لم تكن عند قدامى حجيج بيت الله سيارات مبرّدة ولا طائرات تتنافس على تقديم أفضل الخدمات، وإنما كانت الإبل تقطع الصحارى والفيافي، يحثها في الليل الحداة، ويقودها سراب الماء في النهار.

أما الخوف من غارات اللصوص المنتشرين على طول الطريق وعوادي الوحوش البرية أو جفاف آبار المياه، فهذه تحديات يتوقعها قائد القافلة ويأخذ لها الحذر، لأنه يدري أن رحلته الميمونة ربما ستمتد لأشهر تتغير خلالها الفصول وتتبدل أحوال الطقس حراً أو قراً، ومع ذلك فإن الأجر على قدر المشقة عند الجميع.

4 طرق إلى الديار المقدسة

ويقول الباحث الفولكلوري باسم حمودي : "كانت طرق الحجاج القديمة تسمى بأسماء المدن وحكوماتها القوية، مثل طريق القاهرة، لكونها عاصمة الفاطميين، وطريق دمشق عاصمة الخلافة الأموية، وطريق اليمن بقبائلها العريقة القوية، وطريق بغداد عاصمة الخلافة العباسية. وامتلك العراق طريقين للوصول إلى الديار المقدسة: الأول الطريق البصري الذي ينطلق من مدينة البصرة، والثاني طريق الكوفة، وهما يقطعان الفيافي باتجاه مكة المكرمة".

ويواصل حمودي: "هذه الطرق هي في الوقت نفسه طرق تجارة، ولذلك صار هناك نوع من المعاهدات بأن تضمن القبائل التي يمر بها الحجاج سلامتهم، مقابل أن تمر تجارة القبائل في مدن الحجاج بأمان أيضاً. أما القبائل التي اعتادت على الغارات فيتم التوصل معها إلى دفع ما يشبه الرسوم اليوم مقابل عدم التعرض لقوافل الحجيج".

درب زبيدة الأسطوري

وتذكر كتب التاريخ أن السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد توجهت عبر الطريق العراقي لأداء فريضة الحج، ولم يدر في خلدها أنها ستواجه المصاعب والأهوال بما فيها رؤية الحجاج وهم يتساقطون على جانبي الطريق من العطش ولهيب الشمس الحارقة.

وعزمت زبيدة من لحظتها تلك على وضع حد لمعاناة حجاج بيت الله الحرام في كل موسم. وأعقبت القرار بقسم غليظ: "أقسم بالله العظيم أن أعمل على ألا يموت حاج من العطش بعد اليوم". وأسندت أمر إنشاء الطريق الذي أصبح يعرف فيما بعد بـ"درب زبيدة" إلى ذوي الاختصاص وأهل الخبرة.

ولم يمضِ وقت طويل حتى شرع كبار المهندسين المعماريين آنذاك في بناء أكبر مشروع من نوعه في ذلك التاريخ لرعاية الحجاج وسقايتهم والاهتمام بهم. وانطلق تنفيذ "درب زبيدة" للربط بين الكوفة ومكة المكرمة بطول يبلغ آلاف الكيلومترات عبر أشد المناطق شحاً بالمياه في العالم.

وبدأ العمل بشق الطرق وإنشاء البرك وحفر الآبار وتشييد النزل والاستراحات على الدرب ابتداء من نقطة انطلاقته في الكوفة وانتهاء بمكة المكرمة. وتوّجت السيدة زبيدة مشروعها العظيم في منى وعرفات من خلال إنشاء الاستراحات وأحواض المياه وحفرت الآبار. وأمرت المهندسين بجلب المياه من الجبال المحيطة بمكة، وعبر قنوات أرضية صنعت خصيصاً لنقل المياه إلى بركة كبيرة داخل مكة، أطلق عليها بركة زبيدة.

وتضمّن المشروع بناء شبكة هائلة من خزانات الماء تبدأ من الكوفة (قرب المدينة الحديثة في النجف جنوب العراق)، مروراً برفحاء (الحدود الشمالية)، ثم يمتد هذا الدرب سالكاً نحو الجنوب الغربي، مستمراً عبر الصحراء إلى المدينة ومكة.