خبر إذا اتجر الراعي هلكت الرعية ..علي عقلة عرسان

الساعة 01:19 م|12 يوليو 2013

 

 

عندما تتحدث عن " تجار الأزمات" بصورة عامة أو عن تجار الأزمة في سورية بصفة خاصة، فلا تنس يا رعاك الله، أن أولئك التجار تمتد قطاعاتهم وأعمالهم وبضائعهم من التجارة بالسياسة والمبادئ والبشر عبر البر والبحر وفي الفضاء، إلى التجارة بالسلاح والدم والقتل والدمار وإشعال الفتن والاستثمار فيها، وبالشعارات والقيم الإنسانية والحقوق والحريات.. ويبدأ تصنيفهم من حيث الخامة والقوة والقدرة والامتداد والنفوذ.. إلخ من حيتان البحر وفيلة البر بما في ذلك "الديناصورات" إن بقي منها واحد على قيد الحياة، ويمتد ليبلغ مستوى الفيروسات الدقيقة الفتاكة التي لا ترى بالعين المجردة ولكن فعلها يدل عليها.. وهم ينتشرون في مستويات تمتد من مستويات الدولة العظمى فالدول الكبيرة.. ويتدرجون ليصلوا إلى قطاعات أدنى فأدنى في السلم ذاته.. ومن لم يعط منهم بسطة في الجسم قد يعطى بسطة في المال، ومن لا يعطى لا هذا ولا ذاك قد يعد إلى الحيلة والخداع والمكر والتلون ليحمي ذاته أو ليشارك في الكعكة ولو مشاركة النملة في البيدر، إذ المهم ألا يبقى خارج دائرة اللعب أو يصنف في دائرة الفرائس التي قد يؤول أمرها إلى الضعف والانقراض.. وفي الأزمة السورية التي تخنقنا وتتؤشر إلى المزيد من الخوانق والقواصم تراهم كباراً وصغاراً مثل فطور سامة في التربة السورية هذه الأيام..

على أن هذه التجارة ذات الصفات والأبعاد والمواصفات الدولية والإقليمية والعربية والمحلية المتدرجة بمنحدرات ليست هي الوحيدة التي يعاني منها الشعب والدولة التي تصاب بأزمة، ولا نعاني منها فحسب في سورية المبتلاة بنوع نادر وخانق من الأزمات والآفات والنماذج والشخصيات.. فإلى جانب هذا القطاع " الأزموي" بتفرعاته الأحطبوطية العجيبة التي تفترس الدول يتعملق قطاع آخر لا يقل عنه شراسة وشراهة، ينبت أو يستنبت على جلد الأول وفي ظلاله أو بتحريض منه، وينمو كالطحالب السامة، وينصَبُّ فتكه على الناس في معيشتهم وراحتهم وكرامتهم وآمالهم ومستقبل أجيالهم وفيما يتبقى لهم من أمنهم في أضيق الدوائر المحيطة بهم. ويهيمن هذا القطاع على المال والأسواق والسلع والمعاملات والأخلاق، فتراه يبدع من خلال عناصره في أساليب إهانة الناس وقتلهم من الداخل، لتبقى منهم هياكل بشرية متحركة في متاهات لا نهائية، لا تكاد تملك من أمرها شيئاً، يرهقها العيش ويرهقها أن ترفع صوتها احتجاجاً على ما تلقه من صنوف الإذلال أثناء رحلة العيش.. وهكذا تتظافر في الأزمات على البلدان والشعوب جهود من يتاجرون بالموت والدم والسلاح مع جهود من يتاجرون بالسلع والقيم والدين والشعارات والسياسات، وترى الكل يسبح في بحر سياسة هي النخاسة أو النجاسة أو الاثنين معاً، فما دامت السياسة مصالح لا تعينهيا الإخلاق فإنه لا يعنيها شقاء الإنسان ولا حياته؟!  وهم يخلقون جميعاً بتعاونهم أو تصارعهم مناخاً ملائماً ينمو فيه الفساد والإفساد والبؤس واليأس وتضعف فيه الأنفس والآمال، وتشحُ الرؤى وتقترب الآجال، وتراهم يساهمون في إضاعة البلاد والعباد والرشاد من دون أن يطرف لهم جفن، فما يعنيهم هو تحقيق الأهداف والاستراتيجيات التي ترمي إلى تحقيقها السياسات التي يرسمونها ويقفون خلفها، وتقف بدورها وراء الأزمات وتديرها وتستثمر فيها.

في سورية البلد العربي الحبيب ذي التاريخ الحضاري والانتماء العربي الإسلامي، والموقف القومي، والتطلع التحريري التحرري..في سورية الأزمة ـ المأساة، لم يعد الحديث الآن عن أزمة خانقة أو عن كارثة إنسانية من الأمور التي تقدم توصيفاً مناسباً أو قريباً من المناسب يقارب الواقع ويوفيه بعض حقه وترى فيه تبياناً لما يجري على أرضها، فالمأساة أعمق، والثمن أفدح، والحدث أكبر.. من أي وصف وتوصيف ورما من كلمات وأحاسيس.. إنها زلزلات ذوات ارتدادات متتاليات، زلزلات مستمرة تنتقل من رقعة إلى رقعة على وسع الوطن، تطحن البشر والشجر والحجر، وتعيد الكرَّة أكثر من مرة في بقع بعينها حتى لترى الدم واللحم والعظم والرمل والتراب والماء في عجينية رصاصية فريدة. وعندما تقف عند عتبة أحداث تتصل بمن مات وما دُمِّر وما ينتج عن ذينك الموت والدمار من أحوال، تقف على مصائب تبدأ كبيرة على الأنفس والقلوب ولكنها تتدرج نحو الصغر بعوامل منها ما يجلبه كبَر ما يتلوها من مصائب، وتبقى الأولى تَضمُر شيئاً فشيئاً بفعل المستجدات والزمن وما يحمله " النسيان" للإنسان من " نعم".. أما حين تقف على النماذج الأخرى من مصائب الأحياء من جرحى ومعوقين وموقوفين ومخطوفين ومحاصرين ومحتاجين إلى الماء والرغيف والدواء وإلى أبسط الحاجات التي من شأنها أن تسد الرمق وتحفظ ماء الوجه وتبقي على الحياء وشيئ من الكرامة.. فإنك تذهل.. نعم تذهل، ولكن حين تقف على أحوال أسرٍ ويتامى وأرامل وأطفال بلا غذاء أو ملابس أو مدارس، وأحوال آخرين من بينهم يتهددهم المرض وسوء التغذية والجوع والفقر والحصار والرعب والتشرد.. إلخ، فإنك تقف على نوع من المصائب تبدأ صغيرة ولكنها تكبر ثم تكبر ثم تكبر، وتفرِّخ مصائب وهي تنمو وتكبر، وترافقها معاناة وآلام ومشكلات لا حدود لمداها، وينتج عنها انسداد للأفق له ما بعده، وبؤس في المجتمع والروح والتفكير والتدبير.. حتى لتكاد تُصاب بشلل من نوع فريد وأنت تواكب استمرار تدفق هذا النوع من المصائب والحالات في نهر حياة السوريين والسوريات.

إذ يبدو أنه لا يكفينا تعطّل قسم كبير جداً من الإنتاج الزراعي، عصب الاقتصاد السوري، وتراجع المحاصيل الاستراتيجية التي هي عماد حياتنا من جهة وجوهر قوة المواقف السورية واستقلالها تاريخياً من جهة أخرى، ليأتي فوق ذلك الحصار الاقتصادي والمالي المفروض على سورية وشعبها من دول غربية وإقليمية وعربية فيتدهور سعر صرف الليرة السورية وترتفع الأسعار بصورة جنونية، ويفاقم ذلك كله المصائب والمعاناة، في جو هو المصيبة والمعاناة حيث يتسبب الاقتتال بتدمير مصادر الدخل القومي ومقومات الحياة  اليومية كالنفط والغاز والكهرباء ووسائل المواصلات..إلخ فضلاً عن تدمير المدارس والمشافي والمرافق العامة و.. و.. ولا نتكلم هنا عن القوات المسلحة وما يتصل بها من جراء ذلك كله، وما ينعكس على قدرتها مستقبلاً على التحرير.. وهذا كله هو الوطن والكارثة التي يعاني منها الوطن.   

 في  الأسواق أسواقنا، حيث كثرة من تجارنا لا يتحلون بأخلاق السوق كما قدمها الفقه والشرع وقنَّنها القانون، وحيث لا يعنيهم أن يكون التجارة قد ألهتهم عن ذكر الله وحادت بهم عن صريح أمره " فاستقم كما أمرت"، وحيث كثيرون منهم يمارسون فعل قتل من نوع فريد لا يعاقب عليه القانون في "بلدنا؟!"، ويمتصون دماء الناس بصورة تفوق في بشاعتها فعل مصاصي الدماء المحترفين أو المتخيلين في أفلام هوليود، ويستغلون أزمة البلد والمواطن أبشع استغلال وأشنعه.. في الأسواق أسواقنا، حيث يوجد البشر وتوجد السلع والضروريات التي لا بد منها في الحياة، من غير المعقول ولا المقبول ولا حتى المفهوم - على الرغم من حدة الأزمة وكثرة العابثين الخارجيين بسورية وأمنها - أن يكون موقف الجهات الرسمية المسؤولة والمعنية من تجار الأزمة هؤلاء النظر والتأسف، و"مجرد عجز يسيل مسلَّم به ومستطيل، يعبَّر عنه بتوجع وتفجع وتلمس للأسباب والذرائع، عجز مرفوض شعبياً بكل الصور والأشكال، وينم عنه تغاضٍ مدروسٍ أو مغروس في "اللا أدرية" الإدارية، وهو يدخل في باب وضع الرأس في الرمل لكي لا نرى، فعل النعام في الرمال!؟ ولا يجدي فيما يبدو تقديم ما يسمى "بدائل" هشة قياساً على قسوة الأزمة، مثل " فرع مؤسسة أو دكان بإشراف الدولة هنا وهناك" توجد في أحياء وتُحرم من وجودها أحياء، ويسعى إليها المواطن البعيد فيصل إليها بعد جهد جهد إن هو وصل، ويدفع ما توفره عليه أجرة للمواصلات الكاوية هي الأخرى، عدا الوقت المضاع الذي لا يحسب له حساب عندنا أو تقل قيمته ولا ترتفع " شأن الإنسان" قياساً على السلع؟! وهي بدائل، على قدمها وأهميتها وضرورة تعميمها، تهدف إلى التخفيف عن الناس من شدة الغلاء، وتحاول أن تلجم بعض العبث بأسعار السلع.. ولكنها لم تحل المشكلة ولا يمكن أن تحلها بهذه الصورة. كما أنه لا يمكن أن تكون من الأفعال الكافية والشافية والمنقذة والرادعة، لا للناس ولا لأي من تجار الأزمات الذين يفرخون يومياً بالعشرات إن لم نقل بأكثر وتكبر أحجامهم ويزدادون شراسة، في رمضان خاصة، فيتمددون ويتطاولون هبشاً ولطشاً ونهباً، وهم يصعِّرون وجوههم للناس بعجرفة وغطرسة، ويوجه بعضهم  إهانات للمستهلك الذي قد يتأفف مما يفعلون، ويبقى قيد حصارهم فلا غنى له عما بيدهم من ضرورات العيش، يشتريها ليبقي أولاده على قيد الحياة ويبقى، إن هو استطاع إلى ذلك سبيلا.

إن المطلوب بسرعة وإلحاح حضورٌ فاعل للدولة في المواقع التي يهم الناس أن يحضر فيها مسؤولون معنيون يمثلونها، يدركون جيداً أبعاد ما يقومون به باسم الشعب والقانون، ويعملون بقاعدة عامة تحمي منهم وتحميهم، قاعدة أطلقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقول: " إذا اتجر الراعي هلكت الرعية.".. والمطلوب بإلحاح وسرعة أيضاً أن ترتفع يد الدولة في الأسواق على الأقل"، لتفرض القانون على من لا يحترم قانوناً ولا وطناً ولا إنساناً في الوطن، ويستبيح التجارة، " الجشع والغش والنهب"، بكل شيء من السلع إلى القيم إلى حياة البشر.. إن ذلك مطلوب بالتوازي مع الإسراع في رفع الحصار عن أماكن يستجير فيها الناس من الحصار بأشكاله، والعمل على إنقاذ الأطفال من غوائل المرض والجوع بإنقاذهم وأسرهم من الحاجة والاستغلال والفقر والخوف والتشرد وجشع تجار الأزمات، أعداء الحق والعدل والحياة. إن العدو الخارجي نواجهه كبلد وشعب وقوات مسلحة ومواطنين بدمنا ولحمنا وصبرنا وجهادنا، أما العدو الداخلي الذي يضعفنا ويقتلنا يوساعد علينا بصورة ما ف‘ن علينا أن نلتفت إليه ونضع له حداً، لكي نستطيع حسم المعركة المفروضة علينا سواء أكانت معركة السلاح أو الحصار أو أنواع الفعل الأخرى الممتدة من ضفاف السياسي إلى ضفاف الديني.

والله ولي التوفيق

دمشق في 12/7/2013

 

علي عقلة عرسان