خبر إعلان كيري.. صحوة أم مناورة؟!.. علي عقلة عرسان

الساعة 03:24 م|26 يوليو 2013

 

 

 

في تصريح له، بعد اتصال أَعلن أنه بادر إليه مع الوزير لافروف قال الوزير جون كيري فجر اليوم الجمعة 26/7/2013 "إنه لا يوجد حل عسكري في سورية، ولا بد من الإسراع في الحل السياسي".. وكانت نبرته مشحونة بانفعال ملموس، وقد سبقه بان كيمون إلى القول بأن الوضع في سورية لم يعد يُحتمَل أو يُطاق" ولا بد من الإسراع في عقد مؤتمر جنيف وصولاً لحل سياسي.. إن هذا كلام نسمعه منذ أشهر على لسان سياسيين وديبلوماسيين روس وأميركيين، غربيين وأمميين، لكننا نجد أن الكلام عن الحل السياسي في واد والتصرف الرامي إلى تحقيق مكاسب قتالية على الأرض عن طريق دعم نوعي للمعارضة بالسلاح والمال والمقاتلين في وادٍ آخر.. والفرق اليوم أن الكلام مشحون بحرارة وقلق غير معهودين.. فما الذي حدث؟! هل يعبر الوزير جون كيري عن موقف حاسم للإدارة الأميركية يفيد التوجه نهائياً إلى الحل السياسي من دون مراوغة، في الوقت الذي تتصاعد فيه نبرة مجلسي الكونغرس بتزويد المعارضة السورية المسلحة بأسلحة نوعية؟! وبدهي أن التسليح يعني تأجيج نار الحرب على حساب الحلول السياسية وحقن الدماء.. أم أن الوزير جون كيري يريد أن يرجح كفة القلق الأميركي من التدخل وتكاليفه ونبعاته ليلتقي في هذا مع الجنرال ديمبسي الذي قدم لكارل ليفين "السيناريوهات" الخمس بشأن التدخل العسكري الأميركي المباشر أو شبه المباشر الذي لا بد منه، حسب محللين واستراتيجيين، لتحقيق تحول في المعركة لصالح المعارضة السورية وهو لا يتم إلا بإضعاف موقف الرئيس والجيش العربي السوري بقوة خارجية كبيرة أو تحالف قوى كبرى.؟!  

المشهد على الأرض السورية مرعب في دمويته، وضاغط ومقلق بنذره وانعكاساته الداخلية والخارجية، وموقف الجيش العربي السوري في تحسن وتقدم لمن يتابع ويراقب، لا سيما في ريف دمشق وفي حمص وريفها، وبعض أطراف المعارضة المسلحة في تنافر وتضاد وتصادم دموي، والسلاح النوعي الذي يرسَل إلى المعارضة السورية وفق تعهدات وشروط منها ألا يصل إلى أيدي عناصر من جبهة النصرة والقاعدة أصبح يصل إليها، وبعضه يصل إلى الجيش العربي السوري بطريقة ما!؟.. والتدخل العسكري الخارجي المباشر الذي يحقق " سيناريوهات" لصالح المعارضة المسلحة، وهو تدخل تستجديه منذ بداية الأزمة، لن يتم لأسباب غدت معروفة، وإذا تم بخطط تآمرية خفية فهو الجحيم والجنون في أقسى تجلياتهما.. والمعاناة الإنسانية للمدنيين السوريين المشردين داخل البلاد وخارجها تتفاقم وتزداد سوءاً وتزيدها أوضاع بعض بلدان اللجوء العربية مأساوية، والمستقبليّ مما يتصل بالأوضاع الاجتماعية والإنسانية للسوريين ينذر بكوارث كبيرة إذا ما استمرت الحرب واستمر الوضع على ما هو عليه واستمراره يزيده سوءاً بكل تأكيد، وهو وضع عملياً لا يتوقف عن التفاعل السلبي في مجالات كثيرة صحية ونفسية واجتماعية.. و.. فضلاً عن أنه يتمدد ويتجدد.. والمعارضات السورية العاملة في المجال السياسي لا تتفق على رؤية واقعية بل على أحلام وشعارات وأمانيّ، وهي مشتتة الآراء والرؤى والمشارب وأيديولوجيات والولاءات، وبعضها متهالك على أمور لا تتصل بأي شيء نضالي أو بنَّاء، وهي تتسابق على كسب رضا الممولين والمشغلين والمسيرين والمستثمرين في الأزمة السورية، ويشك بعضها ببعض، ولا تثق أطياف من معارضة الداخل بمعارضة الخارج أو بأطياف منها، وأطراف كثيرة من المعارضة العاملة على الأرض في الداخل لا تتفق على شيء، وهي لا تملك قرارها بحكم الولاء لمن يمول ويسير ويخطط ويأمر؟!، ولا تتقن العمل في السياسة فضلاً عن أن كثيرين من بين أفرادها يرى أنه العلم ولا يحتاج إلى التعلم، وأنه فوق التعلم أصلاً.. ويجهض مقاربتها لمتطلبات السياسة ومرونتها عنفوان مكابر "لثورجية" قاصرة مقامِرة.. ولكل فرد من أولئك " موَّاله" الخاص وقناعه الذي يستر به الوجه والتوجه الحقيقيين اللذين له.. ومنهجها حتى الآن فشل يفاقم الفشل، وتواكل يضاعف التآكل، ومطالبة بالتدخل العسكري الخارجي بالشأن السوري " في موال مشترك يقول: هاتوا لي حبيبي"، وهي مطالبة بتدخل قوى خارجية بالقوة في شؤون وطنية تأتي على كل صلة لمن يفعلها بالوطن والقيم والمواطنة، وتبت علاقة المناضل بالنضال الشريف، وصلة المعارضة بالإصلاح وحماية الدولة وتعزيز مكانتها وحماية مؤسساتها، وتنهي ادعاء أي ثائر بحرية وتحرير وتحرر وكرامة.

إذا كان تصريح الوزير كيري الأخير، بنبرته الحارة، يعبر عن صحوة ويقظة ضمير وموقف صادق حاسم حازم لإدارة الرئيس أوباما.. فإن ذلك مرحب به وفيه أمل، ويفتح بوابة انفراج للأزمة السورية الخانقة، وفيه نهاية لمسارات الخداع والمكر السياسي والتعسف والرهانات الخاسرة التي سيطرت طويلاً على هذا الملف، وفيه لجم للنزوع العدواني والخرق السياسي في أوساط دولية، وخروج من المتاهات التي يدخِل العالمَ فيها الصهاينةُ الأميركيون واليمينُ الأميركي المتطرف، وأتباعُ العنصرية " الدينية والعرقية" المتطرفون من زمرة جورج W بوش، وربما جاز القول إن على رأس ما فيه أميركياً " لجمٌ أو برءٌ من داء مستشارين ومفكرين وسياسيين يعبرون عن مواقف ومخططات "ايباك" التي هي مصالح " إسرائيل" العنصرية، وينخرون الإدارة الأميركية أخلاقياً وسياسياً لينفذوا أهدافهم، وهم من عتاة العنصريين الصهاينة ذوي الهويات والارتباطات الخطرة على الإنسانية والسلم والأمن الدوليين، ومن نماذجهم الكثيرة المثيرة اليوم دانييل بايبس صوت نتنياهو الحاد في الإدارة الأميركية.

إن علينا أن ننتظر قليلاً لنتأكد من نقاء هذا الصوت الأميركي الجديد ومصداقيته، الصوت الجدي لكيري، ومن قدرته على الوصول إلى آذان صاغية، وتحوله إلى قرار سياسي ومن ثم إلى تحرك سياسي على نهج واضح ثابت، إيجابي وأخلاقي مسؤول، يرمي إلى الوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية لا بديل له، إذ لا حلول عسكرية للأزمة باعتراف الجميع، ولا حلول عسكرية أصلاً يمكن أن تبقي من البلد ما يقيم قوام المجتمع والدولة على أسس قوية سليمةـ  إننا نريد من جنيف بقيادة الدولتين الكبريين مواقف مسؤولة وحاكمة ونافذة، وليس إلى موجات جديدة من المناورات السياسية المكلفة بشرياً ومادياً للسوريين، بغية أن تصل هذه الدولة أو تلك، هذا الفريق أو ذاك، إلى غايات ومكاسب ضيقة قريبة؟! إن عليهما أن تحسما الأمر، وأن تجعلا أطرافاً سورية وعربية وغربية تدرك أنها لن تكسب رهانات مضت أشهر عديدة دامية لم تكسبها ولن يتحقق لها من وراء السير في هذه الطريق شيء. لقد أنتجت الأزمة السورية متغيرات سياسية، وساهمت في تعزيز وجود قطبين في السياسة الدولية، ولن يكون ما بعدها في السياسة العالمية مثل ما قبلها، ولكنها ألحقت دماراً هائلاً بسورية وشعبها، وحركت قوى وأسفرت عن متغيرات وتفاعلات ذات نتائج سلبية على سورية والجوار السوري وامتداده العربي والإقليمي، ووضعت الديموغرافيا ومن ثم الجغرافيا السورية على شفا تشققات تغذيها أحلام قديمة لجماعات تريد تنفيذ مشاريع تقسيمية مرفوضة سورياً وإقليمياً، وتحقيق طموحات غير مشروعة على حساب سورية الدولة والوطن والشعب، وعلى من يدفع دولياً وإقليمياً وسورياً بهذا الاتجاه أن يدرك جيداً أنه سوف يكون لذلك التوجه نتائجه المدمرة على الأوضاع والعلاقات والبشر والمصالح والسياسات في بعض دول المنطقة على الأقل، لاسيما تركيا والعراق وإيران، وسورية ولبنان بطبيعة الحال. وإذا قرأنا جيداً تهديد تركيا على لسان داود أوغلو بالتدخل المباشر في مناطق سورية بعد أحداث "تل أبيض" كما كانت تركيا تتدخل في العراق، وتمعنا في توجه وتحرك قوى مسلحة لإقامة إمارة إسلامية في سورية هذا في اتجاه، ودولة كردية في اتجاه آخر، إضافة إلى ما يجري في العراق من دمويات يومية على خلفيات سياسية ومذهبية وعرقية، أدركنا بعض آفاق التطورات المقبلة وحجم المخاطر التي تنطوي عليها.. وهذا كله في حال استمرار الأزمة السورية بالاتجاه الذي يرسمه لها من لا يريدون بسورية وشعبها خيراً، الذين يريدون تدمير الدولة ودورها العربي والإقليمي فضلاً عن خياراتها السياسية المبدئية الحرة وتاريخها الحضاري، ويخططون لدخول المعارضات المسلحة في حروب إفناء للدولة السورية ولبعضهم بعضاً عل جثتها، حرب يخوضها ويقودها أمراء الفصائل والمناطق ومغامرون من كل مشرب ولون، ويهيئون لانقضاض أطراف معينة على مناطق ومواقع لتحقيق مشاريع مبيتة، ومن ثم يأتي الصيد الوفير للعدو الصهيوني الذي يتربّص ويستعد وينفذ ما يشاء تنفيذه من خطط ومشاريع، منها القضاء التام على المقامة والوعي بأهميتها ومسوغات بقائها، وتبديد حق العودة وإلغائه، وإنهاء قضية فلسطين لمصلحته التامة، وتهويد القدس، وفرض الاعتراف بيهودية الدولة الذي يعني تشريد ما تبقى من الفلسطينيين في أرضهم التاريخية وإغلاق الباب أمام أية عودة بموجب القرار 194 لعام 1948 والسيطرة على المستوطنات في الضفة الغربية التي تمدد فيها سكة حديدية " إسرائيلية" بطول يزيد على 480 كم كل هذا في هذا الوضع العربي المتردي، حيث يغرق العرب في دمائهم وفي فوضى " بوش" الخلاقة، ويلعقون جراحهم ويدخلون ميادين الصراع والصياح، من تونس الحانية إلى سورية الدامية مروراً بمصر العزيزة المشرفة على ما لا نريده لها من صراعات أهلية، وليبيا التي تأكل أبناءها والعراق المثخن بالجراح.   

إن عقد مؤتمر جنيف 2 لتنفيذ ما اتفق عليه في جنيف 1 أي " بيان جنيف وبرناج النقاط الست التي أقرت بناء على اقتراح كوفي عنان.. إلخ" مع بعض التعديلات الطفيفة التي تم التوافق عليها، هو المدخل السليم لحل سياسي صحيح للأزمة السورية التي دخلت شهرها التاسع والعشرين وهي مثل كرة النار تتدحرج وتكبر وتنشر شررها وتحرق كل ما ومن يصادفها، وتزلزل  الأفق السياسي العربي والإقليمي والدولي، وتبيِّت نيران الحرائق تحت رماد الأنفس في تلافيف العقول وحنايا الضمائر والضلوع، عبر جماعات بشرية دخلت أو أجبرت على الدخول في مرحلة اللاتعقل أو مرحلة الثأر المجنون والجنون الثائر!!. وعلى الراعيين الدوليين الرئيسين لجنيف 2، روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، أن يعملا بسرعة وجدية ونزاهة وثقة متبادلة ووضوح تام، ولا سيما الطرف الأميركي الذي أدمن المكر والمراوغة والخداع، وأن يشدا الأطراف السورية والعربية والإقليمية والدولية الأخرى التي يلعب بعضها بالنار في الهوامش الخطرة، ويعبث بعضها الآخر بمصائر الآخرين ويحرضهم على الاقتتال من دون حس أخلاقي أو ديني أو إنساني بالمسؤولية من أي نوع.. أن يشدا تلك الأطراف إلى الحل السياسي بواقعية وإلى العقلانية والمنطق لتصفو العلاقات الداخلية والعربية واقليمية والدولية من خبث ما لحق بها شرور هذه الكارثة وأدرانها.. وعليهما أن يشدا كل أولئك الرافضين والمترددين والعابثين إلى السير بجدية ومسؤولية في الطريق التي اختارتاها، طريق الحل السياسي،  ويلجما التطرف من دون مواربة أو تلكؤ، ويمضيا في معالجة أوضاع هي غاية في الصعوبة والخطورة والإلحاح، معالجة أبعاده كافة: العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية والاجتماعية، من خلال الدولة المدنية الديمقراطية العميقة المسؤولة الكافلة للمواطنة والحقوق والحريات عبر الدستور والقوانين المقرة بإرادة شعبية، الدول القائمة القادرة سورية المتصالحة مع نفسها.. وهي أوضاع ترتب على الراعيين خاصة وعلى غيرهما من دول العالم وشعوبه مسؤولية اتباع سياسة حكيمة وأخلاقية وإنسانية بافق واسع، لكي ينهي المؤتمر بالحوار والموقف الدولي المتوازن بحكمة وعدل تهديداً لدولة عضو مؤسس في الأمم المتحدة هي سورية التي عانت كثيراً، ويعزز الأمن والسلم الدوليين.

ومن ثم لا بد من وضع تصور عام متفق عليه لمواجهة الإرهاب العابر للقارات والدول والقوميات، تمهيداً لمواجهته بإرادة دولية شاملة متكاملة، وهذا يقتضي بالضرورة وقبل كل شيء الاتفاق على تعريف علمي دقيق جامع مانع للإرهاب، يتم عبر مؤتمر دولي يعقد لهذه الغاية بإشراف الأمم المتحدة، وتقدم له درسات جادة من ذوي اختصاص متكنين.. حتى ينتهي العبث والخلط وتنتهي الذرائع السياسية للعدوان على الدول باسم مقاومة الإرهاب وتنتهي المعايير المزدوجة والسياسات المزاجية في هذا المجال.. ومن البدهي أن مقاومة شعب تحت الاحتلال للقوة المحتلة حتى التحرير ليس إرهاباً، ودفاع شعب عن نفسه بمقاومة تحميه وتحمي أرضه ومقدساته وحقوقه ليس إرهاباً، ومقاومة العدوان الخارجي على بلد وشعب وما يدخل من ذلك في باب الاحتلال ليس إرهاباً.

إننا ننتظر، ومن حقنا أن نتفاءل، وأن نتطلع إلى تحرك دولي مسؤول عاجل، يقوم على الحق والعدل ويقيمهما بمسؤولية خلقية وسياسية وإنسانية، لحقن الدم، ووقف العنف وزحف الموت والخراب على الحياة والحضارة والعمران، ولإنهاء الحالة المأساوية الدموية الكارثية في سورية، وهي حالة كما قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون "لم تعد تُحتَمل أو لم تعد تُطاق.".

والله من وارء القصد.

 

دمشق في 26/7/2013

 

علي عقلة عرسان