خبر المفكر منير شفيق يكتب : « يا فلسطيني تمرّد »

الساعة 11:25 ص|01 يوليو 2013

هنالك من التطورات التي تجري في عدد من الدول العربية ما يحق له أن يستولي على كل اهتمام، ويُعطي أكبر درجة من الاهتمام. ومن ثم لا يمكن أن يُقلَّل من شأن ما يجري في أيٍّ من تلك البلدان بحجة تحويل الاهتمام إلى التطورات الخطرة التي تجري على أرض فلسطين وما يمسّ القضية الفلسطينية.

على أنّ ما يجري على أرض فلسطين يستحق، بدوره، كل اهتمام ولا سيما من جانب المعنيين من الفلسطينيين حيث يقع واجبهم الأول. وهو المكان الذي يستطيعون أن يَفلَحوا فيه، وأن يُفلِحوا.

إذا كانت القيادة الصهيونية للكيان الصهيوني قد دخلت مأزقها التاريخي وهي تقف عاجزة عن احتلال قطاع غزة، أو جنوب لبنان، وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أخذا يفقدان سيطرتهما العالمية ويسيران، بسرعة أو ببطء، نحو التدهور فإنّ قيادة الكيان الصهيوني تكون قد دخلت مأزقاً خانقاً في الآن نفسه. وذلك بسبب تدهور حال حُماتها ومصادر قوتها الأساسية وضمان وجودها الذي كانوا وراء إنشائه وزرعه في فلسطين.

ولكن بالرغم من ذلك فإنّ تلك القيادة راحت تركّز على التوسّع الاستيطاني كما على تهويد القدس حتى أصبح الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس في حالة حصار خانقة من قِبَل المستوطنات والمستوطنين. ممّا يتطلب أن يدق ناقوس الخطر إذا ما تُرِكت مشاريع الاستيطان تستشري في الضفة الغربية وتُرِكَت القدس للتهويد ومسجدها الأقصى ومقدساتها المسيحية والإسلامية للاستباحة.

فنحن هنا أمام خطر داهم بالرغم من الضعف الذي يعانيه الكيان الصهيوني على مستوى الرأي العام العالمي الذي أخذ يتغيّر في غير مصلحته كذلك وهذا جانب يجب أن يؤخذ بكثير من الأهمية.

بل إنّ هذا المتغيّر في ميزان القوى والرأي العام العالمي في غير مصلحة الكيان الصهيوني يضيف سبباً آخر لضرورة التحرك السريع لمواجهة مخططات الاستيطان والتهويد وإنزال الهزيمة بها.

كيف يحق لنا والحالة هذه أن تظل عقلية الماضي متحكمة في الوضع الفلسطيني وهي عقلية الهزيمة التي يجسّدها محمود عباس وسلام فياض وعدد من قيادات م.ت.ف وقد بُنِيَت على الهزيمة النفسية الناجمة عن ميزان قوى سابق كان في مصلحة الكيان الصهيوني.

هذه العقلية بُنِيَت على الاعتقاد، بلا جدوى المقاومة والانتفاضة، وعلى وضع كل الأوراق في إستراتيجية التسوية والمفاوضات والرهان على أميركا وتقديم التنازلات. وذلك ابتداءً من التنازل عن 78 بالمئة من أرض فلسطين والتخلي عن إستراتيجية الكفاح المسلح والمقاومة والانتفاضة والموافقة على «حل عادل» لقضية اللاجئين الذي حلّ مكان شعار حق العودة إلى القرى والمدن التي هُجِّر منها الفلسطينيون، فالحل «العادل» يعني هنا التعويض والتوطين.

هذه العقلية بالرغم من فشل إستراتيجيتها ورهانها على أميركا وعبثية أو مجانية ما قدّمته من تنازلات أساسية وما استعدّت أن تقدمه، لم تزل متشبثة بالفشل. وبقمع كل جهد شبابي-شعبي فلسطيني مقاوم للاستيطان والاحتلال وتهويد القدس، بل وصل الأمر بها إلى عقد اتفاق أمني مع الكيان الصهيوني وبرعاية أميركية كي تتصدّى أجهزتها الأمنية لأيّ حراكٍ ضد الاحتلال حتى لو كان تغريدة على الإنترنت. ناهيك عمّا مارسته من قمع للمقاومة المسلحة.

لقد جرت هذه العقلية معها إلى هذا التوجّه فصائل م.ت.ف التي تشاركها اللجنة التنفيذية. ممّا أفقد، بدوره، قوى فصائل م.ت.ف وفي مقدمّها أبناء حركة فتح عن التصدي الفعلي والحازم للاحتلال، ولما يجري من استيطان وتهويد عدا بعض التحركات التي لم تستطع أن تقلل شيئاً من استشراء الاستيطان والتهويد.

فقد أصبح الوضع في الضفة الغربية موزعاً بين متواطئين مع الاحتلال (القوات الأمنية) ومُكبّلين بالراتب ومستكتَبين بعقلية الهزيمة من جهة وبين فصائل مقاومة قُمعت أجنحتها العسكرية وشباب تحت التهديد إذا ما قاموا بأيّ حراك. وهؤلاء توزّعوا بين مستقلين وشباب من أبناء الفصائل بمن فيهم أبناء من حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية.

المعادلة السائدة في الضفة الغربية جمعت بين قوات أمنية تحمي الاحتلال والاستيطان وسياسات فرّطت بـ78 بالمئة من فلسطين وراحت تتمسّك بسلطة رهينة الرواتب والمفاوضات من جهة وبين القمع وكمّ الأفواه والمطاردة الأمنية والاعتقالات السياسية لكل مقاوم أو محتج من جهة ثانية. الأمر الذي أوجب أن تتحرك عدّة مجموعات شبابية مستقلة، وأعداد متزايدة من الأفراد الشجعان المبادرين لكسر هذه المعادلة الجهنمية التي راحت تحول دون دحر الاحتلال والاستيطان واستنقاذ القدس وإطلاق كل الأسرى.

إنّه فعلاً لمثيرٌ للإعجاب والدعم والتأييد أن تتجدد دماء النضال الفلسطيني بألوانٍ من الحراك الشبابي الذي راح ينتفض بأشكالٍ متنوعة على الوضع الفلسطيني البائس تحت الاحتلال، فكان من بين هذا الخضّم من التحركات بيان صدر الأسبوع الفائت حمل نداء «يا فلسطيني تمرّد» وقد حمل عَوْداً إلى ثوابت الحق الفلسطيني في كل فلسطين من النهر إلى البحر، وطالب بالتمرّد على سياسات التسوية والمفاوضات والاستبداد والفساد (أينما وجدا فلسطينياً). مع التحفيز على الانتفاض وتوحيد الجهود. وحاول أن ينأى في موقفه «عن السلطتين» على حد تعبيره، في الضفة الغربية وقطاع غزة، علماً أنّ قطاع غزة يتّسم بكونه قاعدة مقاومة تحت السلاح يتوجّب دعمها وفك الحصار عنها مع ضرورة تآلف كل الفصائل داخلها لإدارة شؤونها وتحقيق صمودها. أمّا الضفة الغربية فتحت الاحتلال والاستيطان، والقدس تحت التهويد والاستباحة، وهنا يكمن الجواب في الانتفاضة والمقاومة.

إنّ هذا البيان ما هو إلاّ إرهاصة من إرهاصات الحراك الشبابي باتجاه انتفاضة شاملة، فقد عبّرت مؤشرات انتفاضية متعدّدة عن نفسها خلال الأشهر القليلة الماضية، مثلاً في التظاهرات المطلبية التي اندلعت ضدّ حكومة سلام فياض، أو التحركات لدعم المقاومة في قطاع غزة في أثناء حرب الثمانية أيام التي كان يومها الأول عدواناً صهيونياً في اغتيال الشهيد القائد الفذ أحمد الجعبري وقصف بعض المواقع وكانت أيامها السبعة التالية حرباً شنّتها حماس وحركة الجهاد ولم تتوقف إلاّ بعد خضوع حكومة نتنياهو لشروطهما ولعلّ الخوف من اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية قد عجّل بذلك الخضوع. ثم كانت هنالك التحركات الشعبية الشبابية التي اندلعت إثر استشهاد القائد الميداني ميسرة أبو حمدية في السجن.

ثم هنالك الاحتجاجات الشعبية ضد الجدار كما تجلّت في نعلين وبلعين ومواقع أخرى. وقد سعت سلطة رام الله لاحتوائها وحرفها وتحويلها إلى ما يشبه الطقس المقاوم الشكلي والبديل عن التوجّه لمقاومة حواجز الاحتلال ودورياته ومستوطناته، ولكن تظل هذه الاحتجاجات شاهداً على الروح الشبابية وتعبيراً رائعاً عن الغضب الشعبي المقاوم.

ثم أضف ألواناً متعدّدة من التحديات التي يواجهها الاحتلال كل يوم ممّا يشير بمجموعه إلى أنّ أرض الضفة الغربية والمناخ الفلسطيني العام أصبحا يتجهان نحو اندلاع الانتفاضة الثالثة. ولهذا ما على الشباب الفلسطيني والجماهير وشباب الفصائل الفلسطينية إلاّ أن يعلنوا «التمرّد» وينخرطوا في كل تظاهرة أو نشاط أو جهد أو حراك ضد قوات الاحتلال والمستوطنين.

وهنا يجب التأكيد على ضرورة وضع حد نهائي لعقلية الهزيمة التي يجسّدها محمود عباس وسلام فياض، وللدور المتواطئ مع الاحتلال من قبل القوات الأمنية الفلسطينية، وذلك لتنفتح كل أبواب الانتفاضة على مصاريعها، وعندئذ سوف نرى حكومة نتنياهو وإدارة أوباما غير قادرتين على احتمال انتفاضة تدوم لبضعة أشهر وربما أسابيع، ولن يكون أمامهما إذا ما سدّت أبواب المساومة إلاّ الانسحاب وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى بلا قيد أو شرط.

إنّ موازين القوى والمناخ السياسي العام فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً ورأياً عاماً عالمياً يصبّان في مصلحة انتصارٍ مدوٍ لانتفاضة شعبية شبابية فلسطينية كما لم يحدث في الانتفاضتين السابقتين، إنّما يشبه ما حدث في قطاع غزة.

الوضع الفلسطيني اليوم ليس في مرحلة صبر وصمود ومقاومة تصفية، وإنّما في مرحلة الهجوم وانتزاع الانتصارات على مستوى القدس والضفة الغربية وإطلاق كل الأسرى. وإذا كانت هذه الانتصارات نسبية وجزئية بمقياس التحرير الكامل لكل فلسطين فإنّ يوم التحرير قادم، بدوره، لا محالة، إن شاء الله.

ولهذا على الشعب الفلسطيني وكل قواه الحيّة وفي كل مواقع تواجده أن يركّز على قضية فلسطين ومقاومة العدو الصهيوني من خلال تعزيز قاعدة المقاومة في قطاع غزة وفك الحصار عنه، وإطلاق انتفاضة في الضفة الغربية، والتصدي لما يجري من استيطان وتهويد واستباحة للقدس والمسجد الأقصى والمقدسات المسيحية والإسلامية، ومن ثم عدم السماح بالانجرار لخوض معارك جانبية، سواء كانت داخلية على المستوى الفلسطيني أم كانت تدخلاً في الصراعات والانقسامات والثورات العربية، فالأمة العربية العظيمة قادرة من خلال شعوبها وقواها الحيّة على حلّ ما تواجهه من تحديّات، كما على إنجاز أهداف الإصلاح والتغيير والوحدة والنهضة.

أمام الشعب الفلسطيني مهمة جُلّى تنوء الجبال عن حملها ولا دور له خارج أرضه إلاّ حشد كل القوى التي يمكن حشدها خلف قضيته، وفي حالات، إن أمكن أن يلعب دور الوسيط والموفق. وبهذا، اندلاع الانتفاضة في الضفة، وتحصين المقاومة في قطاع غزة يقدّم، في هذه المرحلة، إسهامه الأكبر في خدمة الأمّة وقضاياها، وفي مقدّمها قضية فلسطين.

وبالمناسبة، إنّ مزاج التجزئة العربية شديدة الوطأة على الفلسطيني إذا ما تدخّل خارج أرضه وأصبح طرفاً في صراع داخلي أو عربي-عربي. وإنّ من يقرأ جيداً دروس تجربة فتح وم.ت.ف خلال السبعينيات والثمانينيات الماضية يدرك كم كانت فتح حكيمة في منطلقها الذي لخّصته بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وكم جرّت على نفسها والشعب الفلسطيني من ويلات حين كانت تخرج على هذا المبدأ وتنحاز مع هذا الطرف ضد ذاك. وما الأمثلة مع الكويت والعراق والأردن ولبنان وسوريا ببعيدة.

ويمكن أن يُذكَر هنا أنّ المرحوم القائد الفلسطيني الدكتور جورج حبش قدّم نقداً ذاتياً بهذا الصدد في مقابلة صحفية تستحق الاعتبار بها.