خبر من يفعل الخير لا يعدَم جوازيه..علي عقلة عرسان

الساعة 04:40 م|28 يونيو 2013

كثير من كلام السياسيين ومن يتبعهم ويمهد لهم ويجمل وجوههم ويتزلف لهم ويبتزهم أو يحاول زحلقتهم من الإعلاميين، حول الأزمة السورية والحلول السلمية لها.. يبدو كغثاء السيل في الأيام الأخيرة، فهو ليس أكثر من لغو وأباطيل وأساليب تمويه يراد منه التضليل، وخداع، والحرب خدعة. ذاك أن الساسة أعطوا الكلمة الأخيرة للمقاتلين والسلاح، ويتكلمون في الحلول السياسية من باب النفاق.. ومن شعر أو يشعر منهم بنكسة أو زلزلة أو ضعف قرر أن يعتمد على مقاتليه ليعيدوا له التوازن وبعض الثبات، ولذا يريد لهم أن " ينتصروا" ليكسب شيئاً يدخل به إلى الجولة القادمة التي لن تكون الأخيرة، سواء أكانت جنيف 2 أو سواها، فالرهانات على الموت لن يوقف خبلها إلا الموت. وقد أخذ أؤلئك يضاعفون ما يمدون به أدواتهم وأتباعهم من سلاح من كل نوع وما يعززون به صفوفهم من رجال مدربين على ذلك السلاح النوعي الجديد، فلا يدخل سلاح في المعركة، وحتى لا يوضع بين يدي مستخدميه من المقاتلين قبل التدرب عليه. وهذا السلاح النوعي الجديد هو إضافة نوعية وكمية إلى سيل السلاح الذي لم ينقطع منذ بداية الأزمة السورية، وهو يترافق اليوم مع إدخال مقاتلين جدد إلى سورية ممن تدربوا على أنواع جديدة من السلاح. وفي هذه الحالة ستكون المعطيات اليقينية هي تلك التي يقدمها المقاتلون على الأرض خلال المدة التي يقتضيها تحقيق ذلك قبل أن يتسنى لمؤتمر جنيف 2 أن ينعقد.. فكما قال أبو تمام الطائي:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ       في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

وهناك الآن ساحتان يشتد فيهما الاقتتال في الأيام الأخيرة، لأغراض استراتيجية تحتاج إلى مزيد من السيطرة: جنوب سورية ليدخل من هناك سلاح ورجال عبر الأردن بإشراف دول معروفة وأجهزة استخبارات موصوفة.. وشمال سورية، حيث أهم مصادر تعزيز جبهات المسلحين بالرجال والسلاح.. أما المال اللازم لكل جبهة وفصيل وفرد من "المعارضين والمسلحين والإرهابيين.. إلخ" أينما وجد، فهو يحمل إليه على ما يشبه أسراب الطيور العابرة للفضاء في فجوات السماء، حيث يقتحم عليه تحصيناته بسلاسة ولا يفقد نفساً من أنفاسه.

الجيش العربي السوري الذي يحقق تقدماً في مواقع، ويتصدى للمسلحين في كل المواقع حيَّد جبهات بصورة نسبية كان يأتي منها السلاح والرجال، أعني الحدود اللبنانية والعراقية بمساعدة من الدولتين الشقيقتين، وسوف يتابع تصديه للمسلحين في المواقع كافة، وهو يركز بشكل واضح على ريف دمشق وفي حمص ريفاً ومدينة، ولا يغفل الجبهات والمواقع الأخرى.. ولكن الأيام الحبالى بالكثير من الشدة قادمة، وسيأتي وقت قريب يشتد فيه الاقتتال ويمتد نتيجة لتدخل أميركي ـ صهيوني ـ عربي" بمشاركة تركيا وبعض الدول الأوروبية.. وترجمة هذا على أرض الواقع مزيد من الضحايا ومزيد من الدمار وتدحرج لكرة النار في المدار العربي ـ الإسلامي.

لا نتوقع تدخل عقلاء يحسمون الأمور باتجاه الحلول السياسية القائمة على الحوار والمنطق والحكمة، فلم يعد هناك في ساحة الاقتتال بأشكاله وأدواته كافة، عقلاء وحكماء.. فهم إما حيِّدوا أو اختاروا السلامة، أو جبنوا.. وإماكانت حكمتهم أقنعة على الوجوه لم تلبث أن تساقطت فبدت الوجوه والحلوم: "جهالة وتآمراً ووبالاً على الحكمة والعقل والضمير والوطنية والدين.. هناك اليوم من يقرع " الطبل الرجوج" طبل الحرب، أو من يهيء طبولاً يقرعها في الوقت الموقوت حين تموج الأرض بما يشبه موجها بياجوج وماجوح، يوم يهب الريح الأصفر طاعوناً ليس كالطاعون، فترى الناس كأنهم جذوع نخل منقعر.

إنني لا أذهب إلى التهويل ولكنني أصرخ من أسى، وأوجاعي فوق حد الاحتمال، وأجد لزاماً علي أن أحذِّر من القادم المرعب الذي يتراءى لي دماً وجثثاً ودماراً وناراً.. وكأني أراه وأتقَرَّاه، ألمسه وشوكه في كفي وعيني.. فلعل وعسى.. ولعل وعسى.. ولعل وعسى يصبح للسلم مآب، وللضمير مخلب وناب، وللعقل غزوة، وللإنسانية سطوة.. فيقف كل أولئك بوجه موجة الجنون العارمة التي تكتسح الوقت قادمة، حاملة وحشية بلا ضفاف، فتفترس من الأبرياء أكثر بكثير من المتقاتلني " الأشاوس" الذين يرتعون على جسد سورية الإنسان والتاريخ والحضارة والتعايش الخلاق على مدى آلاف السنين.. بينما الصهيوني المجرم القذر يرتاح في فلسطين ويتمدد في القدس، ويسخر من يومنا وغدنا والأمس. أيها المتواجهون بالسلاح في أسواق حلب وحاراتها القديمة وجامعها الأموي الكبير.. تذكروا أنها الشهباء، دارة الشعر والفلسفة والموسيقا والإبداع في بلاط سيف الدولة الحمداني، وحصنه الحصين، ومنطلقه إلى مواجهة غزو البيزنطيين.. وأنتم يا من تفلحون أرض حمص بالرصاص والقذائف تذكروا أنها التربة التي يرتاح فيها خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، والمدينة التي أنجبت خمسة أباطرة حكموا روما، وأن في ريفها تدمر دارة مملكة زنوبيا العربية التي قاومت الرومان وقدمت أنموذجاً لحرائر العرب حتى وهي سبية ومكبلة في روما.. أما دمشق، روح الشام وقلبها النابض ودار الخلافة الأموية، والبيت الذي وصلت أذرع أبطاله إلى الأندلس والهند والسند والصين.. فلا أجد فيَّ إلا ما يلجمني ويصعقني دهشة وألماً ويفتك بي وحشة حين أراها تستباح من أطرافها حيناً وفي مركز "مرجتها" حيناً، في جامع هنا وكنيسة هناك.. وتتحنى بالدم من تفجير وتدمير وقذائف وانتحاريين.. ألا أيها المتقاتلمون على جسد الشام إنكم الأخسرون دنيا ودين.

يجتمع اليوم السبت 29 حزيران 2013 في المنامة وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، وبعضهم ينخرط في الأزمة حتى لا يرى إلا النصر له غاية، وبعضهم يراقب المنخرطين فيها ولا يرى لما يتوجهون إليه من نهاية، وكل منهم يصل إليه ما يلحق بسورية وشعبها من كوارث ومآسٍ على أصعدة شتى.. من الدمار وتخريب بنى الدولة ومؤسساتها إلى آلام الناس وتشردهم ومعاناتهم من جراء الاقتتال والنزوح والتهجير والترويع، وكل يعرف ويصل إليه ما يعاني منه السوريون جميعاً من جراء أزمة طالت وكوت وفجعت وأحرقت.. أزمة جاع بسببها صغار وذلّ كبار وفجعت نفوس ورَبت في القلوب والعقول دمامل وأفكار.. ولا أريد هنا أن أتوجه بالخطاب إلى الوزراء المجتميعين ولا إلى العرب والمسلمين من خلالهم في ضوء ما يمليه الدين الإسلام على المسلمين، حيث يقول تعالى: ﭽ ﮙ  ﮚ   ﮛ  ﮜ  ﮝ  ﮞ  ﮟﮠ  ﮡ  ﮢ  ﮣ      ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧ   ﮨ     ﮩ  ﮪ  ﮫ     ﮬ  ﮭﮮ  ﮯ  ﮰ   ﮱ  ﯓ  ﯔ  ﯕﯖ  ﯗ  ﯘ  ﯙ  ﯚ   ﯛ  ﭼ الحجرات: ٩ لأهم يعرفون ما أمر به الله، ولأن هناك في كل فريق من الفرقاء في الأزمة السورية الدامية ومن يقف وراءه، مَن يُخرِج الآخر من الإسلام ويحمله مسؤوليات تصل إلى حدود التجريم فضلاً عن التكفير.. وهناك أيضاً من ينفخ في نار هذه الأزمة باسم الإسلام، فاختلط الأمر على الخاصة فكيف لا يختلط على العامة فيدخل حابلهم في نابلهم - في أساليب الحروب القديمة كان هناك من يقاتل وأداته الحبل ومن يقاتل وأداته القوس ورمي النبل، ولكل مداه ومجاله ودوره في المعركة، فالنابل يرمي عن بعد والحابل لا بد له من القرب ليلف حبله على العنق أو الجسم.. وحين تدب فوضى ويدخل الحابل بالنابل.. يصعب على كل مقاتل أن يتبين كيف يقاتل ومن يقاتل. _  وتعم فوضى الاقتتال ويتم السحل والذبح ونهش الكبد و" شرب" الدم؟! بعد أن شجَر بين الناس ما شجَر، ولم يعد التبصر والتدبر هما الحاكمان، على أهميتهما وضرورتهما في هذا الوقت والميدان.!؟ لا أريد أن أدخل المدخل الإسلامي الذي أفضل، " لتوهمي" أنه مسدود بفعل قوى معادية للإسلام والمسلمين استولت على مفاتيح الأمور وما يعتمل في الصدور، وبعد أن طغت عنجهية الجاهلية فوضعت نفوساً من العرب والمسلمين حيث وضعتها.. بل أريد أن أعود بمن يرغب في العودة معي إلى قيم جاهلية أقر بعضها الإسلام، وأعود بآخرين من خلاله إلى ذلك الخطاب خطاب الجاهلية وقيمها، تلك التي عدنا إليها في هذه الأزمة فغرقنا أو أُغرقنا فيها، وأخذنا نتكلم عن: عرب وعجم، ومسلمين ومجوس، وسنة وشيعة، النواصب والروافض، وحتى عن اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، وعن فرق وعصائب وكتائب وشيع بعد شيع.. في حرب لبَّها السياسة وغايتها إعادة رسم استراتيجيات في المنطقة تريح العدو وترهق الذات والصديق، وتتوسل إلى ذلك بأبعد ما في السياسة من شرور ونجاسة.. ولكل أزمة أسباب وأبعاد، وفي أزمتنا هناك معطيات أنتجها الظلم والاستبداد والطغيان وقصر النظر وممارسات مرفوضة، وهناك التآمر وتدخل قوى دولية ذات أهداف إقليمية، وظَّفت ما وظَّفت ومَن وظَّفت من أشخاص وأحزاب وأجهزة وقوى ودول..إلخ  لتحقق مصالح وأهداف استراتيجية للصهيونية والاستعمار الغربي خاصة، من خلال مَن هم أخوة وأهل دارين مستهدَفتين هما دار العروبة ودار الإسلام.. أعود إلى قيم جاهلية في موقف وخطاب مروءة وشهامة فيها، إلى خطاب الحكمة والتبصر والتدبر.. ففي الجاهلية حكماء للعرب حملوا الدم وتحملوه في أيام من أيام العرب أريق فيها الدم بلا حساب.. وآخذ من ذلك ما ساقه زهير بن أبي سلمى عن الشيخين الشهمين الحكيمين من شيوخ العرب ورجالاتها في الجاهلية، وهما ممن يذكرهما التاريخ بالمعروف ولا يذكرهما بالشر، هما هرم بن سنان والحارث بن عوف، حقنا الدم بين عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين سنة، وقد أخبرنا عنهما شاعر الحكمة زهير:  

يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما       عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ

تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما       تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ

وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً       بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ

عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها       وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ

     أعود إلى ذلك وأذكره وأذكِّر به لا لكي أطلب من وزري أو وزراء في الاجتماع معجزة، فلا تحمل نفس إلا وسعها، ولكن ليعود بعضهم أو يعودوا كلهم إلى رجال أعلى افترض أنهم أحكم وأعلم بحال الأمة وبما أصابها وبما يمكن أن يصيبها إذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فربما يتحرك فيهمـ وهم أهل لأن يتحرك فيهم ويحركهم ـ ما فيه خير الأمة، فينزع من يرفع قامة إلى العلياء منهم بعض فتيل الفتنة، ويسد الطريق على أعداء الأمة، ويميل إلى السلم ويدعوا إليها، والصلح خير" كما قال تعالى. فهل إلى موقف يسجله التاريخ بأحرف من نور من سبيل، حيث يتوقف النفخ المسموم بنار الفتنة، ونفتح أبواب العرب للتفاهم، ولا نسير في طرق الغي والبغي والموت التي لا ترضي الله وتفني عبد الله، ولا يستفيد منها سوى أعداء الله وأعداء الأمتين العربية والإسلامية
 إنني أتطلع إلى الحكمة لأنها تنير حُلكة القلوب والنفوس، ولأنها تؤدي، بالترفّع والتسامي، إلى ما لا يؤدي إليه الصلف والغطرسة والتعاي وسوء التفكير والتدبير.. وإذا ما وصلنا إلى وضع قدم على تلك الطريق فإننا سنجد أن السير فيها ممكن، والوصول بالحسنى إلى أفضل بكثير مما قد نصل إليه أو لا نصل إليه بالحديد والنار. إننا على أبواب الشهر الفضيل، وفيه الفضل مضاعف، فهل نتطلع إلى شيء من فضل أهل الفضل يلجم الفتنة ويحقن الدم ويرتفع بالعرب والمسلمين إلى حيث ينبغي أن يكونوا من التبصّر والتدبر والعمل الذي يفعل فعل المعجزة فيخرج الأمة من الظلمات إلى النور.

ليس ما سأذكره هنا التماساً مصدره ضغف، ولا تقرّب من مقام بقولٍ أو فعلٍ يُلام عليه أو يحسب على أصحابه، فالغاية أبعد وأرفع وأسمى من أي تفسير يمكن أن يتوصل إليه عقلٌ ضرير.. وهي غاية تستحق أن نحمل لها مصباح ديوجين ونفتش في عزِّ الظهيرة عن الإنسان القادر على القيام بها والدفع باتجاهها.. وكلٌ يقوم بما يستطيع ويدعو إلى ما يرى أن فيه الخير وأنه مانع من الانهيار والفتنة، ومبقٍ على الحياة والعمران في أرض الحياة والحضارة والعمران، ومنجٍ من التهلكة، وأنه يبقي للأمة أملاً في أبنائها وبُناتها وعلاقاتها، ويعود على الإنسان والأوطان بالخير والأمان، وأنه جدير بأن يُتَّبع في الملمات والأزمات، حقناً للدماء وفتحاً لأبواب الفرج والتفاهم والتعاون والبقاء بعون الله.. وما أود أن أذكره هنا يمثلني وحدي، وأصدع به بنفسي بياناً لما في نفسي، ولا يمثل سواي، ويدفعني إليه حرصي على الإنسان والأوطان والعلاقات، واحترامي لحياة الناس ومعاناتهم، وخوفي على الأمة مما يجنيه عليها أعداؤها بمشاركة بعض أبنائها،  وكل منهم يتهيأ للمعارك " المهالك" ويقدم براهينه على أنه " المنتصر" بينما الأمة كلها مهزومة " بنصره" لأنها تخسر أولاً وآخراً بينما يربح أعداؤها.. وأقوله وأنا في خضم هائج أرى فيه الحشود والاحتشاد، وأسمع الوعود والاتعاد، ويهولني ما أرى وما يمكن أن أرى حين تحتدم معارك أخرى وقودها سوريون ، وعرب ومسلمون، والمبتهج بحدوثها صهاينة وأميركيون وغربيون ممن يعشش فيهم رسيس صليبي مقيم!!.. ما أذكره وأذكِّر به وأقترحه هو الآتي: ".. ألا فليكن قول، وليكن موقف، وليكن فعل، وليكن مقترح.. يرتفع فوق الكراهية والثأر والحقد وأضغان السياسات وتصفية الحسابات، فهو يكبر ويكون أكبر بعيون الناس من الخصومة والخصوم حتى إذا رفضه الخصوم..  ولا أظن أن مجلس التعاون الخليجي على مستوى القمة أقل من أن يُعقَد عليه الخير، ولا هو أقفر أو يمكن أن يقفر من مروءات ترفع أهلها وترفع الغمة عن الأمة.. ألا فلتكن مبادرة طيبة، وليكن وقف للتأزيم، وليكن توجه نحو حقن الدماء وفتح أبواب الأمل والرجاء في رمضان.. ففي ذاك خير له ولكل من يكتوي بهذه النار.. ألا وليكن خيرٌ للأمة كلها في ذلك.. و..

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ       لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

والله ولي التوفيق.

دمشق في 28/6/2013