خبر الموت في سبيل أرضنا ..بقلم: ناحوم برنياع

الساعة 08:39 ص|13 سبتمبر 2013

          "أمي، هل يُسمح بالبكاء الآن؟"، سألت بنت حينما خرجت من المخبأ الذي كانت تختبيء فيه في سنوات الاحتلال النازي. وكتب نتان ألترمان فيها قصيدة يُكثرون من إنشادها في مسيرات الذكرى.

          خلّفت حرب يوم الغفران التي مر عليها اربعون سنة 2656 قبرا لرجال اسرائيليين شباب من أفضل الشباب. إن الحداد العام واسع في هذه السنة بصورة خاصة لأنها سنة مُدورة ولأن شهادات حُفظت في الأرشيفات أُفرج عنها بعد اربعين سنة للنشر. وقد يكمن هنا سبب آخر أهم وهو أن جيل المحاربين بلغ الى سن يشعر فيها بحاجة قوية الى أن يروي قصته؛ فعنده وقت للتوثيق والكتابة والحديث. ويُذكر طوفان الكتب والأفلام واليوميات والتقارير الصحفية التي تُنشر الآن تمهيدا للذكرى السنوية في سعته بالمجموع الضخم المُر الذي نُشر بعد الحرب بسنة.

          لا تبدو حرب يوم الغفران اليوم مختلفة عما بدت عليه آنذاك، فهناك نفس الشهادات المثيرة للقشعريرة عن الغرور العسكري والسياسي، وعن الضغط واختلاط الأمر في بئر القيادة، وعن الحروب المجنونة بين أنا الجنرالات وعن القتال اليائس البطولي لجنود في الميدان قوّموا بدمائهم ما أفسده قادتهم.

 

          إن الاسرائيليين هم الذين تغيروا. كان اللقاء بين جنود الخدمة الاحتياطية الذين عادوا الى بيوتهم في خريف 1973 وأعزائهم الذين قضوا مدة الحرب في الجبهة الداخلية، دراماتيكي. كان الجنود ممتلئين غضبا وكانت الجبهة الداخلية كسيرة القلب. وكان ذلك بدء مواجهة صاحبت المجتمع الاسرائيلي منذ ذلك الحين من حرب الى حرب. وكان ارتفاع وكان انخفاض لكن المعركة حُسمت وتغلب البكاء على الغضب.

          لا يستطيع من لم يكن موجودا آنذاك أن يتخيل كم كان الشعور بالخيانة شديدا وكم كان الغضب قاسيا لا لأنه قُتل كثيرون جدا، فقد قُتل في حرب الاستقلال أكثر منهم، لكن لأنهم قُتلوا عبثا.

          التقيت لوبا اليئيل بعد الحرب بوقت قصير. وسألته ماذا سيفعل موشيه ديان فأجاب: "عندي له عمل واحد وهو أن يعمل حتى آخر ايامه جنائنيا في مقبرة عسكرية". ولم يكن من السهل على لوبا اليئيل، وهو أكثر الساسة ايجابية في دولة اسرائيل، أن يُسمع هذه الجملة القاسية. توفي ديان في 1981 ودُفن في جفعات شومرون في مقبرة نهلال غير بعيد عن قبر موشيه يفيه ابن القرية الزراعية الذي قُتل في سيناء في الحرب. وتبين لأبيه رؤوبين (آسي) يفيه أنه في ساعة ما بعد الظهر يمس ظل قبر ديان طرف شاهد قبر إبنه. وقد طلب إبعاد قبر ديان عن قبر إبنه.

          كنت أقف ذات مساء عند أسفل المنصة في حفل سياسي. وكان ذلك واحدا من عروض غولدا مئير الاخيرة إذ كانت رئيسة الوزراء. وخطرت في بالي مقولة: "كنت أقتلها"، وأدركت فجأة أنني أقول هذه الجملة بصوت عال. وكان يقف الى جانبي رئيس وحدة حراسها فنظر إلي نظرة سريعة ولم يقل كلمة. ومن المثير أن نعلم ما الذي اعتقده في سريرته في تلك اللحظة.

          والى أن نُقل القتلى من المقابر المؤقتة الى قطع الارض العسكرية حل الصمت محل الغضب وهو صمت مُر مُطبق الشفتين. وجمعت الكيبوتسات والقرى الزراعية التي كانت نسبة القتلى فيها أكبر كثيرا من نسبتهم من السكان، جمعت موتاها وصاحبتهم في صمت الى مثواهم الأبدي. وكان ذلك هو المعيار والثقافة وهو عدم البكاء في الجنازات ولا سيما الجنازات العسكرية.

 

          في مساء ما من أمسيات رأس السنة أُذيع في القناة الثانية تقرير آسر جميل جدا عن ثمانية من أبناء كيبوتس جفعات حاييم قُتلوا في حرب يوم الغفران. وكتب الأديب موتي زعيرا كتابا عن الثمانية. وأجرى المراسل شاي غال مقابلات صحفية مع عدد من اعضاء الكيبوتس. وتحدث اشخاص من الجيل الأوسط من أبناء الخمسين والستين اليوم عن رفض الآباء الثاكلين ورفاقهم مؤسسي الكيبوتس الغرق في الحداد. فقد قبلوا الحكم وعادوا فورا الى العمل لأجل الكيبوتس ولأجل الوطن. "ومن عبر عن شعور كانوا يعتقدون أنه جُن"، قالت واحدة ممن أُجريت اللقاءات معهم في ألم. وصُنع فيلم مشابه قبل بضع سنين عن ثقافة الحداد في نهلال. "لا يبكون في نهلال"، قال أخ ثاكل في ذلك الفيلم. "كان من المُحرم عندنا أن نأتي الى المقبرة مع نظارتين شمسيتين كي لا نستطيع أن نخفي الدموع".

          إن خنق الشعور جبى ثمنا لا يُستهان به، فقد حفظ الناس حزنهم في أحشائهم الى أن انفجروا وكان الضرر قاتلا احيانا. واحتيج الى تقويم وتم التقويم، فقد تلاشى الحظر في الاربعين سنة التي مرت منذ ذلك الحين، ومن أراد أن يصرخ صرخ ومن أراد أن يبكي بكى.

          لكن كما يحدث في قضايا اخرى في المجتمع الاسرائيلي نتأرجح في هذه القضية ايضا من طرف أقصى الى طرف أقصى. وانعكست التوقعات في ثقافة الحداد العام فالذي لا يُشرك الجمهور في دموعه يعتبر بليد الحس ومُعوق الروح وفيه شيء مُختل. ويبكي المظليون بكاءً جيدا، أما المظليون الذين لا يبكون فان أمرهم مُريب، فيجب استدعاؤك فورا الى عيادة الخبير النفسي لعلاج نفسي.

          أقول هذا عن احترام للاشخاص الذين وخطهم الشيب والذين سيحضرون احتفالات الذكرى في الايام والاسابيع التالية. سيقفون صامتين أمام شواهد قبور اصدقائهم وسينشد شخص ما قصيدة ويروي آخر قصة قصيرة. وينشد المتدينون صلاة "إله ممتليء بالرحمة". وسيُسمع العلمانيون قطعة موسيقية منذ اربعين سنة. وسيتلو هؤلاء واولئك القُداس ولن تسمع نحيبا ولن تُذرف دمعة. سيأتون صامتين وينصرفون صامتين.

 

          في الاربعين سنة التي مرت قضى أكثر الوالدين نحبهم. وأصبح الحداد من نصيب الاخوة والأخوات ومن نصيب رفاق السلاح. وحُكم على الرفاق أن يعيشوا حياتهم كلها مع شعور بالذنب – لماذا قُتل هو لا أنا ألسنا نحن الاثنين من القرية نفسها وأنا حي وأنت وراء الجدار.

          لم تغير حرب يوم الغفران معايير الحداد فقط بل غيرت النظرة الى الموت. قال (أو لم يقل) يوسف ترومبلدور "من الحسن أن نموت في سبيل أرضنا". وكرر أجيال من الجنود الأصحاء النفوس هذه الجملة في سخرية لأنه لم يعتقد أحد أن الموت حسن. لكن لا أحد خمّن أن نبلغ الى التطرف الثاني وهو أنه لا يجوز الموت في سبيل أرضنا.

          في المواجهات العسكرية التي حدثت منذ ذلك الحين في لبنان والضفة وغزة انقلبت الامور رأسا على عقب، فقد اعتبر موت المدنيين محتملا وموت الجنود جريمة ومخالفة للقانون توجب انشاء لجنة تحقيق. وثبتت الحروب في الوعي لا بحسب انجازاتها الحقيقية بل بحسب عدد الجنود القتلى. وأملى عدد القتلى المتوقع ايضا مسار اتخاذ القرارات في حلقات حكومية. إن مجتمعا لا يُظهر حساسية خاصة بحياة الغير لا حينما يكون الحديث عن حوادث طرق ولا حينما يكون الحديث عن وباء صحي، يرى حياة جندي واحد هي المشهد العام. وهو يريد مواطنين من الحديد وجنودا من الخزف. قد تكون قواعد اللعب هذه صالحة لدولة مثل الدانمارك لا للواقع الذي تعيش فيه دولة اسرائيل.

          إن بحر الدموع كبير. واذا لم نحذر أمكن أن نغرق فيه. ولا تمس هذه المشكلة النظرة الى الحروب فقط بل الى سلسلة قضايا اخرى تملأ برنامج عملنا العام.

          إن المجتمع الاسرائيلي مشحون بالصدمات. ويحمل كل وسط على ظهره صدمته الشعورية أو أكثر من صدمة واحدة احيانا. إن الناجين من المحرقة مروا بجحيم على عهد النازيين وأُذلوا وظُلموا حينما هاجروا الى البلاد؛ وورث أبناء الجيل الثاني للمحرقة الصدمة الشعورية عن آبائهم؛ ويتذكر العرب في اسرائيل على اختلاف أجيالهم النكبة والحرب والاحتلال والسلب والظلم والعداوة اللذين يلقونهما كل يوم؛ ويتذكر الشرقيون الفرق الاجتماعي والفساد في المنازل الانتقالية والآراء المسبقة؛ ويحيا المستوطنون الذين أُجلوا عن بتحات – رفح قُبيل السلام مع مصر وعن قطاع غزة وشمال الضفة في فترة الانفصال، يحيون في ألم الاقتلاع؛ ويتذكر المهاجرون من روسيا الاذلال واحتقار تراثهم؛ ويتذكر الحريديون كراهية العلمانيين لهم؛ والنساء إقصاءهن الديني؛ ويتذكر اليمين كراهية اليسار منذ أن قُتل أرلوزوروف؛ ويتذكر اليسار كراهية اليمين منذ أن قُتل رابين. توجد هنا اسباب كثيرة للبكاء وحرب يوم الغفران هي سبب واحد من اسباب كثيرة.

          ليس الامتحان هو عظم الصدمة الشعورية – هل الشيطان الطائفي أخبث من ظلم الناجين من المحرقة أو هل النكبة أكثر زعزعة من اخلاء غوش قطيف. إن كل حِمل يحمله الاسرائيليون على ظهورهم يستحق احترامه – احتراما كبيرا. لكن الامتحان هو في المواجهة والنظر الى الأمام – فما هي الدروس التي يتعلمها المجتمع ويتعلمها الاشخاص من الأخطاء التي تمت، وكيف نتحرر منها.

          قال رابين ذات مرة لا تُصنع الزعامة بالندب.

          حينما أرى اسرائيليا شبعان، اشكنازيا أو شرقيا، يهوديا أو عربيا، متدينا أو علمانيا، يجلس في صالون مرتب مليء بالكتب ويشتكي من الظلم الذي وقع على وسطه، على وسطه فقط، يُخيل إلي أن ليس كل شيء سيئا هنا. من أراد سكت ومن أراد بكى.

          علّمت حرب يوم الغفران حكومات سبعينيات القرن الماضي حدود القوة. فقد أدركت ثلاث حكومات – حكومة غولدا مئير واسحق رابين ومناحيم بيغن – أن اسرائيل لا تستطيع السيطرة على جميع الاراضي التي احتلتها، وكان الانسحاب من سيناء وجزء من الجولان تدريجي وضمن اربعين سنة هدوء مطلق تقريبا مع مصر وسوريا، وهما أكثر الجبهات تهديدا. ومهد الطريق لاتفاقي سلام مع مصر والاردن، فلو لم تحدث الحرب ولم تنته بوهم انتصار للعرب لما كانت لنا اربعون سنة هدوء.

          من المؤسف كثيرا أن الغرور لم يختفِ. لا يصعب أن نتخيل جلسة المجلس الوزاري المصغر بين رأس السنة ويوم الغفران في هذا العام. تجتمع على الطاولة معطيات مهددة من الجانبين المصري والسوري، فيقول عضو المجلس الوزاري المصغر بينيت: "دعوكم من المصريين. إنهم مسمار في مؤخرتي". ويقول لبيد بصورة قاطعة: "لن نجند قوات الاحتياط. ما الذي يستطيع هؤلاء الأوغاد فعله؟". ويردد نتنياهو منشدا: "إن لم أكن أنا لي فمن يكون لي". وينسى ما يلي ذلك من الجملة: "وحينما أكون لنفسي فماذا أنا".

          يالله يقول نتنياهو، أدخلوا المصورين.