خبر عظْمة.. يسمونها الحكم.. لمن يراه عدلاً..علي عقلة عرسان

الساعة 01:59 م|09 أغسطس 2013

 

ليس كمثل هذا اليوم في أرض الشام يوم، فهو يوم عيد، لكنه مدجج بالقنابل والقذائف والصواريخ، ومن سخرية واستصغار يعلن ألا شأن له بالبواريد.. فمن يحملها في مثل هذا الوضع كمن يحمل خشبة في الوغى.. مع أن بعض الخشب قتَّال. وهو يوم من أيام أهل الشام يستجمع فيه الناس من كل الأعمار والفئات العزم ويتحركون في مواطن الذكريات ويستنبتون الفرح، وليس عند كثيرين منهم حدود لأمل يتناثر أقواس قزح في جهات الأفق الرحب الأربع، يضحك من يضحك والضحكى حبلى تتئم دمعة وبسمة.. فسورية ستبقى وسورية ستنتصر وسورية ستفرح وسورية التي تغتسل بالدمع من الدم ستخلو من الهم والغم.. ولكن.. ولكن حتى حين تتوكأ على عصا ترفع الرأس وتموج في نفسك ألوان الغروب؟! قال لي صاحبي ودمعه ساقية: "في اليوم الأول من عيد الفطر قضى ما يقرب من مئتي شخص في سورية، بين قتيل وشهيد، ولي بينهم.. وخنقه البكاء وهو يلفظ كلمة " شهيد"، ولا يعلم أحد مَن مِن المئتين والمئين والمئين.. من منهم شهيد أو قتيل بجرمه وإثمه وشرته، لأن علم ذلك وقراره الحق عند الله وحده"، أما نحن فنأمل ونقول.. وكلٌ يأمل ويقول.. ولا مصادرة للأمل والرجاء والقول، فلولاها لسودَّ أفق الروح باسوداد أفق السماء وانسكاب الحزن والصمت كآبة وسباتاً.

وفي هذا العيد المستهزئ بالبواريد المنتشي بالصواريخ على الكتف وبأحزمة الموت والسيارات المفخخة..إلخ إفك يضاف إلى إفك، واستجلابٌ للشر والموت يزيد من شراهة الشر والموت.. وسورية الشعب والتاريخ والثقافة والحضارة والبراءة والإخاء والطفولة جسدٌ مسجى، أبناؤها يدافعون عنها وآخرون، بينهم " أبناء لها"، يلِغون في دمها ويقتلون الأمن فيها ويشيعون الرعب في مغانيها ويلاحقون النوم بالرصاص. العيد في أرض الشام اليوم أرجوحة لطفل في مهب الخطر، والطفل فرح في العيد وفرحة لأهله فيه.. لكن الأرجوحة والطفل والفرح في مرمى القذائف المدمِّرة والأحقاد الحارقة والجنون المطبق.. وقلب الأم دمعٌ على طفل يستنزف عمرَه نزفُ جرحه، وقلب الأم الأخرى التي ترى إلى مشهد جريح الأرجوحة هلع وهياج تصرخ خوفاً على طفلها ويدها على الأرجوحة وقد صعق فيها الفرح؟! طار العيد، ونحن مثل أطفال يلعبون بطيارات الورق، يشدون خيوطها إليهم ويركضون ويركضون بينما العاصفة الهوجاء تدخلها وتدخلهم في المجهول وتتركهم جزءاً من الدوامة السوداء المتنامية.

إنا نعيش، "وبعض العيش تعليل"     إنا نموت وبعض الموت تضليل

إنا، وإنا، وإنا.. غير أن فماً         يرتل المجد أياً خانه الترتيل

في العيد، بين البسمة والدمعة، نذكر أمير الشعراء ونردد معه كأنما كل يوم فينا تستيقظ ذكرى ميسلون:

" وَالناسُ باذِلُ روحِهِ أَو مالِهِ       أَو عِلمِهِ وَالآخَرونَ فُضولُ

هَلِعَت دِمَشقُ وَأَقبَلَت في أَهلِها       مَلهوفَةً لَم تَدرِ كَيفَ تَقولُ

مَشَتِ الشُجونُ بِها وَعَمَّ غِياطَها       بَينَ الجَداوِلِ وَالعُيونِ ذُبولُ

في كُلِّ سَهلٍ أَنَّةٌ وَمَناحَةٌ       وَبِكُلِّ حَزنٍ رَنَّةٌ وَعَويلُ

وَكَأَنَّما نُعِيَت أُمَيَّةُ كُلُّها       لِلمَسجِدِ الأَمَوِيِّ فَهوَ طُلولُ"

يا لها من لحظات دانيات حاكمات قاصمات، نصالها في قلوبٍ ينفر منها الدم وينبعث فيها الأمل بالنصر أشعة، نصر على الذات ونصر على الشر والموت والتآمر والإرهاب ونصر ونصر.. لكي ينتصر بذلك وطن وشعب وتنتصر قيم وحياة فيها القيم أسُّ حياة.. ولكن الأقدام التي تغوص في الدم والوحل وتستنبت الغصص في الحلوق تنغرس في الأرض والأنفس تستزيد لها ولشامها ولشقيقتها مصر العزيزة، وتقول مع أحمد شوقي قوله:

كَم أَلفُ ميلٍ نَحوَ مِصرَ قَطَعتُم       فيمَ الوُقوفُ وَدونَ مِصرٍ ميلُ

نعم.. معم.. فيما الوقوف وتسعة وعشرون شهراً تسجل السجال بين الشرف والانحطاط، بين الموت وحب الحياة، بين نشيج في الوطن ونشيج من أجل الوطن على عتباته، لشعب يطلب الحياة فيمنحه بعض بنيه الموت باسمه.. ويا للموت من منحة.؟!

نحن في الشام كتلة من الجبر والكِبر والجبروت، كتلة تحيا وأخرى لكي تحيي تموت، وكتلة بين هذه وتلك لا تعرف كيف تصفها ولا كيف تصنفها.. وبيننا أشقاء لنا، فلسطينيون من أرض الشام الجنوبية، يعانون من التهجير الرابع، وبعضهم يصف تهجير اليوم بأنه أقسى من ذاك التهجير الأول عام 1948 وحين تسمع ذالك منهم تغص بقول طرفة بن العبد:

وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً       عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

لقد رافقت بعض أشقائي أولئك في القيظ الحارق وفي زمهرير الشتاء يوم كانت الخيام تطير عن الرؤوس وتشيلها الريح ويركض خلفها الخلق ليستردوها من فم الريح، ورأيت بأم عيني بعض معاناة من أقاموا منهم في مرج الزهور في خيام يستريح فوقها الثلج مهجرين الهجير الثاني أو الثالث، ورأيت فيمن رأيت منهم من عانى في صبرا وشاتيلا حقد العنصرية وإجرام الطائفية، وفي غزة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.. إلخ شاهدت وشاهدت وشاهدت، وكنت أتألم وأغضب وأغص بعجزي، لأن عدو الأمة الصهيوني شرٌ مطلق وهو يجرِّع الأمة أنواع المرار والذل ويبقى في حرز حريز من المعاناة ونخوة معتصم أو ملثم أو متسربل بنفط وبسواه.. وكنت أغضب وأعمل، وأحث على أن نغضب ونعمل، لكي يتحول الغضب والغيظ إلى نور ساطع ونار تحرق العدو، وضوء عقل ووجدان يفتح دروبب الأمة إلى النهضة والتحرير.. ولكن ماذا أقول اليوم وأنا أشاهد ابن مخيم اليرموك بدمشق وابن مخيم " حَنْدَرات" قرب حلب، ومثلها مخيمات ومخيمات ومخيمات، وأبناء مدن وأحياء وبلدات وقرى سورية يستباحون بأشكال مختلفة ويروعون ويجوعون ويشردون ويذل من بينهم الكريم وتستباح الحرة.. بأيدي من يدعي أنه " المحرر" وأنه المنجي من الضلال وأنه الحمى والحامي؟! وماذا أقول إذ أرى الذل ينتشر في أوساط منا ومن أشقائنا وكلنا أبناء الشام، وصاحب السيف والكيد والحقد ومن يهجّر ويقتل ويدفن الناس أحياء أو يزقهم أشلاء.. هو منا، من جلدنا ولحما ودمنا إن صح اللحم والدم والجلد، ويصرخ أو يصرخ باسمه الصارخون يقولون: "إنه يفعل ذلك فينا باسم الدين، ويفعله أحيانا دفاعاً عن الدين..؟! والله سبحانه وتعالى هو القائل: ﭽ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ   ﭛ  ﭜ   ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ   ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ   ﭫﭬ  ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ                 ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭼ المائدة: ٣٢   

ألا ليت العقل يحكم الأنفس ويلجمها، وليت الفهم يبسط ذاته على جوهر العلم فيما يتعلق بأمور فيها حياة الناس ومعالجة أمور معيشتهم وشؤونهم في الدنيا.. ويا ليت أهل الساسة والمتناطحين على المناصب والمكاسب والرئاسة يبرزون أمام الناس بسيوفهم وأسلحتهم وكيدهم وحقدهم فيتقاتلون إذا كان لا بد من تغييب العقل وتقديم السيف، فيصل الواصل منهم إلى حكم بإثم من قتل من دون أن يتحمل خلق كثير شروراً ونتائج شرور ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل؟!

على أن " يا ليت" لن توصل إلى شاطئ نجاة ولن تسد جوع جائع.. فكيف السبيل إلى حقن الدم ووقف العنف وتجنيب الناس شرور بعض الناس ممن يقتلون باسم الحرية أو باسم الدين أوباسم الوطنية والديمقراطية والتحريم والتحليل، وباسم شرع جرم قتل الإنسان، وجعل قتل امرء مؤمن من دون ذنب أصعب وأشد جريرة من هدم الكعبة المشرفة..؟!

ألا إننا ضاقت أنفسنا بكل ما يجري في الشام لأهل الشام، وأمحلت أرواحنا على الرغم من كونها أرض خير وخصب، وحصدنا الزؤان في صحونا ومنامنا، وتجرعنا الرعب والبؤس كؤوساً بعد كؤوس، وذقنا الموت من جراء ما جرى ويجري نفوساً بعد نفوس.. فمتى تضع هذه الحرب القذرة أوزارها؟ ومتى يؤوب الناس إلى الفهم والعقل والحكمة وبعض الوجدان ونور الله، ومتى يراعون شرع الله والقانون وروح العدل في الدولة المدنية التي ينشدون، وحق الناس في الحياة بأمن من جوع وخوف، وهم يدفعون أثماناً باهظة لـ " عظْمَة.. عظْمة.. عظْمة" يسمونها الحكم، لمن يريد أن يحكم بالعدل ويعلي شرع الله في الأرض، ويطبق قوانين الدولة المدنية بدقة وحزم على الناس بالتساوي، من دون أن يرى إلى الحكم على أنه تسلط ومغنَم ونشوة قادر على فعل ما يشاء من دون حساب!؟ ألا متى.. ألا متى؟!

دمشق في 9/8/2013

 

                                      علي عقلة عرسان