خبر الشعر والكسندر بوشكين.. علي عقلة عرسان

الساعة 08:46 ص|20 سبتمبر 2013

 

اعذروني أيها القراء والأصدقاء، اعذروني فقد صدِئت نفسي أو كادت وهي تدخل أنفاق السياسة فلا تجد إلا النفاق والخداع والقتل والدم والدمار وبؤس الأرواح ويباس الضمائر وجفاف العقول.. اعذروني إن أنا أحببت اليوم أن أتنفس ولا أقول أرتاح، بمقاربتي لقول غير قول السياسة  التي تلفني مآسيها وتلف من هم حولي من الناس حتى لنكاد نختنق.. ولكن ننقى نتطلع إلى الغد بأمل. سوف أبدأ تنفس الإنعاش بكلام الشاعر بوشكين، في الفارق في مقاربة المعنى، فقد قال في عام 1836:

            ( … وطويلاً سيظل قومي يحبونني،

                  فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيِّرة،

                  وتغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي،

                  وناديت بالرحمة على المقهورين .

                  استكيني لأمر ربك يا آلهة أشعاري

                  لا تخشي أذى أو ضيماً، ولا تأملي إكليلاً،

                  تقبَّلي المديح والإساءة على حد سواء

                  ولا تتنازعي على مكانتك مع الحمقى. )                 

هذا ما قاله شاعر روسيا الكبير قبل سنة تقريباً من وفاته/ 1799ـ 1837/ ولم يكن قوله مجافياً الحقيقة في رؤيته البعيدة لمكانته بين شعبه ولوفائه الكبير لمن حمل وهج روحه وطباعه وقيم مجتمعه ووقائع من تاريخه القومي وطعم الواقع الاجتماعي، وطاف بذلك كلِّه العالم كلَّه يغني مبلِّغاً، كأنه قيثارة أبدية ساحرة خالدة.

نحن أمام شاعر وشعب، شاعر خلَّد شعبه وشعب خلَّد شاعره. ونحن العرب نحتفي كثيراً بالشعر، ونقول: "الشعر ديوان العرب"، ومن عادات قبائلنا القديمة أن تحتفل وتولم وتفاخر عندما يولد فيها شاعر، فقد كان الشاعر سيفها الذي يقود السيف ويحركه، والقوة المعنوية التي تدافع عن شرفها وترفع اسمها بين الناس، وقد أولى العرب الشعر عناية كبيرة ورفعوه مكانة عالية بين الفنون، يوم كان الشعر شعراً بالمعنى الذي فهموه وأغلوا شأنه. وحين نحتفي بشاعر مثل بوشكين نستجمع في الذاكرة والوجدان كل معاني الاحترام التي للشعر والشاعر في تاريخنا وتاريخ الشعوب. ونقول بصوت قوي: مبارك الشاعر الذي قهر اسمه النسيان، وتجاوز إبداعُه حدود الصقيع، وصار ابناً أو أباً للإبداع في معظم بلدان العالم.. وحمل للفن الإنساني الخالد صوتاً جميلاً نبيلاً بديع الأداء، وحمل راية روسيا بين شعراء الإنسانية الخالدين.         

وإذا كان بوشكين قد سجل في نثره صورة صادقة لروسيا النصف الأول من القرن التاسع عشر، وجعلنا نقف على ملامح مما كان يعتمل في وجدان الشعب الذي كانت معظم فئاته تعاني من الفقر وظلم الإقطاع، وكان فلاحوه أقناناً يتداولهم مُلاك الأرض مع الأرض، حيث يطحن البؤس الأرواح الفتية من بينهم.. فإنه لم يفعل ذلك إلا ليوظف المؤثِّر بقوة ويعلي الأمل بالخلاص، ولم يتوقف قلمه عند حدود الوصف، ولم يقتل الكلمة التي تُسْتَنْبَت في المعاناة وتتطلع إلى الحرية، بل أدان القهر وندد بالأصنام التي تُقدَّس، ولم يعف الكلمة وأهلها من المسؤولية حيال ما يجري للإنسان.

وإذا كان بوشكين أباً من آباء اللغة الروسية، كما يقول العارفون بها وبدوره فيها، فإنه وهو الشاعر، لم يأت بصوغه الجميل المتين لها على حيوية النص النثري ورشاقته، ولم يتوقف عند حدود إجادة استخدامها لذاتها من حيث الأسلوب، فالنثر يحتاج إلى تدفق الأفكار في شرايينه الواسعة لينتعش وإلا تحول إلى ثرثرة، وقد كان مدركاً لتلك الحقيقة، فهو القائل: " الدقة والإيجاز هما فضيلتا النثر الأوليان، وهو يتطلب المزيد والمزيد من الأفكار التي لا تغني عنها أية تعابير زاهية. " وأزعم أن البيئة التي تقدمها روايتاه: "دوبروفسكي" و "ابنة الآمر" تعطينا صورة دقيقة وأمينة ورشيقة عن الحياة في روسيا القيصرية لا يمكن أن ينساها المرء أو أن يجد من يقدمها له بغنى ورشاقة مثلما فعل بوشكين. وأن شخصيات مثل: كيرلا بتروفيتش ترويكوروف، نبيل رواية "دوبروفسكي"، و " أندريه بتروفيتش غرينييف، نبيل رواية " ابنة الآمر" تقدم صورة متكاملة عن حياة طبقة النبلاء وتقاليدها واهتماماتها وأساليب عيشها وقيمها التي تحافظ عليها، ومواقفها الوطنية وما يشكل حلماً أو تطلعاً بالنسبة لها، وتشير كذلك إلى المركزية الثقافية الفرنسية التي كانت تستقطب علْية القوم وتستحوذ على اهتمامهم. ويكمل كل من النبيلين الاثنين زوجُه. فبوشكين يرسم لوحة المجتمع كله من خلال حوادث مؤثرة وشخصيات ومواقف، بل يقدم صورة العصر والاهتمامات والتاريخ، ويرهص بالثورة القادمة من خلال التمرد، من دون الغرق في تفاصيل مملة؛ فللنظر إلى بوغاتشيف بطل " ابنة الآمر" وإلى ما يخبئه تمرده من نُذر، وما يعبر عنه فعلُه من وقائع وحقائق وممارسات تعكس حياة الناس ومعاناتهم وتطلعاتهم، ولنتوقف عند الشخصيات التي تشكل مجلسه مثلاً ولندقق في ما يوجهها من اعتبارات ومثُل ونزعات قومية ومشاعر، ولندقق بالمقابل فيما يوجه الجنرال ومجلس قيادته المدني في " أورنبورغ " المهددة بالحصار، أو المحاصرة حتى الهلاك من قبل بوغاتشيف؟! إن ذلك يقدم صورة القرار والإرادة والتحرك الرسمي والشعبي في آن معاً، ويبين من الذي يصنع القرار وكيف تتحرك الآلة العسكرية والسياسية والاجتماعية وكيف تدار من بطرسبورغ.

أما النماذج الفذة التي يجعلها بوشكين تتوطَّن في الذاكرة ولا تغيب عنها فهم أمثال أبطال قلعة بيلوغورسك: فاسيليا يغوروفنا زوجة الآمر، والآمر النقيب ميرونوف نفسه، وابنته ماريا إيفانوفنا، وبوغاتشيف العجيب ورجاله، ونماذج القوزاق والكلماك، والعجوز المخلص الطيب أرخيب سافيليف خادم بيتر غينييف.. وكذلك شخصيات رواية دبروفسكي: لا سيما فلاديمير دوبروفسكي.. فإنها جميعاً لا يمكن أن تكون في بقعة من الأرض إلا نماذج روسية تقدم واقعها وتعانق بيئتها ومصيرها وتحمل هويتها، وتدافع عن قيمها ومعتقداتها وخصوصياتها؛ وتحمل إنسانيتها الوقت ذاته.

ويلفت النظر عند بوشكين تقارب بعض النماذج البشرية في الروايتين: فالضابط دوبروفسكي فيه بعض الملامح من الضابط بيتر غينييف وبعض الملامح الأخرى من بوغاتشيف، إنه يأخذ زاوية من طريق بوغاتشيف لأن الظلم وقع على والده من ترويكوروف؛ أما غينييف الملتزم بقسمه وبشرف الخدمة العسكرية، فيخلص لسيرة والده الضابط المخلص للقيص، وتجمعه ببوغاتشيف بعض القيم والصفات. وكذلك صورة ماريا إيفانوفنا التي تقترب من ماريا كيرولوفنا في وقائع وصفات ومواقف، ولكن إيفانوفنا أكثر روعة في مودتها وإخلاصها وطيبتها. وأجد أن كل أنموذج ينم عن جيله وعن تربية ذلك الجيل وأخلاقه وقيمه؛ وبوشكين يحرص على الأخلاق ويؤكد أهمية المحافظة عليها والانطلاق منها في عملية التغيير التي تستهدف الناشئة: "أيها الشاب إن تقع مذكراتي في يديك تذكَّر أن أحسن التغيرات وأرسخها هي التي تنتج عن تحسين الأخلاق دون أية هزات عنيفة." ومن هنا تأتي قدرة تلك الشخصيات على أن تصبح نماذج قدوة اجتماعية عامة، وعلى أن تؤثر في سواها من النماذج الأدبية. وربما كانت إلى جانب النماذج التي رسمها بوشكين في مطولاته الشعرية مثل: الغجر والفارس النحاسي، من أبرز ما أسَرَ شعراء وكتاباً كثيرين وأثر فيهم، وأرى أن من أبرز أولئك الشاعر ليرمنتوف الذي كثيراً ما تلمح بوشكينَ في شعره ونثره وحتى في ثنايا مصيره!؟ أهي البيئة الأدبية أم تشابه الظروف الاجتماعية، أم هي قيم العصر وطابعه الذي يطبع الناس به!؟.

في رواية " ابنة الآمر " مقطوعة شعرية "فادحة" الوقع على الروح حين تواجه مصيرها في خضم عاصفة اجتماعية فوضوية طاغية، تغطي النفس كما تغطي العواصف الثلجية السهوب الروسية في شتاء الشمال، تقول تلك الأغنية:

       " لا تضجي أيتها الغابة الخضراء،

         ولا تعيقي الفتى الطيب عن التفكير.

         في صباح الغد سأمثل أمام قاضٍ رهيب،

        هو القيصر نفسه.

        سيسألني مولاي القيصر:

       خبرني أيها الفتى ابن الفلاح،

       من كان شركاؤك في السطو والسرقة،

      وهل كان رفاقك كثيرين!؟

      سأجيب مولاي القيصر المؤمن،

      وأخبره بكل الحقيقة، قائلاً:

      إن رفاقي كانوا أربعة:

     كان الليل الحالك رفيقي الأول،

     والثاني سكيني الفولاذي،

     والثالث جوادي المطيع،

     والرابع قوسي المشدود.

     وكانت نثاري سهاماً صلبة.

     وسيجيبني مولاي القيصر المؤمن:

    مرحى لك، أيها الفتى ابن الفلاح:

    قدير أنت في السطو، قدير في الجواب!

   وسأجازيك على ذلك بقصرٍ عالٍ في سهب:

   خشبتان قائمتان، عليهما عارضة."

       وهي أغنية اخترت أن أنتقل على وقعها نقلة نوعية في المسار، من القسوة إلى النشوة، كما يفعل بي الانتقال من النثر إلى الشعر في يوم ربيعي جميل وصفاء نفس طال انتظاره، نقلة من بوشكين الناثر إلى بوشكين الشاعر، من دون خشبتين عليهما عارضة، ومن دون رعب يلقيه في النفس ذلك الفيضان المروع لنهر النيفا.

     فالشعر ربيع الروح، ما دام في تجدد فهي في تجدد؛ والروح علمها الأرفع الأدق عند ربي، ولكنها حياة في جسد ومصدر حيوية أداء وإبداع في الحياة والعطاء. وإذا كان الشعر يغرف من بحر العواطف ومواجع القلوب ومناقع الدم ومجاري الدموع، ليكون مع الإنسان في كل شان، وليبحر في خضم زاخر بإغراء المغامرة وفرص الكشف، مستنيراً بنور القلوب وعيون البصائر.. فإنه لن يبذر حقلاً ولن يسعد نفساً ما لم يعد إلى شاطئ وأرض وخلْق وأنفس متعطِّشة إليه، ولن ينعش روحاً ما لم يملأ بخيلاء التخييل درب الأمل الجميل خضرة ونُضرة وبهاء ومواويل، ويزيّن عالم المادة المفعم بالبؤس والقلق والرَّهَق بشيء من عطاء الروح ترتاح إليه الأنفس فتشرئب أعناقها ليوم جديد بفرح وأمل متجددين.

الشعر ليس ركام الضباب والظلام والصقيع على بقايا الخراب واليباس، يفرّخ في عشه البوم وينتشر منه جناح الغراب ليكوِّن فضاء الرؤية الفاحم، ولا هو العبارة السقيمة والاستهانة العقيمة بفن الكلام وبقيم الناس ومقومات اللغة وأصول الفن؛ إنه النور منثوراً على الورد في صباح ندي أخضر، وهو النار المقدسة تذيب ثلوج الشتاء في قلب يتفتح فيه الحب ويتوقّد ويتوهج، وهو العزم مقدوداً من الإرادة الصلبة، والوعي في فرع بشري فتي ينمو بسلاسة وسلامة، وهو اقتدار خلاق على التعامل مع أدوات الإبداع بإبداع.

الشعر حياة تجدّد فينا الرغبة في الحياة، وتدفعنا في تيار الحب إلى مزيد من الحب، والشعر سيفٌ وزهرةٌ وحلمٌ ونغم، وهج تفاعل خلاق مع الصدق والحق والعدل والحرية في قلب الإنسان ومجالي البيان مدى الزمان والمكان؛ وإذا ملك الشعر سحراً، "وإن من البيان لسحرا"، فهو المعاناة مسكوبة في أوعية العذوبة، وإذا خاب غاب عن ساحة التأثير وفقد سحر التعبير وأصبح عبئاً على الشعر ومتلقيه.

الشعر حياة، وربيع الروح في الحياة. إنه مثل فتاة بوشكين الرائعة التي يقول فيها:

".. وفي الغسق تقف الشابة تحت سقيفة الباب، منكشفة الصدر والعنق، والزوبعة الثلجية في وجهها!

لكأنما العواصف الشمالية غير مضرة بالوردة الروسية.

كم هي متقدة قبلاتنا في الصقيع!

كم هي غضة هذه الشابة الروسية في مهب الريح!؟. والشعراء من هم!؟ أمراء بيان أم أنبياء زمان!؟ أم هم خليط من هذا وذاك، بينهم هذا الذي نحتفي به شاعراً وناثراً بوشكين الذي تمثَّل له في الرؤيا مَن شقَّ صدره:

يقول بوشكين:

"… ثم انحنى على شفتي، فاستأصل لساني الخاطىء، ذا الثرثرة والمكر.

وبيمناه المدمَّاة، أدخل في فمي المتجمد زُبانى الأفعى الحكيمة.

ثم شق صدري بسيفه وانتزع قلبي المتزعزع،

وفي صدري المنفتح ألقى فحمة متأججة.

فانطرحت كجثة في الصحراء

وكان أن دعاني صوت الرب:

ألا انهض أيها النبي ممتلكاً السمع والبصر،

ممتلئاً بإرادتي

 ولتجُب البَرَّ والبحر

محرقاً بالكلمة الأفئدة.".

هاهي رؤيا نبينا خاتم الرسل والأنبياء يتداولها الشعراء، نجدها عند جبران خليل جبران في " النبي " بصيغة، وعند وولت ويتمان بأخرى؛ وقد عرفناها قديماً فيما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين تمثَّل له في المنام ملكان فشقَّا صدره وأخرجا قلبه وغسلاه بالثلج والبرَد وطهراه تطهيرا… وهي القصة المعروفة في السيرة النبوية. "، أتراها وصلت إلى بوشكين فاستوحاها على نحو ما، أم أنه إلهام الشعراء يسعى في مناكبها ويقطف الثمار من كل البساتين؟!. وبينهم من يعيد إليك صوت الصحراء بصفاء، ويذكِّرك بغزل الجاهليين وبساطة البدائية وينقلك إلى حضن الطبيعة ويجعلك تأنس إلى ينابيع الماء تنساب في الجداول وتدغدغ الخضرة. ومنهم هذا الساحر بوشكين صاحب "الغجر"؛ إنه ليس "عرار" الشاعر الأردني الحوراني الذي كان يرافق الغجريات" النَّوَريَّات" في مضارب الغجر، بل هو الأقدم منه بكثير: بوشكين الذي يقدم لك الغجرية وجرأتها حين تمد عنقَها للزوج معاندة: " اذبحني.. احرقني: رجلاً آخر أحب، ولأموتُن حباً ".. ثم تتركه لتذهب مع العشيق، وحين تفترش مقبرة لتضاجعه فوق ضريح، يلاحقها كل من: القمر والسكين / في لوركا/ وخمر ديك الجن الحمصي وقبضتُه المتشنجة غيرة وحباً، يلاحقها كل ذلك في شخص عطيل روسي أشقر هذه المرة، يرفض أن تخونه زوجُه ويسكت؛ وبعد أن يريق خمر روحيهما على الضريح نراه /أي أليكو/ بين جمع الغجر قرب والد الفتاة قاتلها والقتيل بحبها، نراه: يتمعَّض ويتنفَّض ويغص ألف مرة قبل أن يتَّعظ ويوافق والدها، الأب الزوج المخدوع من زوجه أم " زمغيرا" من قبل، وهو يقول له بهدوء:

" علام أيها الفتى المجنون،

علام تتأوه كثيراً!؟

القوم أحرار هنا، والسماء صافية،

والنساء شهيرات بجمالهن.

لا تحزن، ستقتلك كآبتك. ".

وأصيح أنا مع بوشكين من حفرة روح أخرى، مردداً سؤاله:

" يا مغني الحب، يا مغني الآلهة،

ألا خبِّرني أي شيء هو المجد؟

أهو العويل عند القبر، والمديح المدوّي،

منحدراً من جيل إلى جيل؟

أم هو هذه القصة يرويها غجري بدائي،

تحت سقف خيمته الداخن!؟ ".

ويسود صمتٌ مدى السؤال ليفدَ في ركب الشعراء آخرون منهم يحملون عذوبة ألحان الريف وحرية الريح، فيجعلك ركبُهم تهجر مدينتك لترتاح في فضاء البدايات مردداً مع هذا الشاعر ذي الغنائية الطاغية "بوشكين" الذي يتكلم بلسانه "أليكو" المسحور بالغجرية الجميلة "زمغيرا" قائلاً:

" .. وعلام أتأسف ؟! متى تراك تدركين..

متى تراك تتصورين عبودية المدن الخانقة!؟

هناك يتكدس البشر وراء أسوارهم،

فلا يتنفس أحدهم برودة الصباح أو شذى المروج الربيعية،

حيث الحب فضيحة، والفكر طريد،

متَّجرين بحريتهم،

مطأطئة هاماتُهم أمام الأوثان،

متوسلين الذهب والأغلال.

أي شيء تراني هجرت!؟ حرقةَ الخيانة والقضاءَ الباطل،

وتعسفَ القوم المجنون،

أم هو العار والفضيحة!؟؟ ". 

 وبينهم من يركلك بقدم صناعية من حداثوية "شعرية" لما بعد الحداثة، تلقنك درساً قاسياً لقصورك عن فهم ما لا يفهم ولا يهضم ولا يقبل فناً، وكلهم يشد حباله إلى خيمة الشعر ويشد خيمة الشعر إلى حباله؛ حتى لو قال نثراً جميلاً فمن "الأفضل" عنده أن يسميه شعراً!؟. الحب في أدائهم له عرزال ودفء وتعلّق بالقمر والخضرة والحلم والوهم، والغضب القومي في أداء بعضهم له شجون وجذور في النفس تأبى اقتلاعاً، وله أحلام وآمال وبقايا يقين ترفض تهافتاً وتآكلاً وضياعاً. وتقليد البؤس وبؤس التقليد له عند بعض الحضور في تلك المواكب حضور يشي بما وصلت إليه ثقافة ما من تبعية وهزال وضلال واضمحلال.

ولكنني في خضم الرحلة إلى بلطيق الشعر، على الرغم من ذلك كله، أيقنت بأن الشعر لا يمكن أن يموت، وأن الشعراء ما زالوا يهزون الرماح ويشهرون السيوف ويمتطون صهوات الجياد ويسحرون القلوب.. صحيح أنهم يحتاجون إلى إذكاء جذوة الإبداع بأشعة من ذُكَاء مجدولة مع فيض نور الحرية والأمن من جوع وخوف، ولكنهم يقرعون الباب بصلابة وعزم لا يكل، ويرتادون عوالم الماضي والمستقبل وأقدامهم مغروسة في الواقع وأكفهم تسابق عيونهم في معارجها الممتدة إلى المستقبل.

الشعر اليوم ليس كما نريده أو نريد له، ولكنه ليس غارقاً في طين الموت والعتمة إلى حدود فقدان الرجاء من انطلاقة متألقة له، ولكن من زجوّه عقوداً من زمن في دوامات الضياع والإبهام والإغلاق والتيه والتقليد ضيّعوا طاقات مبدعةً كان يمكن أن تحْسِن الحرث والزرع في حقله، وتركوا طاقات أخرى من غير بوصلة تهديها في ليل غفت فيه النجوم وغاب القمر وأقبلت غيومه تنذر بالعاصفة.

الشعر موجود، وأجيال ناشئة في واحات الشعر تَعِدُ بحمل الراية ومتابعة السير في طريق إبداع محفوف بالمصاعب والمتاعب من كل لون، ولكن حداءهم يشكل تحدياً قادراً لكل ما في الدرب من متاعب وصعاب وعواصف.

الشعر موجود، ولكن من يعقد رايته على حربة بندقية المقاومة السامية؟!‍ ومن يجعله رفيقاً للصاروخ والطائرة النفاثة ومكوك الفضاء، مثلما كان رفيقاً للسيف والرمح والسهم، للحصان والعربة والخيمة!؟‍ ومن يرفع الانتماء والهوية قضية، ويدخل قلب الحدث النابض وقلب الشعب الملتهب وهو يرى إلى قضاياه وكرامته وأرضه تهب عليها الرياح العاصفات وتستعيد ثورة القلوب والسواعد على أرضية متينة من المثل والقيم الإنسانية الرفيعة؟! من ينعش الشعر باستنباته في دم الشهداء وخنادق الصامدين ومبدئية المتمسكين بالحق والحرية والعدل، بالمقدَّس والتاريخي؛ ليجعل للشعر قضية ولهباً ومخلباً وناباً وتأثيراً عارماً في الحياة وفي الأحياء؛ وليغسل الأرواح والأنفس بغيثه المنسكب الطهور، ليعود المرء شجرة فتية تستقبل الربيع بحيوية وزهو واستعداد كبير للعطاء!؟‍

لا أقول بفقد مطلق للسائرين في هذه الطريق، ولكنني أقول بقلة السائرين فيها على الرغم من جلال المبدأ وجمال المنبت ونبل الغاية وكثرة الموحيات والمحرضات والموثِّبات.

لقد كنت أستشعر "محنة" في بعض مجالي الإبداع، واستشعر تراجعاً حتى في تأثير ديوان العرب على العرب: تذكيراً وإحياءً وتأثيراً، وما زلت أغص بشيء من ذلك، ولكن حزني أقل وأملي أقوى وطريقي إلى غد الإبداع الأفضل مضاءة بألف شمعة تستقوي بالإيمان والانتماء والوعي على الظَّلام والطغيان والظُّلام والإرهاب.

وأنا في هذه المقاربة الحافلة بذكرى الإبداع والمبدعين من أمثال بوشكين، أزداد ثقة ويقيناً بمستقبل أفضل للشعر، وبعناية أرفع بالشعراء. فالمرء من دون زاد الروح ذاك:

 "ورقة الشجر المتخلفة في صفير الزوبعة الشتوي،

وحيدة، مهزومة تقف مرتجفة فوق غصنها المتعري.".

فليبقَ الشعر ربيع الروح، ولتبق الروح حياة، والأمل يجدد نور نفوسنا ودروبنا في الحياة.

يا ألكسندر سيرغييفتش بوشكين لك مني تحية حب وإكبار مع مشاعر التقدير الصادقة التي تفيض نحوك بود واحترام مثل فيضان نهر النيفا في فارسك النحاسي. ولتبق كما قلت أنت " والنسر من قمته المتوحدة يحلق ثابتاً على علو ثابت معي .".

 

علي عقلة عرسان

دمشق في 20/9/2013