خبر الغوطتان الداميتان.. علي عقلة عرسان

الساعة 01:10 م|23 أغسطس 2013

في بعض تفاصيل المشهد الدامي أمامي: شجر من كل الأصناف عار من بهجته، يرتجف خوفاً ويفقد الكثير من رصيد ذكرياته التاريخية النازفة.. بيوتٌ مدمرة تبحلق في عيون بيوت أخرى قيد التدمير، يحتلها البوم وينعق في فضاءاتها وينشر نُذر الشؤم فيها ومن حولها.. وبقيايا ماشية سائبة ليس لها من يطعمها أو يسقيها أو يسرحها في الأرض أو يحتلبها، فلا أمن كما لا أرض ولا حلابات.. وفي الطرقات وفي الساحات العامة وعرَصات البيوت والمشافي والأماكن التي كنت عامرة ومنتجة موت رفيع المقام، مرتفع الراية، عالي الهمة، مفرود الجناح، ينظر إلى أطفال ونساء وأبرياء وإلى آخرين يندر أن تجد من بينهم البريئ والطيب، ولا الجريئ المقدام إلا على ارتكاب الإجرام والقيام بأعمال وحشية ترتعد منها فرائص كل من بقيت لديه بعض المشاعر الإنسانية وبعض الآمال والأوهام.. وفي كل زوايا الأمكنة: عامها وخاصها، مغلقها ومفتوحها.. أسلحة فتاكة، وقنابل مؤقوتة، وألغام مموهة باتقان، وقناصون مهرة، ولصوص من كل لون.. أشخاص وأشخاص ممن وفدوا إلى ما كان الغوطتين ومرابع أهل الشام، من كل حدب وصوب، وممن سعوا إليهما بهدف رد العبث والعابثين بهما.

المشهد موت بأجنحة سوداء ثقال تندِف بؤساً ورعباً.. وأغرب ما في هذه الأجواء التي تلفُّ هذا الموت الزؤام قباحةٌ ما عُهدت مثلها قباحة.. قباحة الفجور واللَّدَد، ولجاجة ألسن بافتراء يتصاغر أمامه الكذب، وهي يُشهَر أسلحة أشد فتكاً بالناس من كل الأسلحة والناس. وأنكر ما يُستنكر من أشخاص وعصائب قتل وفئات تتاجر بالحقائق وبكل حي وبكل مقومات الحياة.. استمرار استعداء بل استجداء مستمر منذ خمسة وعشرين شهراً على الأقل لتدخل عسكري دولي يمحق وطنهم ومواطنيهم بذريعة الضحايا، والكل ضحايا بصورة ما لمن من يدعون أنهم أصحاب القول الحق وأصحاب الدم وأهل الصدق وحماة الناس من شر الناس؟! وكثير منهم هم تجار الموت والتطرف.. ليأتي أولئك، إن استطاعوا، منتصرين على دبابات المحتلين والمستعمرين، وليدخلوها حكاماً على الأرض الخرب، يتربعون على عروش فوق أجنحة الموت ليرتكبوا المزيد من القتل والدمار والموت وليدفعوا غيرهم إلى مزيد من الدمار والموت.. والكل يصرخ على الضفتين أنه الحق، بينما لا يزال في فضاء الذاكرة صراخ قديم لأصوات تقول: " سلميون، مسالمون، نريد الخير والأمن والعدل لشعب فقد الأمن وعانى من الظلم، ويلتمس طريقه إلى فعل الخير ويبحث عمن يفعله؟! أما أمامي في مشهد الغوطتين الدامي فـ " المية تكذب الغطاس" والناس في مر العيش جراء ما يجري بين من يريد أن يحررهم ومن يريد أن يحميهم.!!

مشهد الغوطتين في الشام: حرائق الأرواح الضمائر، ومجازر الصدق والطيبة والعقل، وجنون الحرب، وفساد مقومات الجمال والجلال المتمثلين في الخصب الذي كان يزدهر عطاءً، وفي تجدد الحياة نمواً وانتماء وتنمية في أرض الخصب والحضارة والحياة.. أرض الشام. وليس ريف دمشق الشام في هذا أنموذج ذو فرادة فكثير جداً من مواقع الدفء والثمر والأمن والعيش الكريم والإخاء التاريخي الوارف الظلال هي على أنموذج ريف دمشق الشام.. التي يدافع فيها عربٌ سوريون، مسلمون ومسيحيون، عن الوطن والحياة بجيش نذره الشعب للتحرير وحماية الوطن وحفظ الوجود ومقومات الكرامة في الحياة، فكتب عليه أن يخوض حرباً في الوطن ضد بعض أبناء الوطن ومن معهم ممن يجلبون لخوض حرب في سورية وعليها، تحت شعارات ظاهرها فيه "الحق الرحمة" وباطنها فيه الضلال والعذاب!! إنها لعمر أبيكم النكبة في العقول والضمائر، في الفهم والتفكير، في التدبر والتدبير، وفي السياسة والثقافة، وإنها لنكبة أمة في فئات من بنيها حكاماً وطالبي خكم، أصحرت وتوغلت في التيه معلية قوانين الغابة وأسلحتها وقيمها تريد أن تبني وتستثمر وتتحرر وتحر هناك الرمال على الدماء سواكن، وحيث الرمال الحارقة أكفان، فلا أمن ولا ظلال هناك، ولا عدل ولا حياة، ولا خلق.. لا خلق، إذ لاماء ولا حياة حيث لاما، فقد قال تعالى" وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون"؟.. وفي ما يشبه تلك الصحراء، بالمعاني الظاهرة والباطنة، نخوض جميعاً حروباً عقيمة من الفراتين إلى الغوطتين بعيداً عن فلسطين "دار الوقف الإسلامي" الأولى بالتحرير والحماية، والأرض التي يجب فيها الجهاد وبذل النفس والمال دفاعاً عن الإنسان والدين، وعن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين: "القدس" تنزيه الله وتقديسه، و" دار العرب اليبوسيين الأولى في أرض كنعان، أرض الشام بلا تقسيم ولا تقزيم، أرض  الرسالات الإلهية ومثوى خليل الرحمان أبينا إبراهيم عليه السلام؟! هكذا صرنا الآن وهذا ماكان، ومع ذلك يبقى لسان المؤمنين كافة يلهج بقوله تعالى: ﭽ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ   ﭕ          ﭖﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ   ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ   ﭦﭧ   ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ     ﭬ  ﭭ  ﭼ البقرة: ٢١٦  

ويبقى النداء المجدي لمن يعنيهم أمر الناس والحياة والأوطان وأمر الله العدل والدولة والحكم والتقدم والازدهار والأمن والأمان، يبقى النداء المجدي: " أن ادخلوا في السلم كافة"، و" تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم".. فإذا كان الذي يعنيكم أولاً الدين " الإسلام" ورايته الأعلى "العدل"، وصفته "الرحمة" ومداه "الناس كافة"، بشمول قيمه وأحكامه..  فتعالوا إلى حوار مسؤول عميق شامل يتجاوز حدود الوطن العربي ويشمل المسلمين كافة حول فهمٍ/ فقهٍ/ عميق وصحيح وسليم ومتين للإسلام، مرجعاه الرئيسان: "الكتاب والسنة" ومن منارات التوصل إلى ما هو من خلاصاته وما يكاد يلخص بعض جوهره قولاً وعملاً: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" و" الدين المعاملة".. وأعلوا شأن ما يرفده من روافد عبر العصور والأمكنة ويجعله منهجاً علمياً وعملياً صالحاً في كل عصر بإعمال القواعد المنطقية العقلانية والشرعية، ومنها " القياس " و" الإجماع"، ومن ثم قَبول ما تقبل به رواجح العقول وصحاحها، حيث تقيم ذلك على أركان ما ثبُت وعلى ما يثبت بالحجة والبرهان فيحتل موقع اليقين ويمحو الشك، فنتبعه جميعاً ونعلى مرجعيته وحاكميته وحكمه على أساس أسس ديننا الحنيف: التسامح" ورسالته الإنسانية الشاملة بوصفه "رحمة للعالمين".

وإذا كانت تعنيكم المذهبيات والطائفيات وما يُبطِن البعض أو يظهر تحت أغطيتها وفي ظلال سجفها من تطرف لسبب ما، وما يقوم به بعض أتباع المذاهب الفقهية من تصرف ينم عن ضيق أفق يؤدي بدوره إلى التضييق أو عن جهل بجوهرها وروحها ومقاصدها وكنهها بوصفها اجتهاداً لتسديد الرأي والخطو على طريق الفهم السليم للدين لا سيما في أداء العبادات والمعاملات والقيام بشؤون الخلق في الحياة، مما يتلخص في السياسات.. أقول إذا كان ذلك كذلك فتعالوا ندخل المدخل الصعب ـ الرحب، فنرتضي بما ارتضى به الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه ولمن حاجوه في أمور مشابهات وفي أخرى مشتبهات، حيث لجأ إلى إعلاء قوله تعالى: ﭽ ﯠ  ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ    ﯩ  ﯪ  ﯫ    ﯬ  ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ  ﯱ   ﯲ   ﯳ  ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ  ﯸ  ﯹ   ﭼ آل عمران: ٦١

أما إذا كان الأمر يتصل بالقوميات " العرق" والقَبائليات والعشائريات على اختلاف نزعاتها ونزواتها وما فيها من كبوات ودعاوى وادعاءات هي أقرب إلى الجاهلية أو الجهل بروح علم الجماعات والأقوام في الإسلام وبموقفه من القوميات، وموقف العروبة على الخصوص من الدين..  فتعالوا إلى أمرين رئيسين حاكمين، نترك بعدهما كل التفاصيل الأخرى للحوار، والحكمان الحاكمان هما: الحكم الأول قوله تعالى، في منحى الاعتراف بتمايز إثني وما دونه، وهو تمايز لا يُبنى عليه تمييز ولا يفسده نزوع أو تفوق عنصري أو.. أو.. إلخ": ﭽ ﭵ  ﭶ  ﭷ     ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ   ﭽ  ﭾ  ﭿﮀ  ﮁ    ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ  ﮊ  ﮋ  ﭼ الحجرات: ١٣/ فالقومية لا ينكرها الإسلام ولا يلغيها ولكنه ينكر التعصب والتطرف وما يسمى " شوفينية" وعنصرية.. إلخ وعليه فلا ينبغي أن يجافي مسلم أو " إسلامي" حكم القرآن في هذا المجال فيعادي القومية وكأنها نقض لمعمار الدين، ومناقضة لدعوة الوحدة وما يقود لها أو يُبنى عليها ويعززها إسلامياً. 

أما الحكم الثاني: فيتصل بموقف القومية من الدين، أو العروبة من الإسلام.. وكل ذو علم وعقل ومتابعة يعرف حقيقة تاريخية هي: " إنما عزَّ العرب بالإسلام"، ومن المفيد أو من الضروري أن يعرف أن دماء العرب المسلمين كات سرج المصابيح التي شقت عتمة الظلم والظمات التي اقتحمها الإسلام بجهاد حق ورجال صدق، وبعمل صالح شكل قدوة للناس وجذباً لهم إلى حياض الدين الحنيف، وبمعاملات أنارت سبل المهتدين إلى الهدى بمشيئة الله تعالى.. وعلى كل عربي ممن أخذتهم الحماسة أو قد تأخذهم إلى شطط قومي من نوع ما، عليه أن يدرك حقيقة أن " القومية جسد والدين روح.. العروبة جسد والإسلام روح"، تماماً مثلما جسد الكائن وروحه.. وفي هذا تتجلى أفضل صورة للعروبة وللقومية العربية المعتدلة على الخصوص المبرأة من التداخلات الحفية لأيديولوجيات هدامة، حيث هي جسد والإسلام روح، ولا حياة لجسد أو بقاء له ونمو سليم من دون روح. فليهدأ قليلاً أولئك الذين ظلموا أنفسهم وظلمونا يوم تجاهلوا الحكْمين الأول والثاني.. وليتوقف من عملوا " بحسن نية أو بسوء نية"، أو تنفيذاً لمخططات ودسائس استعمارية غربية أو غير غربية" فأرادوها حرباً ضروساً بين العروبة والإسلام تأتي على كل من العروبة والإسلام!!.. وها نحن.. ها نحن اليوم نحصد الدماء في عواصف الريح من جراء هذا التناحر والتقاتل العبثيين بين جسد وروحه، بين روح وجسدها.. بين فئات من أمة عربية بعضها يحمل أطراف جسد مسجى وأخرى تقبض ترى أنها على بعض الروح المحلق في الفضاء.. وتتصارع تلك الفئات صراع الوحوش الكواسر، بينما يضعف الجسد وتتآكل الروح ويشقى من يشقى بفعل هو الجهل وبحماسة هي القتل.!!

لا مشكلة بين القومية والدين، بين العروبة والإسلام.. لمن يخلص الفهم الفقه ويحكم العقل والوعي في أمر العلاقة العضوية بين القومية والدين، ولا لمن يريد أن يتمسك بجسد حي وهوية مجلوة وضمير يسمو بالخير ويتمتع بالجمال ويعي مسؤولية الحرية، ومسؤولية المخلوق عما اتمنه عليه الخالق.

أما إذا كانت " خلافاتكم" التي جرتكم إلى حتوفكم يا أهل الاختلاف هي " العلمانية" والدولة المدنية، وتداول السلطة، والديمقراطية بعجرها وبجرها، والحريات الأساسية والحقوق العامة، والإصلاح والتنيمة، والقضاء على الفساد والإفساد والفاسدين والمفسدين، والتخلص من طغيان حاكم وحكم " أي من الديكتاتورية.. إلى آخر ما هنالك من قضايا تتصل بالسياسة والمجتمع والعيش والمصالح العليا للوطن والشعب والأمة.. إلخ.. فهذا كله يمكن الوصول إلى تفاهم حوله من دون إراقة دماء وحروب تحرق الأخضر واليابس وتقضي على العلاقات السليمة وعلى مقومات كثيرة للوجود وفي الوجود. بل إن العنف الدامي والاقتتال الأعمى والثأريات المقيتة والعنتريات المكلفة واللجوء إلى كل الأسلحة وعلى رأسها " سلاح الكذب والافتراء" بالوسائل كافة ومنها الإعلام السقيم.. فذاك لن يحل شيئاً وسيؤسس لمزيد من الموت والدمار، وسعقد الأمور التي يسعى من يسعى إلى حل لها؟! ونحن هنا لا نقارب، بأية صورة من الصور، نفراً من الناس باعوا أنفسهم للشيطان، ولا آخرين أغوتهم شياطينهم وحكمتهو شهوات ونزوات رخيصة، واشتط بهم الإغواء والإغراء فضلوا وأضلوا وأخطأوا في الحسابات فقادوا كثيرين إلى حتوفهم وإلى معاناة تشكل نوعاً من الموت في كل يوم.. كما أننا لا يمكن أن نعني بالدعوتين: " ادخلوا في السلم كافة" و " تعالوا إلى كلمة سواء".. مَن جعل الوطن والوطنية والدين والقومية والقيم والإنسانية والسياسة والثقافة والوطنية تجارة وبضائع في أسواق السياسة الإعلام، وسخر ذاته للشر وجعلها بمتناول من يشتري ويبيع في دماء السوريين خاصة والعرب والمسلمين عامة، ومشى في طريق خيانة الأمة والوطن والقضية والقيم الدينية والوطنية.. فذاك اختار خياراته التي لا يمكن أن تلتقي مع خيارات وطنية شريفة ونظيفة وسليمة.. ولها مسميات وله أسماء معروفة عبر تاريخ الأمم والشعوب وفي القوانين المحلية والدولية وفي التشريعات البشرية والشرائع الإلهية. إنما نتوجه إلى من تعنيه الأفعال الحميدة والكلمة والطيبة والقيم السليمة ومن يعمِل كل جهد وفهم في خدمة الإنسان ويبقى على استعداد واقتدار لمراجعة الذات في ضوء الوقائع والعقل والمنطق والمعطيات، فيراجع نفسه ويتراجع عن الغي ويقصد المقصد الصحيح لأن الحقيقة تعنيه ولا يجعل فوق رضا الله سبحانه رضاً.        

        مشهد الغوطتين الدمشقيتين الدامي أمامي، وفي مثل شأنهما كل غوطة في سورية/ الشام ، وفي مثل ذلك كل عمران يتعرض للتدمير وكل إنسان يشقى أو يتعرض للإفناء في العراق ومصر وفلسطين ولبنان وفي غيرها وغيرها من بلدان العرب والمسلمين.. فهل يريد المقتتلون على جثة الأمة لهذا الأمر أن يستفحل، ولهذا القتل أن يستحر، ولهذه الفتنة المنتة أن تكبر وتتحرج وتشعلنا بنارها؟! وهل يريدون أكبر من هذا تدويلاً لشؤننا، وتدخلاً في بلداننا، وعقماً لنا في معالجة قضايانا ووضع حد لسفك دمائنا ونمو أنواع مثيرة من الأحقاد والفساد والإفساد بين ظهرانينا؟! إذا كان ذلك كذلك فلا خير فينا ولا في ما نقول نفعل. والأمر كل الأمر لله.

دمشق في 22/8/2013

علي عقلة عرسان