خبر مصر العزيزة.. علي عقلة عرسان

الساعة 04:53 م|05 يوليو 2013

 

الصفحة العربية في هذا الأوان رمادية، وعلى من يكتب فيها اليوم أن يكتب بحبر ملوَّن لكي يتضح لقارئه ما يكتب.. وبعض من يكتبون فيها يكتبون بألوان قد يكون منها الدم أو فحم الحرائق ورماد الأجساد المتفحمة.. وتنازعني الرغبة اليوم في أن أكتب عن مصر العزيزة من حيث اراها في ظلال دخان حرائق الشام وفحم جسدي الذي يشتاق الماء على ضفاف أنهار في بلاد الشام.. يظمى والماء قريب، ويحترق ولا إطفاء. أرغب في أن أكتب عن مصر العزيزة، فلمصر في نفسي موقع خاص، ولها علي فضل لا يُنسى ولا يُجحَد، ولها في قلبي جِمار قد تخمُد ولكنها لا تهمَد، وتبقى مبثوثة في كياني بحجم بيض النعام تعس تحت الرماد، وتستعيد شبوبها حين يُلقَى في الموقد حطب وتهب الريح أو ينفخ نافخ في الموقد.. وحينذاك تشب شُعَلُها وتتراقص وتُضيء وتُدفِئ وقد تحرق.. وأنا أخاف من الحريق لأنه موصول بقلبي قبل ثوبي ويأتي على جسدي شيئاً فشيئاً منذ سنتين ونيِّف، وعلى الرغم من اشتعالي في سورية بسبب اشتعال النار فيها.. أقلق على مصر ومصيرها ودورها وأهاليها، لأن ما قد أفتقده في سورية أجده في مصر.. فنحن بيت واحد وأمل واحد وذراع واحدة وقلب بجيوب قد تعبث به الأهواء ولكنها لا يمكن أن تمزقه أبداً أو تخرج به خارج جسده الأم.. ونحن في الوجدان والبيان قرْع الزمان على أبواب الذاكرة العربية بأننا دولة الوحدة، ومن جمع العرب على قلب واحد ولو إلى وقت، ومن خاض حرب تشرين/ أكتوبر 1973 ومن يبقى منارة الأمة إذا ما غامت الرؤى واسود الليل وسيفها إذا ما عَصَب الوقت واشتدت المحنة. والتاريخ، منذ معركة قادش الأولى وما قبلها إلى حطين وتشرين وما بعدهما، يحفظ ذلك ويذكر به ويقدمه درساً لمن يقراً وعبرة لمن يعتبر ويحث على التمسك به والاستفادة منه.

يهمني مَن يحكم مصر.. يهمني فكره وتوجهه وهويته استقلاليته ووعيه ورسوخ الخلق والإيمان والقيم السامية في تكوينه وتجليها في سلوكه، ويهمني خياره السياسي وأفقه العربي ـ الإسلامي ومفهومه للحرية والمساواة اللتين أراهما حصاني عربة " الديمقراطية" المتينين القويين اللذين لا غنى عنهما، بينما تتلون العربة بألوان وتزركش وتأخذ وضع الماء في الأواني المستطرَقَة في بلدان وأزمان وعهود، وتعبث بها وبمفاهيمها وتطبيقاتها ومعاييرها السياساتُ والأحزاب والأموال ووسائل الإعلام والقشريات الثقافية والأيدلوجيات العصبوية والعصابية.. وتهمني في مَن يحكم مصر أشياء أخرى تتصل بالقومية العربية والوعي الديني والهوية والرؤية المستقبلية وكل ما يُستنبَت بصحة وسلامة في تراب أرض الكنانة وتربتها الثقافة.. ولكن مصر تهمني أكثر وأكثر وأكثر بكثير جداً ممن يحكمها.. فهي تبقى ومن يحكمها يزول، وهي الميزان ومن وما يتوالى على كفتيه سلع ومثاقيل، وهي أبدية بشعبها ونيلها وخيراتها وهو لحْظيّ متحول ومتغير، قوته في علاقاته وتحالفاته وارتباطاته وتمويله ومصالحه ومصالح من يقفون وراءه.. هي مصر الخالدة، وهو المصري أو غير المصري، العابر على أديمها.. وقد يكون له الوجه الأصيل فيلمع ويبدع ويريح، وقد يضع قناعاً من التضليل والأباطيل ليتلامع فيكمد ويكبو ويتبلد ويرهق البلاد والعباد.. مصر تبقى متألقة متجددة ولود ومن يحكمها يزول ويترمَّد بعد أن يأكله الدود.. لذا فإن مصر عندي أهم بكثير ممن يحكمها، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى "تختار وتقرر وترفع وتخفض وتعبر عن نفسها.. وفي تحريها لمصالحها وللصالح من أمرها وبنيها ومن يسوسها قد تخطئ وقد تصيب، ولكن الأهم أن تبقى ممسكة بالزمام، وأن تستفيد من تجاربها، وأن تبقى مصر التي لا يزلزلها حاكم أو حكم فيحيلها مزرعة لفرعون أو مستنقع لفتنة أو ميدان لحقد يريق الدم ويستهين بحياة الإنسان وكرامته وحقوقه. 

لا أريد الدخول في تفاصيل ما جرى في الثلاثين من حزيران/ يونية 2013 وما تلاه، ولا في الكلام حول الأيام التي تتالت منذ انتخاب المصريين لأول رئيس مدني لهم منذ عام مضى، بعد إسقاطهم للنظام الذي سبق في ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى، ومحاصرتهم له بالأسئلة والمطالب والتنحي، فذاك رئيسهم وتلك شؤونهم.. ولا أريد مقاربة ما امتلأت به ساحات ومساحات مصرية على مدى رُقع التراب وملاعب الفضاء من أفعال وأقوال تترجّح بين الإبداع والإسفاف، ولا الإشارة إلى ما تعملق من شعارات وصور وتعابير وممارسات.. إلخ، كما لا أريد أن أتوقف عند مظاهر لافتة جداً تبدت في تورّم ذوات وشخصيات، وفي إسفارٍ مثيرٍ وخطيرٍ لارتباطات ومحاولات تدخل سافر في شأن مصر.. ولا أريد أن أتكلم في الظلم والقهر والاستبداد والفساد والتخبط و.. ولا عن المال السياسي وما نشأ عنه وما نشأ بسببه.. إلخ، فأهل مصر أدرى بذلك كله من جهة، والدخول فيه لا يجدي الآن في أثناء فورة الانفعالات والعواطف وقصف الرعود وثوران العواصف الجماعية، وانصراف الناس إلى أفعال تولد أفعالاً وردود أفعال من جهة أخرى قد لا تكون كلها بناءة.. وكل ذلك، بسلبيه وإيجابيه، ملكُ شعب مصر وهو مما يهم الأمتين العربية والإسلامية، ومما يفيد العالم الذي يتابع ويراقب ويقرأ.. وهو واجب من يريد أن يبحث ويؤرخ ويتسقترئ ويستفيد، ولكل ذلك زمنه ورجاله وصيغه وظروفه ولا ينبغي أن يترك.

إن ما أريد التركيز عليه هنا، مما يهمني الآن في مصر العزيزة، هو سلامتها من الفتنة ومن الاحتراب والاضطهاد والاضطراب، وألا تشتعل فيها النار كما اشتعلت وما زالت تشتعل في جسدي "سورية"، فيحترق أملي في مصر في الوقت الذي يحترق فيه جسدي في الشام، ويسيل دمي هناك على ضفاف النيل كما يسيل دمي هنا حول ضفاف بردى والعاصي ودجلة والفرات.. وأن يكون حرص مصر مؤكداً وتاماً وصحيحاً ومتساوياً وعظيماً على كل أبنائها من دون تمميز، وأن ترفع العدل ففيه بقاء وإنصاف وراحة قلوب والتآم جراح، وأن تتمسك بالأعراف والتقاليد المصرية العريقة الأصيلة التي تحمي وترحم وتبني وتعصِم، فتنبذ الحقد والثار والكراهية، وتأخذ بالقانون والخُلُق والإيمان ليسود الحق ويتحرر العقل ويأمن الناس كافة من جوع وخوف.. إن على مصر أن تمنع الأيدي الآثمة التي تعبث بأمنها ومواطنيها من العبث، وأن ترفض التدخل الخارجي في شؤونها أياً كان مصدره وشأنه، وأن تتحمل كل ما يترتب على رفضه، فحرية الوطن وحرية المواطن صنوان متلازمان بينهما وحدة عضوية متكاملة، ومن يرتهن حرية هذا يرتهن حرية ذاك.. وتحرير الاقتصاد الوطني مفتاح تحرير المواطن والوطن.. ومن أماني ألآ تسمح مصر، تحت أي مسمى أو مسوِّغ، لأي جهد أوجهة أو تنظيم أو فكر أو مال أو قوة أو.. أو..إلخ بأن تخترق مجتمعها وبنيانها الثقافي، أو تمس بكيانها الفريد وخياراتها المبدئية وأهدافها القومية وانتمائها العريق لأمتها العربية، ولا بسياساتها وخياراتها وثوابتها.. لأن في المحافظة على ذلك كله بقاء مصر وهيبتها وقدرتها على التحرك والتأثير والقيادة والريادة.. وبقاء مصر قوية معافاة بقاء لنا وسنداً للأمة وقضاياها العادلة وكفاحها الطويل من أجل التحرير والتنمية والتقدم، وببقاء مصر نبقى لها وفيها. أما ما عدى ذلك من الأمور المتصلة بالأصلاح والقضاء على الفساد وتحسين ظروف العيش والمحافظة على الحقوق والحريات وكرامة المواطن..  فكلها ضرورات حيوية يمكن أن تأتي، ولا بد أن تتحقق، ولكن لا بد لذلك من من الصبر والوفاق والعمل.. فقد عانت مصر الكثير في السنوات القليلة الماضية، وتوقفت فيها عجلة الإنتاج بدرجة ملحوظة، وتعطلت الأيدي المنتجة عن العمل، ولحقت بالكثير من المرافق والأماكن والممتلكات العامة والخاصة أشكال التدمير والتخريب، وتوقف الإبداع بأشكاله في مجالات حيوية عدة.. فتأثر الاستثمار والدخل القومي والعمل والمال، وتأثرت فرص العمل ونتج عن ذلك فقر وعوز وحاجة وظلم فتأثرت العلاقات الاجتماعية والأخلاق العامة التي تستدعي بدورها اهتمام المهتمين وهممهم العالية، لا سيما في المجالين التربوي والثقافي.. أما الإعلامي فما يزال يعلق على واجهاته الكثير من إشارات الاستفهام التي لا بد من إزالتها للتضح اللافتات ومن ثم النوايا والغايات والأهداف و.. وكل مشكلة وأزمة بسبب ذلك الذي مرت به مصر، وبسبب ما بني عليها ونتج عنها وعن مضاعافاتها أصبح مما هو معروف لمعظم أبناء مصر.. ولا مجال لتلافي ذلك كله والخروج منه في يوم وليلة وبضربة عصا سحرية.. ولا معدى لمصر من الخروج من كل ذلك معافاة فلا يكون الخروج من أزمة باباً للدخول في أزمات، ولا بد من إبقاء مصر سيدة قرارها في الاقتصاد والسياسة والمال والإنتاج والأمن.. وكل مدرك يعرف أن حل أزمة اقتصادية بارتهان اقتصادي أو سياسي للآخرين أمر أكثر من خطير.. ويدرك كل مدرك أيضاً أن لكل خيار ثمناً.. وحين اختار المصريون إسقاط النظام السابق بعد طول صبر ومعاناة، وطلبوا من الرئاسة الجديدة التي انتخبوها أن تحل المشكلات العالقة كلها قبل أن يسمحوا لها باستكمال مؤسسات النظام، ورابطوا في الميادين والساحات أياماً بعد أيام وليالي بعد أخرى.. حتى تم تغيير الرئاسة بالطريقة التي تم بها التغيير..ثم أتى بعده النظام الحالي..  قدروا أن لذلك ثمناً لا بد من أن يدفعه البلد ويتحمله الشعب، ولا بد أنهم يعرفون أنه لا يمكن الخروج مما تخلقه الأزمات وتخلفه المشكلات والاضطرابت بمجرد هتاف وقرار في ميدان التحرير أو محيط مسجد رابعة العدوية، ولا بمجرد إسقاط حكومة أو حاكم ونظام.. فالحل يبدأ السعي نحو الحل بثقة واقتدار ووضوح وعمل وتعاون.. ذلك لأن أي شخص وأي نظام وأية حكومة تتصدى لحل أزمات ومشكلات كبيرة أو مستعصية لا تستطيع أن تفعل ذلك عند تشكلها وبمجرد تقديم وعود، لا سيما إذا كان البلد منهكاً.. ولا تستطيع معالجة أمور على الأرض بسرعة فائقة من دون إنتاج وتطوير للإنتاج كماً ونوعاً.. إلا بارتهان للآخرين بطريقة ما.. وتلك قضية قد تتراءى مقبولة للبعض ومريحة للأمة المتسرعة، ويسيرة على بعض الساسة، ولكنها السرطان الذي يسري في الجسم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد ويعلّه ويقضي على استقلاليته وسيادته بالارتهان للآخرين.. فلا يمكن حل مشكلات وأزمات مزمنة، يضاعف مفاعيلها الفساد والإفساد والاضطراب وتشمل مجالات عدة منها المجال الاقتصادي ومستلزمات العيش الكريم وضروراته.. لا يمكن حلها بسرعة سحرية، ولا بارتهان ذي عقابيل وتنازلات يمس الوطن والسيادة والكرامة.. ولا يكون الحل الصحي السليم للأزمات إلا بالاعتماد على الذات واتباع سياسات وطنية رشيدة، ورفض كل شكل من أشكال الارتهان للآخرين أو التنازل لهم عت شيء يمس الوطن والكرامة.. وهذا يحتاج ألى أن يعي الشعب ذلك، وأن يرفض الاتجار السياسي به والانتهازية التي تنمو على ضفافه، وأن يصبر وينتج ويضاعف العمل والإنتاج لكي يعوض ما ينبغي أن يعوَّض، حتى ينجح ويفلح في وضع الأقدام بثقة على طريق الحل السليم، ومن ثم السير نحو الخروج من الأزمات بالاعتماد على الذات، والوصول بمركب الدولة والشعب إلى بر الأمان ولو بعد وقت وجهد ومعاناة.

إن قلقي على مصر كبير، وأكبر منه قلقي على سورية ومعاناتي المؤلمة من شقاء الشعب فيها، وانسداد أفق الحل السياسي أمام أزمتها ـ الكارثية الدامية، وتفاقم المأسة والاقتتال.. بينما الشعب يعاني ويدمى ويتألم ويشقى.. ومصر وسورية واحد عندي، وهما في البعد القومي والمصير العربي والنهضة المرتجاة، والسلم والحرب.. هما جناحاي أو شِقّاي الأيمن والأيسر.. فكيف التحليق من دون جناحين، وكيف الخلاص لشِق من شِقيّ دون الآخر ومن دون شلل أو ما شاكله من العلل التي تشل أو تدمر أو تميت؟!. إنه سؤال تجيب عليه التجربة والحياة.

والله هو ولي الأمور والأرحم بكل حي.

       

دمشق في 5/7/2013

 

علي عقلة عرسان