤية مؤلف ورؤية مجرب، وفيها حوار حي يغريك بالمتابعة، ويحيي فيك حب أدب المسرح الذي أجدب على يدي من لا يقيمون للأدب وزناً وتغريهم بهلوانيات غريبة وألعاب الجسد على خشبة المسرح.. يفعل ذلك بعد أن مات الأدب في مسرح اليوم أو كاد.

 إنني لم أرم إلى الحديث عن أعمال "ع. آل شلبي" المسرحية، ولا تطلعت إلى تناول إنتاجه في القصة والدراسة..الخ إنما رميت إلى تقديم تحية لذكراه، والإشارة إليه بوصفه واحداً ممن أرخيت عليهم ستائر العتمة، ورغبت في إنارة وقت كان لي معه، وصحبة قربت أحدنا من الآخر بدأت مصادفة وانتهت مصادفة.. ذاك أننا لا نعرف متى  يقف القدر بالمرصاد لينتزع أيّاً منا من أصدقائه وزملائه وأهله ومحبيه وبيئته.. إنها المصادفات تكاد تتحكم في اجتماعنا وتفرقنا، أعني اجتماع الأرواح وتفرقها، ولا أقصد تواقف اللحم من اللحم في تجمعات واجتماعات، أو في تلاحم وتواكب وتلازم على طريق الحياة، وفي طرق النضال.

فتحية للصديق الطيب، والكاتب المستظل بالتواضع، المكتفي بدماثة بعض الأصدقاء وبعض الوفاء، تحية للزميل "ع. آل شلبي" في ذاكراه. ذاك الكاتب الذي مر في عالمنا مروراً وادعاً، واحترق بيننا بصمت شأن شهاب عابر يخترق طبقات الجو متجهاً إلى الأرض الواقع، ولمحب آثر أن يترك لصبا دمشق ضمة من ياسمين وكأساً من الندى الربيعي، وغادر بهدوء، ولم يترك أعداءً فيما أعرف، بل ترك ثلة من الأصدقاء يترحمون عليه، ويذكرون جهده وصدقه ومثابرته ووفرة معرفته.

دمشق في 22/10/2013

علي عقلة عرسان