خبر بؤس ثقافة وسياسة..علي عقلة عرسان

الساعة 02:28 م|02 يوليو 2013

يتكلمون اليوم، والبلاد في غمرة الدم والفوضى والهم والغم، يتكلمون عن الثقافة والوعي الوطني والقومي، عن الأخلاق والانتماء والمقاومة، وعن تربية عمادها العروبة ولها إطلالة على الإيمان والقيم، وعن القومية والحرية والتحرير، عن المعرفة والعلم والمنطق والمنهج الموصل إلى حسن الفهم وسلامة التفكير والقدرة على الاستقراء والاستنتاج والتدبر وحسن التدبير والسير في معارج الحضارة.. ويتكلمون عن المفاهيم والمصطلحات والتحديات.. إلخ..!! يتكلمون ويتكلمون.. وسيل الكلام يجرف معه تراب الضفتين ومن وما عليهما من حياة وأحياء، ويزوبع الدم منارات مهالك.. كلام،  و"زين الرجال زين الكلام" كما تقول ألسنة يفترَض بها أن تنطق عن حُلوم"؟! وهي تقول ذلك متغاضية عما يمكن أن يكون حين ينطوي الكلام والمظهر على سوء المعنى والمبنى والمخبر؟!.. يتكلمون اليوم وهم في زحف إلى الندم يشب زحف البطاريق من اليابسة إلى الماء في هجمة تقليدية عمياء.. وقد نسوا أن من وقف سداً منيعاً في وجه كل ثقافة جادة وبناء متين ووعي محصن بالانتماء والإيمان ما زال يفعل فعله فيهم، ويحكم المواقع والزوايا والمرايا، ويزين الصور لمن يشغلهم تزيين الصور.. كما ينسون أن استعدادهم ما زال هو هو فقد أبعدوا المخلصين وأقبلوا على بضاعة المروجين " لثقافة" تحارب الإيمان والعروبة والمقاومة والانتماء والأخلاق والسلوك الحسن والقدوة الصالحة والقيم الرفيعة والديمقراطية السليمة، وأنهم استطابوا " مسح الجوح" وقربوا من يتقن ذاك الفعل وعذب الكلام المكذوب، وارتفعوا على ما يقال لهم وفيهم أشباراً معتقدين أنه ركائز متينة في حين أنه بناء من وهم أوهى من بيت العنكبوت.. ومضغوا كلام أعداء الوطن والأمة والحقيقة والعلم علك اللبان واستساغوه، وأعلوا شأن أعداء الوعي القومي والأمة العربية والدين الحنيف الإسلام والحرية والتحرير بمعناهما الجوهري الأصلي الأصيل، ومالوا إلى الشعارات الفارغة في ثقافة تكرس النمطية والتبعية وتمجد الطغيانية "الديكتاورية"، ولا ترى الأمراض الاجتماعية المستشرية التي تفتك بالشعب، تلك الأمراض التي انتفضت عليها مجتمعات بثورات فبرئت منها بعد أن كانت تخضع لها وتعاني من فتكها الداخلي الذريع في بناها البشرية " المادية والمعنوية والروحية" كافة.. بينما بقوا هم على ولاء من والاها بعمَه وعتَه ومحدودية رؤية مع ادعاء عريض بالتقدمية والوطنية والديمقراطية والعلمية الحصرية المعصومة من الخلل والزلل.. إلخ. الآن يتكلمون عن أهمية، بل عن ضرورة "ثقافة نوعية" تبني الإنسان وتصحح مسارات لم تكن هي المسارات الصحيحية، ويتوفر فيها للأجيال العربية القادمة وعي معرفي وزاد من القيم يخرجها ويحرج الأمة كلها من ظلمات التخلف والجاهلية والظلامية والغوغائية وفراغ الشعارتية وإفلاس الإيديولوجيا.. ويضعها في بداية طريق النهضة وعلى مشارف النهار، لتنظر إلى الحياة من شرفة أخرى، وترى ما يلزمها وما يشفيها وما يبني بها ويبنيها.؟! اللهم إن ذلك حق ولا أقطع بأنهم يريدون به باطلاً، اللهم وإنهم يقولون ذلك في صحوة أقدر أنها عابرة، وفي وقت "وفَكرَة" أراها خاطرة، في لحظة دوار وقرب دارهم من الدار الآخرة ربما.. ولربما مثل ولكن شؤون وشجون.. ولكنهم لا يملكون لذلك الطموح المشروع والحلم المنشود عدته، واستعدادهم الذي يبدونه لحالة ثقافية عميقة وشاملة من هذا النوع وبهذا الحجم هي مرْوَة بحجم النزوة يتزحلق عنها المطر، ولا تلبث أن تسقط همتهم مثل نزوتهم على مقربة من أذرعتهم الواهية، بفعل فقدان الإرادة وتبعية القيادة وعدم تجذر الوعي الثقافي في البنية العميقة للشخصية.. ولأن طقم المروجين للجهالة، المتلفعين بعباءة العلم " التعالم"، والمنتفخي الأوداج بعصموية إيديولجية انهارت عند معظم الناس إلا عندهم.. لأن أولئك ما زالوا هم المعتمَدون، وهم في الساح يقاتلون بكل سلاح.. إنهم يحرضون ويتفيهقون ولهم قنوات سياسية تصب في مصنع القرار، وسطوة في الإعلام تضيئ وتعتم، تعملِق وتقزم، وسيطرة على منابر ثقافية عدة، وهم يهزون رماح الإرهاب الفكري فيخاف من يخاف ويحتمي برماحهم من يحتمي، إنهم يستبيحون كل وسيلة ويتبعون أساليب "المافيا" الموصوفة للوصول إلى غاياتهم المتدنية الدرك التي هي غاية في التهافت والافتضاح، ويخدمون أعداء الأمة العربية بتبعيتهم وتلمذتهم لـ" فلاسفة ومثقفين وأدباء.." يلهمهم برنار هنري ليفي وأمثاله من حثالة اليهود.. ويحلبون ضروع الشعب صباح مساء ثم يبيعونه حليبه بادعاءات وطنية عريضة، وهم في حقيقة الأمر يفقِرون العباد عقلاً وروحاً ومعرفة وقيماً، ويمنعون السير وفق منهج علمي سليم وحسب معيارية قيميةـ أخلاقية ـ مهنية صحيحة، تؤسس لبناء ونهج وتقدم يعتلي ويعلي شأن الجهد الإنساني والإبداع والأداء المتميز، مهنياً وأخلاقياً، بصرف النظر عن الانتماء الحزبي أو الطائفي أو المذهبي أو العرقي.. أو.. أو.. وأدهى ما في الأمر، قديماً وحديثاً، تلون هؤلاء تلوناً تعجز عنه الحرباء، ووضعه أقنعة لكل حال، وتزييفهم الوقائع والحقائق والتاريخ، وأتقانهم فنون الإقصاء والإلغاء مع ادعاء فائق الضجيج بأنهم ضد الإلغاء والإقصاء، وقيامهم بسرقة جهود الآخرين والتعتيم على أدوارهم وإنتاجهم وإنجازهم، ليبقى في السوق بعر المعزى الذي ينتجون، وتوافقهم تآلفهم في أقطار عربية بتنسيق متقن على قتل كل إبداع جاد يأتي من آخرين، وتواطؤهم على جعل كل رخص فكري وأدبي وإبداعي وسياسي يأتي منهم يتربع فوق قمم الأداء الأدبي والفكري والفني والسياسي، ويرافق بادعاء عريض ذي سيوف إعلامية وقنوات سياسية وتكتلات غوغائية لا تبقي لأصحاب الإبداع الحق صوتاً ولا سنداً ولا حضوراً.. ومن ثم فهم يعلون راياتهم فوق رؤوس من يتخذون القرارات ويبتهجون بالشعارات ويعيشون الضلالات.!؟ اللهم إنه إعجاز الشر، وفوز الشيطان في جولات وجولات وجولات، وتمترس الضحالة في مواقع التأثير وهيمنتها على من يصنع القرارات ويقوم بالتدبير وهو لا يدري من ماضي الأمة وتراثها ومقومات هويتها ومكونات شخصيتها وخصائص خصوصيتها وعلم علمائها ومفكريها وإبداع فنانيها وأدبائها شيئاً، فيُكبِر الضحل المزيَّن باللغو، ويزهو على أنه صانع الصحو.. من دون أن يتبصَّر ليبصر ويتروى ليرى أن القنوات التي توصل إليه تمنع عنه، وأن ما يعاني منه الناس ويضج به البلد وتنتج عنه سيول دم ودمار، فيه من المؤامرة الكثير وفيه ضحالة الأدوات وأخطاء السياسات وبؤس الثقافات ما فيه، وأنه لا بد من التدقيق في كل شيء إذا أردنا أن نبني على أسس سليمة، وفق معايير سليمة، ومنهجية تؤدي إلى تراكم الخبرة، وإعلاء المدماك فوق المدماك، ووضع الأشخاص والإنتاج والأولويات والضرورات في تراتبيتها الصحيحة.

إن انعدام الوعي والإنصاف، وضعف إعمال العقل بحكمة، والحكم برأي الجهال والأدعياء على المبدعين والعلماء والنشطاء المخلصين.. وهيمنة تبعية من أنواع شتى على قطاعات من الناس أوصلت العارفين إلى اختيار التنحي والصمت، والأدعياء إلى تصدر مجالس الأداء، والمسيرات الطموحة إلى نتائج ضحلة، وأوصلت أشخاصاً إلى تنمر خيانة تتهم الوطني بالعمالة وتتعالى، وقادت إلى شَلَل وتخلف وجمود فكري ألغى الاجتهاد وأبطل الجهد وأغرى بأن يُتَّهم المبدئيون والمبدعيون والمجددون بانتماء والمفكرون بأصالة.. يُتَّهمهم بـ "الخشبية" وبالبقاء خارج العصر، وأغرى سلطاتهم بفرض التهميش والتآكل عليهم.. وهكذا تدحرج السأم في عروق من قضوا أعمارهم في العمل الجاد والدعوة العميقة إلى صحوة عربية سليمة وإلى سلامة من كل سُقم.. صحوة ترى في العروبة جسداً والإسلام روحاً، وتخفق بجناحين قويين حرين أصيلين يضمنان تحليق الطائر العربي في فضائه من دون أن يكون مقصوص الجناح أو مربوط العنق والرجلين إلى أوتاد تحد من قدرته على الانظلاق بانعتاق هذا إذا لم تمنعه أصلاً من الطيران.   

أدخل هذا المدخل من الباب الضيق في هذا الوقت الصعب، مع علمي بأنه وقت يفرض على كل معني بالوطن والإنسان والإيمان أن يعمل أولاً وقبل كل شيء على وقف العنف، وحقن الدم، ولجم الدمار والوحشية، وعودة الأمن، والذهاب إلى التفاهم والحلول السلمية ـ الإنسانية - وقد تحاشيت استخدام "الحلول السياسية" لكراهتي ما فيها من مراوغة ومداهنة وخداع واستهتار بالحياة البشرية ودماء الأبرياء - وإلى أن يعود الذين يشقون في وطنهم وخارج وطنهم سورية، بسبب النزوح والتهجير من المواطنين السوريين إلى وطنهم، ليستعيدوا بعض الشعور بالكرامة، وبعض الحق في الموطنة والقرار، وبعض الوعي الذي يسمح لهم بالتفكير والبحث عن خيارات ملائمة ومخارج آمنة، بناءة وسليمة ودائمة، من الأزمة ـ الكارثة التي دمرت البلاد وأنهكت العباد وأعادت سورية عشرات السنين إلى الوراء، وأضرت بصورتها بين بني البشر في كل قارات الأرض.. نعم لا بد من مواجهة حقيقة أن الثقافة وعي، والوعي يملي خيارات بينها خيارات سياسية مركزية، وأنها تساهم في إنضاج رؤى ومواقف، وتحيل إلى منطقٍ وتحكِّم عقلاً في الأمور والغرائز والنزوات والحماسات، وتساهم في تكوين ضمائر حية تحول دون الشطط وركوب موجة العنف والذهاب إلى الدموية والهمجية والوحشية في الصراعات وحل الخلافات بين الناس، وتحول دون أن تمضي بذاتها وبغيرها، وتجعل الأمور في الأزمات والخلافات تفضي إلى خيارات كئيبة رهيبة فيها من انعدام الإنسانية والمروءة والشرف ما فيها، وفيها من تعطيل ملكات الذات والتبعية لأعداء الوطن والأمة والدين ما يفضي إلى العمالة والخيانة الوطنية بأحط صورهما وتجلياتهما، حيث يصل أشخاص في هذا المضمار إلى حدود أن يكونوا واجهة لأطماع أعداء الأمة، وصوتاً للداعين إلى تدميرها وتخريب هويتها ومقومات وجودها، ويصل أشخاص إلى المناداة بضرب وطنهم بقوة العدوان الاستعمارية والصهيونية ليحققوا " غَلَبَة" على أبناء وطنهم الآخرين؟!، ويصل الأمر بأشخاص إلى يبيعوا ويشتروا الناس والتوجهات والقرارات في بعض الساحات، فيدفع الوطن دماً ويكسبون هم مالاً وسخاً، ويسبحون في بحر من اللغو الخسيس آمنين مطمئنين إلى مستقبلهم ومستقبل أولادهم، حيث الجنسية غير السورية في الجيب، والعمل في أوطانهم الأخرى المستجدة مؤمَّن، والدخل فيها ومن الأعمال التي اختاروها يكفي لولد ولدهم، وحيث ما يعدهم به مشغلوهم فوق حدود ما حلموا به وما قد يحلمون.. وأن يصل الأمر ببعض أبناء الوطن ومسؤوليه، في أثناء خوضهم صراعاً مشروعاً مع الخصوم ومن يستعدون على الوطن الأعداء، حدود أن يمضوا في الخيارات الدموية إلى درجة التدمير شبه الشامل وقتل الناس لكي يحموا الوطن والناس؟!

ألا إنها الحسابت الخطأ في الزمن الخطأ والمواجهة الخطأ، تلك التي تفضي إليها توجهات وسياسات وخيارات، هي بؤس الثقافة والسياسة، أسست على ثقافات مشوبة بالكثير من النقص والتبعية والضحالة وسوؤء التفكير والقراءة والاستقراء والاستنتاج والتحليل.. وبنيت على الخطأ فجاءت ثمارها مرة ودموية ومدمرة إلى أبعد الحدود.

 

دمشق في 2/7/2013

 

                                                علي عقلة عرسان