خبر نحتاج إلى مبادرات مسؤولة شجاعة ..علي عقلة عرسان

الساعة 12:41 م|06 أغسطس 2013

 

كل عام وأنتم بخير

غادرنا رمضان الكريم مثقلاً بدمنا وألمنا وشكوانا وأدعيتنا ومطالبنا التي كنا نصدع بها آناء الليل وأطراف النهار ونتوجه بها إلى الله القدير في هذا الشهر الفضيل، غادرنا رمضان وأتى علينا العيد، عيد الفطر المبارك، بغير جديد يسر عرباً ومسلمين كثيرين في أنحاء شتى من العالم.. فمن بلاد الشام إلى بلاد الروهينقا، مروراً بالعراق وأفغانستان وفلسطين ومصر يغص المشهد بألوان الدم والدخان، وبالقتل والحرائق وبيارق الفرق المتناحرة.. وتضج الأنفس بالشكوى من أشكال الظلم والقهر والجوع والرعب، ومن انحطاط أخذ يتفشى ويتفتق عن مكائد وسموم في سياسات وكتابات ووسائل إعلام بلغ بعضُها درجات من التحلل والانحلال والتهافت والتهالك على الصغائر والمهالك.. تشعر معها بأن عالمنا العربي على الخصوص وبعض جواره الإسلامي لم يعد فيه سوى هذه المستويات المتدنية من السقم الفكري والسفاهة اللفظية والانحدار ورسوم الأدعياء و" عملقة" الدعاة من كل نوع: من دعاة الحروب المذهبية والطائفية والعرقية إلى دعاة الاستعمار والصهيونية والحزبيات الضيقة والأيديولوجيات الغريبة المريبة، ومن دعاة الشرذمة والتقسيم السكاني والجغرافي، والفيدراليات السياسية الهزلية.. وكل من ذلك وأولئك يعيدنا  عهودٍـ " ما قبل عقلانية وما قبل جاهلية وما قبل حضارية..؟!"، ويضاف إلى ذلك دعاة بمعاول صلف وجهل يريدون هدم صرح العروبة التي يتهمونها بما لا يصدق ولا يطاق، وهدم الإسلام المحمدي الصحيح ومحاولة تشويه صورته النظيفة الناصعة، ونقض معمار قيمه ومقوماته وتسامحه ونقائه البهي، والعمل على جعل المسلمين في " دينين" والعياذ بالله، دينين يتكلم عنهما دعاة.. "دين السنة ودين الشيعة"؟! وما الكل، سنة وشيعة، إلا من دوحة الإسلام الواحد الذي جاء للناس كافة، ودخله من دخله على أساس من الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وباليوم الآخر، يوم نشور وحساب تُجزى فيه كل نفس بما كسبت، وعلى أساس التزم المسلم بأداء الفرائض والعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وتجنب المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وفق الشريعة وفقه العبادات والمعاملات.. أما المذاهب ففقه واجتهاد رجال مخلصين لم يكن همهم تفريق المسلمين بل سعي مخلص لفهم الدين وتطبيق ذاك الفهم بما لا يخرج مسلماً من الدين.. وهناك سعى قائم ومستمر بين العلماء والفقهاء والعقلاء والحكماء من المسلمين المؤمنين العارفين للتقريب بين تلك المذاهب، ونبذ للخلاف والاختلاف..  وليس سعيهم ذاك إلى تحويل الاختلاف المذهبي إلى تكفير وتدمير، وخوض حرب بين المسلمين على أسس يقال إنها " دينية" وما هي في حقيقة الأمر إلا بسبب خلافات واجتهادات تتصل بأمور سياسية واجتماعية ودنيوية مزمنة غذاها من غذها بحماسة وعصبية، وأضفى عليها البعض صبغات دينية فجعلها تطرفاً وقنابل موقوتة، وأحالها تكفيراً وسواطير وسيول دم وجهل جاهلي.؟!! وهذا السطح الذي يظهر للعالمين اليوم ويتلامع ربما دل على قمة جبل الجليد من مآسينا المتعددة الألوان والأسباب، وعلى عمق الانحطاط والانحلال والانفلات الذي بلغناه وأوصلتنا إليه سياسات ومؤامرات ومصالح وثقافات ووسائل إعلام ومشيخات ودعاة.

مضى رمضان المبارك ويمضي وراءه العيد " السعيد"، وبقي لنا ما نحن فيه، وما علينا أن نتجرع صابه ونعاني عذابه، نسوِّغ حلوه ومره، فمر حلو بذوق فريق وحلوه مر بذوق آخر، ومصائب قوم عند قوم فوائد؟!.. وهكذا هم الخلق في الحروب يتساقون كؤوس الردى ويتبادلون سداد ثارات الدم والأيام دول "يوم لك ويوم عليك".. ولكنها بمجملها أيام ترتد علينا نحن العرب والمسلمين وبالاً وضعفاً ونكالاً، وترتد كذلك على بلداننا وأمتنا الإسلامية وعلى الدين الإسلام، وعلى القيم وما قد يتبقى للأجيال العربية القادمة على الخصوص من وجود وحقوق وأمل. 

إن التطورات الأخيرة للحوادث والعلميات العسكرية والمواجهات الدموية على أرض سورية العربية التي يتناوش هويتها ووحدة أرضاً وشعباً ومبدئيتها الأقربون والأبعدون، تناوش الوحوش للفرائس، لا تنبئ بالكثير مما يمكن أن تطمئن إليه النفس وتبني عليه تفاؤلاً بثقة يشير إلى قرب نهاية الأزمة.. صحيح أن سورية لا يمكن أن تخسر أو تنهزم أو تستسلم، ولكن أزمتها الخانقة ستطول وترتفع تكاليفها، وتورث الكثير من الأحقاد والأزمات الصغيرة المتنوعة التي ستحتاج إلى جهد ووقت وتكاليف لمعالجتها.. فعلى صعيد الحل السياسي عبر مؤتمر جنيف2 نجد أن التحرك البطيء يمر بضبابية وتكتنفه أنواء السياسة الدولية وعواصفها وصراعاتها وحساباتها، لا سيما فيما يتعلق بدول وقضايا وملفات ومصالح متداخلة، وبأزمات ذات ارتدادات عنيفة على المنطقة مثل الأزمة في مصر وبلدان أخرى في المنطقة العربية ـ الإسلامية المتجاورة، الأمر الذي يجعل الاعتماد على المؤتمر، حتى في حال انعقاده، لا يسفر عن وقف للعنف، وحقن للدم، وخلق مناخ ثقة متبادلة تؤدي إلى التقارب والتفاهم والتعاون، وسلوك طرق الحل السلمي لكل متعلقات الأزمة السورية بنوايا طيبة وحرص على تحكيم المصالح العليا للشعب السوري في مجريات الحوار.. فالثقة مفقودة، والرؤوس الحامية تملك السلاح وتوعَد به وتحرك، ولا يوجد من يقبل الآخر في العمق بصدق، لأسباب عديدة أولها وأعمقها وأكثرها تأثيراً أن كثيرين من " اللاعبين السوريين" في المعارضة، لا سيما الخارجية والمسلحة منها، قرارهم ليس بأيدهم، وصوتهم ليس من رؤوسهم، وتشدهم منافع وأحلام وهواجس، ومن يحركونهم لم يصلوا بعد إلى درجة اليأس التام من المعركة ومن الأدوات.. وهم ومن يحركونهم يعبثون بدم وحياة من هم أدوات على الأرض بينما يقيمون حيث هم بأمن وراحة، وعلى الأرض السورية الكل يستهدف الكل، والشعب ضحية والبلد ضحية، والإنسان أضحى سلعة ووجعه تجاره، والكلام باسمه درجة على سلم الوصولية الطويل. 

وعلى صعيد التطورات في أرض المواجهات الدامية نجد أننا أمام معطيات ومتغيرات جديدة في كثير من الأوقات، والمتغيرات تخلق متغيرات، وندخل شيئاً فشيئاً من متاهة إلى متاهات.. ففي الوقت الذي يتقدم فيه الجيش العربي السوري بثقة في مواقع عدة ويسيطر ويمهد لعودة مخدرين، لا سيما في ريف دمشق وفي حمص وريفها، ويستمر في مواجهة المسلحين الذين يمتد طيفهم من القاعدة والنصرة وجيش الخلافة الإسلامية إلى كتائب ما يسمى "الجيش الحر" التي يعادي بعضها القاعدة والنصرة وجيش الخلافة، وينذرها هو رسمياً بمغادرة الأراضي السورية.. تُفتح جبهات ذات طابع طائفي " مذهبي" في منطقة اللاذقية ضمن إطار ما يسميه المسلحون حرب "تحرير الساحل السوري"، وتُفتَح أخرى ذات طابع عرقي في الشمال الشرقي من سورية المحاذي للحدود العراقية والتركية مع الأكراد لإقامة ما يعرف بدولة الخلافة الإسلامية. وهذان التطوران خطيران من حيث الدلالة المذهبية والعرقية.. فضلاً عن سلسلة الدلالات الأخرى: السياسية والاجتماعية والثقافية.. إلخ. وفي إطار هذين التطورين الخطيرين، وما يجري ضمنهما ولتحقيق أهداف القائمين بهما من معارك، يتم: تحشيد الأكراد كقومية، وليس أكراد سورية فقط، ضد النصرة ودولة الخلافة الإسلامية في الشمال الشرقي لسورية وتدور معارك هناك، كما يتم تحشيد النصرة و" الجيش الحر" وفصائل مسلحة أخرى، باتفاق بين تركيا والائتلاف، لتصعيد الحرب في منطقة اللاذقية لتحقيق ما يسمى: "تحرير الساحل السوري"، وفي هذا الاطار يهرع كثيرون من أبناء قرى الساحل لمناصرة ذويهم.. وقد وقع كثير من القتلى بين الأطراف المعنية بالصراع في تلك المناطق، وسقط مدنيون كثر ضحايا المعارك، وأُخذ آخرون أسرى ورهائن من قبل الطرفين، وتُحاصَر هناك في المنطقتين قرى وبلدات، ويعاني الناس من البؤس والجوع والإرهاب والقتل شر الويلات.. إلخ،  الأمر الذي ينذر بتوسع المعارك على أسس عرقية وأخرى مذهبية بصورة صريحة، ويفتح ملفات تحالف طوائف وقوى ودول على أسس جديدة.. فتركيا التي ترى أن سورية حركت الأكراد ضدها، لا سيما حزب " p.k.k" في مناطق رأس العين وتل أبيض على أسس عرقية، تحرِّك عناصر متداخلة التكوين والأغراض بالتعاون مع الائتلاف ضد سورية في منطقة اللاذقية على أسس مذهبية.. أما العراق الذي بدأت تعود إليه من سورية عناصر من القاعدة والنصرة ودولة الخلافة الإسلامية أو تتحرك ضمن جغرافيته كامتداد استراتيجي لها ولتحركها ومشروعها، وتكثر فيه عمليات التفجير والملاحقات العسكرية والأمنية فقد اتفق مع البرزاني على إرسال البيشمرقة الكردية لتشارك في العمليات العسكرية مع الجيش العراقي ضد القاعدة والنصرة ودولة الخلافة الإسلامية، بعد أن كانت البشمرقة تحارب ضد جيش العراق أو تقف ضده في مواقف عدة ترسيخاً لسلطة الإقليم.. وذلك أتى بعد المواجهات التي حصلت بين الأكراد وبين جبهة النصرة وجيش دولة الخلافة ومن شاركهما القتال ضد الأكراد في معارك رأس العين وتل أبيض وقراهما ومنطقة عفرين شمال حلب. وعلى هذا بدأت دائرة المواجهات تتسع وتكتسب صبغة مذهبية أو عرقية معلنة، ويكون لها تفاعلاتها وانعكاساتها البعيدة المدى لاحقاً.

إن مفاعيل هذه التطورات والمستجدات لن تغير في نوعية المواجهات ومستواها فقط بل سيمتد تأثيرها ليشمل العلاقات السياسية والتدخلات الأمنية والعسكرية المعلنة أو شبه المعلنة من أطراف دول عربية وإسلامية أخرى معنية بما يدور في سورية. وهذا ما يحملنا على القلق من تدهور الأوضاع بصورة أكثر وتوجهها نحو أزمات بل حروب.. وهو ما تم التنبيه لخطورته مراراً وتكراراً منذ بداية الأزمة في سورية.

هناك مسؤولية سياسية وخُلُقية ودينية واجتماعية على القادة السياسيين والروحيين في بلدان عربية وإسلامية محددة ومعنية بالأزمة السورية وعقابيلها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهؤلاء قادرون، إن هم أخلصوا النية ورعوا حق الله والناس وفي أنفسهم وبلدانهم ودينهم.. قادرون على لجم هذا التوجه المدمر، بالاتفاق على منع الفتنة المذهبية والعرقية بأي ثمن ومهما كانت النتائج. ويبدأ عملهم في هذا الاتجاه بمبادرة شجاعة ومسؤولة من قائد له احترام ومكانة ومهابة وقدرة على التأثير، قائد معني يبدأ بلجم نفسه عن البغي والغي - والنفس أمارة بالسوء - ليجعل غيره يقف عند حدود الله ومنفعة الناس ومصالح البلدان، وليمنع الكل من الانجراف باتجاه الهاوية، ويمكّنهم من التشارك في حوار القادة المسؤولين القادرين، للخروج بالمنطقة وليس بسورية وحدها من أزمة تهدد الأمتين العربية والإسلامية وتهدد الدين الإسلام والبشر، وهي فتنة لا تبقي ولا تذر.. ولا بد من تمهيداً لهذا ومن أجل تحقيق هذا الهدف النبيل وعلى طريقه، لا بد من وقف الحملات الإعلامية المسعورة المسفة وغير المسؤولة، لا سيما المذهبية والطائفية والعرقية منها، ويدخل في حكمها الحملات السياسية السفيهة الهابطة التي لا تحترم العقل ولا الحقيقة ولا الناس والعلاقات، ولا القيم والصلات التي تبقى وينبغي أن تبقى بين الناس، بل تدمرها وتهبط بها إلى أدنى درجات الانحطاط.. كما لا بد من وضع حد لسوق الكلام ولمن يقودون تلك الحملات وينفخون فيها ويتخذونها تجارة.. وأولئك في الأغلب الأعم، أشخاص " طُرَفٌ" ومتطرفون في الفهم والاعتقاد والسلوك، أو سطحيون في الإدراك وفي ذلك الذي سبق وذكرت كله، لا يفقهون من الدين والقومية والوطنية والقيم الإنسانية والحريات والحقوق وبناء الدول والمؤسسات والإنسان الذي هو الهدف من ذلك كله والوسيلة إلى ذلك كله.. إلا قشور القشور. إنهم يتقنون ذلاقة اللسان ويتخذونها تجارة ويرونها شطارة، لا تعنيهم الكلمة الطيبة ولا ما تفعله وما يجب أن يستثمر فيها، ولا يهمهم ما يفعله الكلام الخبيث في خلق الله، لا سيما حينما تكون الأنفس في فورة والناس في ثورة.

وإلى جانب القائد السياسي المسؤول ذي القدرة والمكانة والمهابة، نحتاج إلى تفعيل دور القيادات الروحية المعنية ذات المستوى نفسه من المكانة والمسؤولية، وللغايات ذاتها.. وهذا ممكن ومؤثر وقادر على خلق المناخ الملائم الذي نحتاج إليه للجم الفتنة ووقف مسارات العنف والدم والدمار.. أما الرافد الثقافي فله تأثيره وأهله وأهميته وضورته.. ولكن من أسف أقول إنه طفا على السطح الثقافي وطغا قيل " السطحيين" و "إعلاميين" نحن الفكر والثقافة والأدب والفقه والحصافة، القيادة والسيادة والسياسة والكياسة.. فسكت من يستحون وتوارى عن الأنظار من لا يقامرون بسمعتهم وكرامتهم في سوق غدت قيمه تجارة بلا خلق أو جدارة..؟! ألا تباً لمن ضيع الثقافة وأهلها وقيمها والمثقفين الأصلاء ودورهم وتأثيرهم، ألا تباً لمن باع واشترى وحوَّل بعض المثقفين إلى " مجمِّلين وملمِّعين" وبعض الثقافة إلى مساحيق تجميلية ترش على وجوه ساسة ومدعين ومتطرفين و" فناني" ومغامرين ومقامرين، وأيديولجيين محنطين يبقى توت عنخ آمون أكثر جدة وحيوية وحياة وعصرية منهم.

لست بصدد تسمية بلدان أو قادة في بلدان أراهم أهلاً لهذا المعروف ولهذه المبادرة والقيام بهذه المهمة الكبيرة، فهناك منهم من يعرف قدره وواجبه ولا يحتاج إلى من ينبهه إلى دوره وإلى ما يمليه عليه الحدث والدين والواجب واقتناص المكرمات.. ولكن أذكر بقول الحطيئة الشاعر:

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ  لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

 

دمشق في 6/8/2013

 

                                          علي عقلة عرسان