خبر خريطة « الشرق الأوسط » بين الربيع العربي والخريف الأميركي ..وليد نويهض

الساعة 09:32 ص|22 يونيو 2013

لم تعد فكرة تقسيم المنطقة وإعادة هيكلة الجغرافيا السياسية، مجرد تصوّرات موضوعة في ملفات وزراء خارجية الدول الكبرى، بعد أن تمّت مناقشتها تفصيلياً في اجتماع الدول الصناعية الثماني في مدينة سي ايلاند في الولايات المتحدة في حزيران 2004. آنذاك تقدّمت أميركا بنص المشروع في شباط 2004 في عهد الرئيس جورج بوش الابن، ووزّعت منه نسخاً على الدول المعنية لوضع الملاحظات عليه قبل إقراره واعتماده سياسة في السنوات الخمس المقبلة. (نشرته صحيفة "الحياة" اللندنية في عددها الصادر بتاريخ 13/2/2004. ويشمل المشروع البلدان العربية وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان).

حدّدت القمة مهلة زمنية لتنفيذ المشروع تنتهي في العام 2009. انتهت الفترة التي اتُّفق عليها، وهي فترة تأسّست على متغيّرات سابقة ولاحقة بدأت في أفغانستان (حرب 2001) والعراق (حرب 2003) ولبنان (حرب 2006) وغزة (حرب 2008-2009). وتصادفت كلّها مع بدء انسحاب القوات الأميركيّة وتجميعها في قواعد عسكرية في العراق وتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية على صلة خاصة بإدارة واشنطن ما فتح باب الافتراض عن وجود صفقة تعطي أفضلية لقوى إقليمية على حساب أخرى.

يتجاوز نص المشروع الظروف المرحلية التي أملت على إدارة بوش الابن الإسراع في كشفه، لكونه يتضمّن مجموعة نقاط تحتاج إلى خطوات عملية لتنفيذها على مراحل ولا يمكن لها أن تنتهي في العام 2009. فالمشروع كبير واحتاج فعلاً إلى مساحة زمنية تجاوزت عهد إدارة بوش (الحزب الجمهوري) وتتطلب فترة سماح مضافة من عهد باراك أوباما (الحزب الديموقراطي) حتى تكون الأوضاع جاهزة للتكيّف مع طموحات التغيير، وهي تطلّعات ترى الدول الكبرى أنها أصبحت ضرورية للبدء في مشروع إعادة هيكلة "الشرق الأوسط".

أخطر ما في المشروع غموض فكرته. فالمصطلح غير واضح ويشمل سلسلة بلدان تمتد من غرب الهند إلى المغرب، ويتضمّن الكثير من النقاط التي تخلط بين الإصلاح الشكلي والتغيير الجذري الشامل. وغموض الفكرة فتح الطريق للإكثار من الكلام، عن وجود "مؤامرة كونية"، لتفكيك المنطقة وتقسيم الدول إلى دويلات عرقية أو طائفية تعطي شرعية تاريخية للنموذج الإسرائيلي في فلسطين.

الحديث عن مؤامرة ليس خارج الموضوع – حتى لو بالغت الأنظمة في تضخيم المخططات الدولية للتهرب من مسؤولياتها القانونية – في اعتبار أن النسخة الموزعة التي نشرت في الصحف في شباط 2004 اشتملت قضايا عامة مضافة إلى توصيفات فضفاضة تتحدث عن منطقة جغرافيّة هائلة الاتّساع وغير موحّدة في درجات نموّها ومناخاتها وبيئاتها.

أعاد هذا الإشكال الجغرافي في تحديد هوية المنطقة (عربية أو إسلامية)، الذاكرة إلى مناقشات الكونغرس الأميركي بشأن "الشرق الأوسط" في العام 1993 وقراءات المستشرق برنارد لويس عن طبيعة المنطقة وتكوينها الديمغرافي (خصوبة الأقليات وتكاثرها) وتصريحات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عن "الشرق الأوسط الجديد" خلال زيارة قامت بها إلى تل أبيب في حزيران 2006.

وعزز الاختلاط السياسي في توصيف هوية الشرق الأوسط بين "الجديد" و"القديم" أو بين "الصغير" و"الكبير"، فكرة المؤامرة وأعطى ذريعة للأنظمة لرفض مشروع الاصلاح الذي تحدث عن نقص في إنتاج الكتب والترجمات، واحتكار السلطة للإعلام، وعدم وجود صحافة حرة، وتهميش المرأة، وارتفاع أعداد المتخرجين وعدم توافر فرص عمل ما يضطرهم للهجرة، وتدني دخل الفرد، وضعف النمو قياساً بنسبة التكاثر السكاني. هذه "الأفكار الطموحة" التي وردت في المشروع تهرّبت منها الأنظمة بذريعة وجود مؤامرة تستهدف الأمن وتدفع الشعوب نحو الخروج وزعزعة الاستقرار. وهو ما ظهر لاحقًا في الانتفاضات التي اندلعت في نهاية 2010 وتدحرجت في 2011 و2012 و2013.

ساهم اختلاط هوية "الشرق الأوسط"، وعدم وضوح الجانب السياسي من المشروع، واقتصار الأفكار على النصائح من دون الدخول في الأسباب، في تخويف الأنظمة على رغم أن طموحات النص الذي أقرّ في قمة سي ايلاند تعتبر متدنيّة. فالمشروع رأى أن حلّ المشكلة الاقتصادية يتطلّب التركيز على التنمية البشرية ورفع دخل الفرد يوميّاً إلى اربعة دولارات، كذلك رفع نسبة النمو من 3 إلى 6 في المئة سنوياً. كذلك رأى أن حل المشكلة السياسية يتطلب اجراءات تشمل تعزيز الديموقراطية وتطوير مجتمع المعرفة وتوسيع الفرص الاقتصادية، وإطلاق الحرّيات (انتخابات حرة، معاهد لتدريب النساء على المشاركة في الحياة السياسية) واصلاح النظام القضائي (المدني، الجنائي، والتشريعي) ومكافحة الفساد، وإصلاح النظام المالي والتبادل التجاري، وذلك بهدف نشر الشفافية وترسيخ الحكم الصالح وردم الفجوة الاقتصادية (نظام قروض وتسليف المؤسسات الصغيرة، تعديل نظام الرسوم الجمركية، إنشاء مناطق حرة ومناطق رعاية الأعمال) والانضمام إلى منظمة التجارة الدولية.

أعطى اختلاط فكرة "الكبير" بـ"الجديد"، مشروعية رسميّة للدول العربية برفض المشروع بذريعة أنّ الإصلاح يمسّ السيادة وله صلة بالأمن الداخلي والاستقرار ويشجّع على تقويض الدولة وغيرها من عناوين فرعية كانت كافية لإغلاق الملف. وجاء إغلاق الملف بعد صدور ردود فعل سلبية وغاضبة آنذاك من الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي وصف خطة المشروع بالسطحية، وقال وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إنّ الدول العربية تريد التنمية والتحديث لكنّها ترفض نظرية "الإصلاح بالقوة".

بسبب عدم تجاوب الدول العربية، أغلق المشروع آنذاك بعد إقراره من قبل الدول الصناعية الثماني في قمة سي ايلاند. فالنصّ المعلن كان يعاني من ضعف في منهجية الربط بين الأسباب والنتائج وآليات الحل، لأنه اعتمد أساساً على تقرير قدّمه معهد "فريدوم هاوس" في العام 2003 الذي تحدث حسابياً عن درجات الحرية في العالم العربي ما أعطى صفة نمطية عامة عن دول متباعدة جغرافياً ومناخياً وثقافياً من غرب الهند إلى المغرب متجاوزاً بذلك الهوية التاريخية أو الدينية أو القومية التي تجمع كل هذا الكم من الأضداد.

أغلق الملف آنذاك. لكن المخاوف عادت إلى الظهور بعد سلسلة الهزات التي ضربت المنطقة من المحيط إلى الخليج (صعود قوى وسقوط قوى) ما طرح احتمال وجود علاقة بين ما يحصل في البلدان العربية من هبات سياسية ومشروع اصلاح (أو هيكلة) الشرق الأوسط الكبير الذي اتخذ القرار بشأنه في قمة سي ايلاند.

المشروع الذي وضع في عهد بوش الابن وحددت مدة تنفيذه في نهاية 2009 طرأت عليه تعديلات تتّصل مباشرة بتراجع الموقع الأميركي، وتردّد واشنطن في إعادة ترسيم حدود مصالحها في دائرة "الشرق الأوسط" في لحظة انتقالية لم تعد فيها أميركا اللاعب الدولي الوحيد كما كان الأمر في العام 2004. فالإدارة الأميركية في عهد أوباما متردّدة وغير واضحة، وهي تغلّب قوة الديبلوماسية على ديبلوماسية القوة.

الاختلاف بين تكتيك "القوة الخشنة" الذي اعتمده بوش الابن وتكتيك "القوة الناعمة" الذي يعتمده أوباما لا يعني بالضرورة تخلي الولايات المتحدة عن مشروعها الاستراتيجي الذي ارتأى أن المنطقة بحاجة إلى إصلاح وتغيير. الاختلاف لا يقتصر على تعارض النهجين وإنّما أيضًا على تراجع الدور الأميركي وعدم استطاعة إدارة أوباما على التحرك من دون ضوابط دوليّة ورقابة الأمم المتحدة. الخريف الأميركي أخذت تظهر أعراضه وبدأ يتمظهر في طموحات موسكو وإصرارها على العودة إلى لعب دور الشريك الاستراتيجي في إدارة خطوط المعركة وترسيم حدودها السياسية.

نفي المؤامرة (شبهة الاتّصال) لا يلغي احتمال وجود خطّة مشروع يستهدف إعادة هيكلة دول المنطقة (تقسيم السودان مثلاً في مطلع العام 2011، واحتمال انزلاق العراق إلى كونفدراليّة مناطق وقوميات) تحت سقف مطالب مشروعة تطمح شعوب المنطقة إلى تحقيقها إسوة بدول العالم. "المؤامرة" إذا وجدت أم اختلقت لا تستطيع أن توقف عجلة التقدم والتطور والإصلاح واحترام المرأة وحقوق الإنسان. وهنا بالضبط تبدأ المسؤولية التاريخية التي وقعت "مصادفة" على القوى الإسلامية الصاعدة حديثًا من الشارع إلى السلطة. فالسؤال لم يعد يقتصر على "ماذا تريد القوى الإسلامية من السلطة" بل ماذا تستطيع القوى الإسلامية أن تقدم وتفعل بعد أن وصلت إلى الحكم. يبدأ التحدي من هذه اللحظة الانتقالية (الربيع العربي في مواجهة الخريف الأميركي) التي تؤشّر إلى وجود متغيّر غير واضح المعالم، لكنّه بالتأكيد لن يكون كما كانت العهود الانقلابية والتسلطية السابقة.