خبر مصر: صعوبات وانقسام وتعثر ومفترق طرق ..د. بشير نافع

الساعة 10:05 ص|04 يوليو 2013

ليس هناك كتاب إرشادات للثورات ولا لتحول الدول من الاستبداد والسيطرة إلى الحرية والديمقراطية.

وما تشهده مصر، اليوم، ما تشهده تجارب الثورات العربية من اختلافات، وما نكتشفه الآن من تشابه وتباين بين التجارب العربية وتجارب أوروبية وأميركية لاتينية سابقة، تؤشر إلى صعوبة وتعقيدات مراحل الانتقال والتغيير وتعلقها بظروف وخصوصيات الدول والشعوب. ما لا يقل أهمية، أن تواريخ الدول، سيما الدول الكبيرة، ذات الجذور العميقة، تحمل عدداً من السمات الثابتة، التي تتعلق بالموقع والهوية، وما يفرضه الموقع وتستدعيه الهوية من التزامات وتحالفات. خلاف ذلك، فإن التاريخ شأن متغير، ولا يعيد نفسه إلا، كما يقول ماركس، بصورة هزلية.

مصر، كما أغلب الدول العربية والإسلامية، هي دولة منقسمة على نفسها، وحدتها لحظة الثورة على النظام السابق لفترة قصيرة وحسب. ولكن انقسام ما قبل الثورة، سرعان ما عاد إلى الظهور من جديد.

تجلى الانقسام، الذي رسبته تحولات تاريخية متراكمة، تعود إلى بداية حركة التحديث في منتصف القرن التاسع عشر، في عشرات المواقع والمنعطفات من مسيرة العملية الانتقالية، بما في ذلك خارطة المرحلة الانتقالية ذاتها. في الشهور القليلة الأولى التي تلت سقوط نظام مبارك، كانت الكفة تميل لصالح التيار الإسلامي، بقواه المختلفة، وهو ما اتضح في الاستفتاء على التعديلات الدستورية وفي الانتخابات البرلمانية. ولكن الدعم الشعبي للتيار الإسلامي أخذ في التراجع قليلاً بعد ذلك، ليس فقط لأن بعض الأصوات السلفية أو الإسلامية الراديكالية أخافت قطاعات شعبية ما، ولكن أيضاً، وبصورة أساسية، لأن دوائر النظام السابق، من سياسيين وضباط أمن سابقين ورجال أعمال وعناصر حزب وطني، استعادت أنفاسها، وسيطرت كلية على ساحة الإعلام الخاص الجديد، المدعوم من جهات عربية. لم تعرف مصر في تاريخها، ولا أية دولة عرفت ثورة من قبل، إعلاماً مناهضاً للثورة، يقوده مناهضون كبار للثورة، باسم الثورة نفسها، وليس لديه أدنى احترام لقواعد المهنة الأولية. هذا التراجع البطيء والنسبي، على أية حال، هو الذي جعل فوز مرسي بالرئاسة صعباً، وبفارق صغير، بالرغم من أن منافسه في الجولة الثانية من الانتخابات كان رجل النظام السابق بامتياز، وخاض الانتخابات مستنداً إلى شبكة النظام السابق وأموال رجاله والأموال العربية المؤيدة له والعاملة على بعثه من مثواه.

خلال العام الأول من رئاسته، حقق مرسي إنجازات بارزة، وارتكب أخطاء. أنقذت إدارة مرسي البلاد، التي استلمها على حافة الإفلاس، من انهيار ماليتها العامة، بدأت خطوات جادة لتنفيذ مشاريع نهضوية كبرى، أخذت في إطلاق ثورة زراعية في البلاد، وعالجت بعضاً من المشاكل المستعصية في حياة المصريين، مثل الخبز والغاز ونقص الوقود. ولكن إنجاز مرسي الأكبر خلال هذا العام، كان حفاظه على مناخ الحرية والديمقراطية والتعددية الذي جاءت به الثورة، حتى وهو يملك المبررات الكافية لإغلاق محطات فضائية، ممولة من الخارج، ليس لها من شغل سوى نشر الأكاذيب والشائعات، ودفع المصريين ليأكل بعضهم بعضاً، إسلامية كانت، أو علمانية وليبرالية، أو مروجة لأهداف النظام السابق. في المقابل، ارتكب مرسي أخطاء، بعضها، مثل إعلان تشرين ثاني/نوفمبر الدستوري، أصدر على خلفية من نوايا حسنة والرغبة في تقصير أمد المرحلة الانتقالية المديدة. ولكن، وبالرغم من أن مرسي سرعان ما تراجع عن الإعلان الدستوري، فقد ترك إصداره أثراً بالغاً على الحياة السياسية وتصور بعض القطاعات الشعبية للرئيس. الخطأ الأكبر ارتكبته جماعة الإخوان المسلمين وممثلو حزب الحرية والعدالة، وحسب على الرئاسة في النهاية. تمثل هذا الخطأ الكبير في انحياز ممثلي الحرية والعدالة في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور إلى حزب النور السلفي، وتأييد سعي هذا الأخير لإدخال مواد فاقعة في مدلولاتها الإسلامية إلى مسودة الدستور، بالرغم من أن الإخوان لم يرغبوا أصلاً في هذه المواد. بهدف الحفاظ على التحالف مع حزب النور، الذي استدار سريعاً ليقف إلى صف المعارضين للرئيس والدستور، تسبب الإخوان في إحداث شرخ مبكر مع القوى الليبرالية، وأسسوا للانطباع القائل بأنهم يؤيدون وضع دستور غير توافقي.

بيد أن أخطاء مرسي والإخوان لم تكن السبب الجوهري في موجة الاحتجاج التي اندلعت في 30 حزيران/يونيو. السبب هو وجود مرسي نفسه على سدة الرئاسة، والانقسام الفادح حول هوية البلاد ووجهتها وما يمكن أن تفعله بالحرية والديمقراطية التي جاءت بها الثورة. في هذا الانقسام، لا ينظر إلى إنجازات مرسي وإخفاقاته، وليس لكشف حساب فترته الرئاسية القصير من دور أو أثر. من وجهة النظر القوى المعارضة، مكان الإسلاميين لابد أن يظل في ديكور الصورة الديمقراطية لمصر الجديدة، وليس على مقعد رئاستها. الحقيقة، أن كل خطوة في طريق الخروج من المرحلة الانتقالية تم تعطيلها من أجهزة الدولة السابقة والقضاء، وكل محاولة للحوار والتوافق، بما في ذلك الدعوة لتعديل الدستور والمشاركة في الحكم، تم رفضها. وما أن أتاحت عملية الشحن الإعلامي، وتدفق المال السياسي، والتفاهمات الصريحة مع شبكة النظام السابق، الفرصة، حتى بدأ الحشد لإسقاط أول رئيس منتخب بإرادة حرة في تاريخ مصر كلها.

في مساء الأحد 30 حزيران/يونيو، توصلت قيادة القوات المسلحة إلى تقدير بأن أياً من الطرفين غير قادر على حسم الموقف، وأن درجة وانتشار العنف في أنحاء البلاد كانت أكبر وأوسع مما أفادت به التقارير الأولية، وأن وزارة الداخلية فقدت السيطرة على قطاعات ووحدات في جهاز الأمن والشرطة لصالح وزراء داخلية وضباط أمن وشرطة سابقين؛ وبالتالي، فإن انحدار البلاد نحو مزيد من العنف، سيلقي بالعبء كله تقريباً على كاهل القوات المسلحة، وقد لا يكون احتواؤه ممكناً. هذا التقدير للوضع، بغض النظر عن رغبة أو سعي الضباط للتدخل، هو الذي دفع إلى بيان ظهر اليوم التالي، 1 تموز/يوليو، الذي دعا الأطراف السياسية إلى التوصل إلى توافق للخروج من الأزمة خلال 48 ساعة، أو أن قيادة القوات المسلحة ستضع خارطة الطريق. سكب كثير من الحبر، بالطبع، في محاولة تحليل هذا البيان وقراءة ما بين سطوره، وسارعت الأطراف المختلفة إلى توصيفه بكل النعوت الممكنة. الحقيقة، أن البيان ولد من إخفاق الطبقة السياسية المصرية وعدم ارتفاعها لمستوى تحديات ومسؤوليات التحول الديمقراطي، مما أفسح المجال لأن يعود الجيش حكماً، وليس حاكماً. لم يكن البيان انقلاباً، وليس ثمة انقلابي يعطي تحذيراً بعزمه على الانقلاب خلال يومين؛ ولكنه يظل مؤشراً سلبياً على أزمة الديمقراطية الوليدة في أكبر الدول العربية وأكثرها تأثيراً.

خلال ساعات، اضطرت قيادة القوات المسلحة، بعد لقاء ثلاثي جمع الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع، إلى توضيح ما غمض في البيان الأول، مؤكدة على أن الجيش بعيد كل البعد عن الفكر الانقلابي وأن إنذار الـ 48 ساعة قصد به الضغط على الأطراف السياسية لدفعها إلى الحوار والتوافق. وفي مناخ التأزم المحتدم، ولأن البيان أوحى بعودة ما للجيش إلى الساحة السياسية، خرج مؤيدو الرئيس إلى شوارع مدن ومراكز 12 محافظة مصرية أخرى، إضافة للقاهرة والجيزة، من مرسى مطروح إلى بورسعيد وشمال سيناء، ومن السويس إلى المنيا وأسوان، كما لم يخرجوا من قبل. في ساعات صباح الثلاثاء، 2 تموز/يوليو، وبعد يوم طويل، أصدرت رئاسة الجمهورية بياناً حاسماً: لا عودة لمصر إلى الوراء، تحت أي ظرف من الظروف.

بغض النظر عن النوايا والدوافع التي أدت إلى صدور بيان القوات المسلحة، وعن التداعيات المحتملة للأوضاع، لا يبدو أن الفريق السيسي قدر مساحة الهامش المتوفر أمامه وقادة القوات المسلحة الآخرين للعب دور ‘الحكم’ المفترض. الشارع والقوى المؤيدة للرئيس والشرعية ترفض تدخل الجيش في الصراع السياسي، بأي صورة من الصور. والشخصيتان الرئيستان في التخطيط لحركة 30 حزيران/يونيو، شفيق والبرادعي، لا يرحبان بعودة فعالة للجيش، لإدراكهما أن الجيش لا يريد دوراً رئيساً لأيهما في قيادة مصر المستقبل. من جهة أخرى، إن أراد الجيش طرح تصور محايد، فعليه تجنب الاستجابة للمطالب الكاملة لأي من معسكري الصراع، وفرض تنازلات ما على كل منهما.

في هذه الحالة، ليس ثمة ضمان بأن يقبل هذا التصور من الطرفين معاً؛ وإن قبل، فليس من الضروري أن يمضي قدماً بأي درجة من السلاسة. الطريق الوحيد لأن يفرض الجيش إرادته، إن ارتكزت إلى تصور لا يتفق والإطار الشرعي والدستوري، هو أن يكشف أوراقه كاملة ويعلن انقلاباً عسكرياً صريحاً، بكل ما يحمله هذا الخيار من تبعات، وصفها الفريق السيسي قبل أسابيع بأنها ستؤدي إلى ضياع مصر لثلاثين أو أربعين سنة مقبلة، بما في ذلك قيام المنقلبين بقتل أول رئيس منتخب بإرادة حرة في تاريخ البلاد كله.

قلت من قبل، وأود أو أكرر هنا مرة أخرى: إن حركة الثورة والتغيير التي انطلقت في العالم العربي منذ أكثر من عامين ونصف بقليل، لا تمثل مؤامرة من أحد، ولم يخطط لها أحد، ولم يتصور أحد من الفاعلين في مجرياتها إلى أين يمكن أن تؤدي. هذه حركة تاريخية كبرى، كما حركة الثورات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، وحركة التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا في خمسينات وستينات القرن العشرين، تعبر حركة الثورة العربية عن اجتماع وتلاقي قوى تاريخية، أطلقتها إهانة المائة سنة التالية للحرب الأولى، وإخفاق دولة ما بعد الاستقلال الوطني. لن تسير حركة الثورة والتغيير في طريق مستقيم، وهي لم تسر في طريق مستقيم في أية حالة سابقة. ولكن من يتصورون أن مصر القرن الحادي والعشرين هي مصر الخمسينات من القرن الماضي، أو حتى أن مصر حزيران/يونيو 2013 هي مصر شباط/فبراير 2011، هم، على الأرجح، مخطئون.