خبر فلسطين وتطورات الحراك العربي.. علي جرادات

الساعة 07:57 ص|08 سبتمبر 2013

"إسرائيل" ليست تهديداً عسكرياً للأمة، فقط، بل هي تهديد سياسي لمكانتها ودورها إقليمياً ودولياً، أيضاً، ما يجعل إضعاف وضرب مراكز القوة العربية الأساسية، وأولاها مصر، بنداً ثابتاً على جدول أعمال “إسرائيل” ورعاتها الغربيين . هذا، وإن كانت فلسطين الضحية المباشرة التي لا تزال تدفع من ترابها ودم وأعمار أبنائها ثمن الأطماع الصهيونية والاستعمارية في الوطن العربي . بغير هذه الرؤية ومقتضياتها السياسية الرسمية والشعبية فلسطينياً، بخاصة، وعربياً، بعامة، يلتبس فهم الطبيعة الصهيونية التوسعية ل”إسرائيل” ويختل ميزان المواجهة معها . لذلك يقال بحق إن كل ثورات الشعوب العربية، ومنها الثورات الجارية، تبقى ناقصة، إن هي لم ترتبط بموقف واضح تجاه القضايا العربية الكبرى، وأولاها قضية فلسطين، وبموقف حاسم تجاه الدور العربي في النظامين الإقليمي والدولي، وموقع القضية الفلسطينية فيهما .

واليوم، بعد عامين ونصف العام على اندلاع الحراك الشعبي العربي ثمة في مشهده حالة فيها التدخلات الأجنبية بأشكالها وجنسياتها، وفيها التفتيت المذهبي والطائفي، وفيها محاولات للتقسيم الجغرافي، مع ما أنتجه كل ذلك من تقتيل وتذبيح للبشر وتدمير للقدرات والإمكانات وإضاعة للاتجاه وفقدان للبوصلة . ومن نافلة القول تأكيد أن ذلك إنما يشكل ربحاً صافياً لعدو الأمة الأول، "إسرائيل"، ولكل رعاتها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

هنا ثمة لوحة توحي بوضعية عربية قاتمة تنذر - فيما تنذر- بإزاحة قضية فلسطين من جدول الاهتمام، وبتحويل الشعب الفلسطيني إلى مجرد "يتيم" يُبَر، وتسود أوساطه مظاهر الإحباط، حيث لم يشعر بالانعكاسات الإيجابية المباشرة لحركة التغيير في الوطن العربي على قضيته، ما يفسر أنه لم يستطع حتى الآن، وهو الزاخر تاريخه بالانتفاضات، وأول من خاض في العام 1987 أول انتفاضة شعبية كبرى أبهرت العالم، محاكاة هذا الحراك الشعبي العربي الواسع.

يعود السبب في ذلك إلى غياب الصراحة والوضوح في موقف بعض النخب السياسية العربية التي ركبت موجة الحراك الشعبي من القضية الفلسطينية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي تسنمت ظهر هذا الحراك . فلو كان هناك نوع من الجدية في تعامل “الجماعة” مع القضية الفلسطينية لامتلأت ميادين فلسطين بالشباب الذي يعبّر عن وحدة المعركة والمصير، ولبات هذا عاملاً مباشراً وحاسماً لتصويب مسار قيادتي الانقسام الفلسطيني في الضفة وغزة، اللتين آثرتا مصالحهما الفئوية على المصلحة الوطنية العامة وارتباطها بعمقها العربي الذي تعد قضية فلسطين مركز مكونات وجدانه .

هنا يثور السؤال: هل اتسع الخرق في ثوب الثورات الشعبية العربية على أي راتق؟

إن المتفحص لتفاصيل وملموس اللوحة يستطيع أن يجيب بلا، وأن يرى خطوطاً مفتوحة على آفاق أخرى مغايرة . أما لماذا؟

فلسطين وقضيتها نواة مضمرة في الحراك الشعبي العربي . هذه حقيقة لم تتجل بشكل واضح غداة انطلاق هذا الحراك وإبان حكم من صعد إلى السلطة على كتفه، “الإخوان”، في أكثر من قطر عربي، وفي مصر بالذات . لكن تطور ثورات الشعوب العربية وتصادمه الموضوعي مع تأثيرات تدخلات رعاة “إسرائيل” الغربيين بقيادة الولايات المتحدة أفضى إلى إحداث نقلة نوعية في الوعي الشعبي العربي، عكستها وجسدتها- أساساً- الموجة الثانية للثورة المصرية في 30 يونيو الماضي، حيث تلمس الشعب والجيش والقوى السياسية الوطنية والحركات الشبابية الثورية المصرية الخطر الداهم من الشرق، سواء بوعي مغزى التكاثر البكتيري لمنظمات الإرهاب التكفيري في سيناء لاستنزاف الجيش المصري الذي تحد قيود اتفاقية كامب ديفيد من قدرته على مواجهة هذه الجماعات ومن يرعاها في السر والعلن، محلياً وإقليمياً ودولياً، أو بوعي مغزى ما يُرتب إقليمياً من دور لسيطرة “إسرائيل” أولاً، وتركيا عضو حلف الناتو المتعكز على جماعة “الإخوان” ثانياً، على المنطقة . بهذه النقلة التي أطاحت سلطة “الإخوان” في مصر تحول الفعل الشعبي المصري بتداعياته عربياً من عمل عفوي إلى عمل سياسي واعٍ يضع الاستقلال الوطني، المرادف لفك التبعية للسياسة الأمريكية، وإنهاء عربدة ربيبتها، “إسرائيل”، في مقدمة مطالبه . وفي ظني أن الموجة الثانية للثورة المصرية، رغم كل ما يعترض سبيلها من تحديات وعراقيل ومصاعب كبيرة، بل ومؤامرات، محلية وإقليمية ودولية، قد فتحت باباً واسعاً لتجاوز نواقص ومثالب ومآسي بدايات الحراك الشعبي ومراحله الانتقالية، بما في ذلك نقيصة غياب الموقف الواضح والصريح والحاسم من القضية الفلسطينية التي تبقى، شاء من شاء وأبى من أبى، عصب الوعي القومي عند الشعوب العربية . وهذا أمر مجرب وليس كلاماً ديماغوجياً .

أجل، لقد فتحت الموجة الثانية للثورة المصرية آفاقاً لطرح مسألة الاستقلال الوطني في بلدان الحراك الشعبي العربي، حيث كان قيد العوامل الخارجية هو العامل الأكثر حسماً في عدم وصول هذا الحراك إلى منتهاه الطبيعي، ما دفع قواه الفعلية إلى استنتاجات عمقت من وعيها وممارستها بحيث نقلت المعركة من مجرد معركة ديمقراطية ليبرالية وصندوق اقتراع، كما شاء “الإخوان” والأمريكان، إلى مواجهة حقائق القضايا الكبرى ومفتاح كل ديمقراطية وحرية وعدالة حقيقية، وعلى رأسها مسألة استعادة الاستقلال والسيادة الوطنيين مع ما يفرضه ذلك من استحقاقات تجاه القضية الفلسطينية . ولئن كان القائد الوطني والقومي التقدمي، حمدين صباحي، حدد متطلبات نجاح الموجة الثانية للثورة المصرية بعمل سلطتها الانتقالية الجديدة على مهمات ثلاث مترابطة: “دعم الجيش في محاربة الإرهاب، وتحقيق جرعة مركزة وعاجلة من العدالة الاجتماعية، واستعادة توجهات الاستقلال والسيادة الوطنيين”، فإن الانعكاس الإيجابي لهذا الحدث المصري التاريخي بتداعياته العربية، يبقى رهناً بتوافر شرطين، يتعلق أولاهما بأن تلتقط قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا الحدث الكبير وتقوم بإجراء مراجعة سياسية شاملة تفضي إلى التخلي عن أوهام “السلطة” والتنازع عليها وتقاسمها، وعن أوهام إمكان الحصول على أي إنجاز وطني فعلي من مفاوضات، جوهرها الإملاء وتعميق الانقسام واستلاب الإرادة الوطنية . ويتعلق ثانيهما بأن تكف قيادة “حماس” عن حشر أنفها في مجريات تطورات الحراك الشعبي، والمصري منه بالذات، وبأن ترضى بقواعد الإجماع الوطني، لا أن تفرض رؤيتها الأيديولوجية على قضية فلسطين وشعبها ونضاله الوطني.