خبر ونحن أمة العرب.. علي عقلة عرسان

الساعة 05:52 م|21 يونيو 2013

مدينتي دمشق..

أبثك الهمومَ يا مدينتي، وأنت دارٌ للهموم ما لها قرار..

بوابةٌ للصبر والتصميم والإصرار..

فهل ترى يضيق حلق الأم بالدموع يا مدينتي..

إذا بكى رضيعها في حضنها، أو ثار..

وعندها ألف رضيع ورضيع يألمون، ما لهم دِثار.!؟

دمشق يا مدينتي، يا بيتنا الكبير،

يا دارنا البهيَّة التاريخ والقوامِ والآثار..

أبثك الهموم يا حبيبتي..

أقول عاشت عمرَها تكابد الهموم،

وتحرس الثغورَ.. ترصد التخوم،

وتكتوي بالنار،

وتكتب التاريخ،

وتصنع النهار،

وتنجب الحرات والأحرار..

     وعندما تسبح في دمائها، تشتد مثل مارد جبار،

تصير كالإعصار..

تقوم من رمادها، وتنتضي بتَّارها..

فتهزم الفرنج والتتار،

وتصنع انتصارها..

وتزدهي بالغار ..

فألف عذرٍ إن أنا أتيت في زمان الانكسار يا مدينتي،

إن أنا اشتكيت أو بكيت.. وانحنيت،

على دماء صبية صغار، في حالة احتضار،

وهالني الخراب والدمار..

ولفَّني الضباب والضياع والدُّوار..

فليس لي إلاك يا دمشق من منار.. 

وألف عذرٍ إن أنا أتيت يا مدينتي وزادي الهمومَ..

وألف عذر إن حكيتُ.. إن شكوت.. إن بكيت..

فأنت شام الله في قلبي، وإيمانُ العباد..

شامة الدنيا.. وميدان الجهاد

وقدرة على البناء والبقاء والسداد..

وأنت يا زيتي وزيتوني ويا أم البلاد..

من يرفع الهمومَ عنّا، يحقن الدماء،

يضمد الجراح والفؤاد،

ويحفظ التراث والأمجاد..

وفيك يا شآم يُصنع القرار..

ويبدأ المسار والنهار.

***

مدينتي دمشق..

وأنت عمر العرْب، تاريخ الورى..

وأنت عروة العُرَى..

هذا الوساع  في الرؤى..

في الصبر، في الحس السليم، في الندى..

وفي التصدي للعدا..

سمِعْتِني أحدِّث السماءَ والغيوم والنجوم عن أبنائنا الجياع،

عن أخوتي في كل صقعٍ، كل حيٍ، كل بيت، كل قاع..

تنهشهم كلاب, تنوشهم أوجاع..

ويرتمون في المدى أتباع،

وسلعة تُباع..؟! 

عن جرح قلبي.. بعض أشلائي، وتدمير القلاع..

عن بؤس روحي يا دمشق، وبؤس ذيَّاك الصراع..

عن دعوتي أن تُنزِل السماءُ والغيوم والنجوم أرغفة،

بيادراً من الأمان والسلام والهدى..

وتنتهي الهموم،

وتهدأ القلوب والجراح،

ويشبع الجياع،

ويبزغ الشعاع..

ويأمن الوطن..

ويكبر الوطن.

فيا دمشق، يا دمشق، إننا..

بيتٌ له تاريخه، وأمةٌ عريقة تخوض في المحن..

فيا تُرى إلى متى نضيع،

وينزف المسنُّ والرضيع،

وتكبر الجراح في القلوب،

وتكبر المحن..

وتنتشي في دارنا الفتن.؟!

ويا دمشق، يا دمشق، يا دمشق، إنني.. 

أحب طعم الأرض، والحياة، والعمل..

تنمو شروشي في شروش الأرضِ،

لا أبغي بديلاً للثرى في الشام..

ما للشام في نفسي بدَل..

لا لن أودع أرضها ولا الإخاء والصداقة والطلل..

مهما تكاثرت العِلل..

فالشام عذبُ الماء، والإباءُ، والأمل..

لذا طرقت بابك.. التاريخَ.. أطلب الكلام يا شآم والوئام والأمان والسلام..

لأنني أهتزّ مثل الطفل في الطريق..

تصرعه رصاصة، قنبلة، قذيفةٌ، دبابة، سيارة مفخخة..

فيسقط الرغيف من يديه في دمائه..

يرفّ مثل الطير، يصرخ يستغيثُ.. يصيحُ: يا هذا.. الوطن..

ولا وطن..

فالكل يغلي في أتون الوقت، والدنيا كَفَن.

يهاجر المسكين من أرض الحياة إلى متاهات الممات..

وتظل في الأرض المآسي والمحن.

***

مدينتي دمشق ..

حدثني أمس على انفراد،

شخص له مهابة،

كأنه التاريخ أو إطلالة الأجداد والأمجاد والرواد..

وكان في الحديث سهم نار..

تجاوز الضلوع والعظام واستقر في مدار،

كأنه الأقدار..

حدثني.. حدثني.. حدثني..

ولم أعد أشعر يا مدينتي بأنني أعيش..

كأنني المشلوح في رباك من قرون..

على الظلام والقتاد والظنون..

كأنني والنار صرنا نحرق المدار..

صيَّرني ذاك الحديث أسئلة..

صيَّرني جذراً يمُدُّ الكف للحاضر، للآتي، وللتاريخ..

فيقطع التاريخُ كفاً مدَّها..

وأكتوي بالنار.

" نيرون" لا.. ألف وألفٌ مثله في زحمة المدار..

والشام تستغيث..

والنار في سُعار..

في بلد الحرات والأحرار.

أدهشني، أوجعني، أدمعني.. المدار يا دمشق، 

وصرت يا مدينة الأحلام والآلام.. يا مدينتي..

أحس أن الشِّعر يروي غُلة،

وأنه يمكن أن يُقال،

ليحفظ الأوجاع والأهوال في أقوال،

تغلقها أقفال..

يفتحها الآتون إن جاءت بهم أحوال..

في أعصر مات بها الشُّعَّار والسُّماع والسُّمار،

وأظلم النهار،

وأقفر المدار..

وأقفرت مدينتي من زهوها..

مات بها النهار..

وانطفأت أسئلة..

وهاجر الإنسان..

خوفاً من الإنسان.

وعندما أحس لذة الكلام يا شآم..

مجرد الكلام،

فإنني أهيم في معارج التاريخ،

أُشرِف من بوابتي هشام..

على الدنا في مدها.. وأشكم الزمان..

أحيله إلى الورى ليكتب الحكاية التي أرى..

يسجل الأفعال والأقوال..

ويرصد الحداء والعويل والموال..

فيطرح السؤال،

على وجيب أضلعي يقول:

".. تعود للوراء، للشِّعار، للكبار..

لِمَا جفاه الوقت.. للماضي..

 لما أحاله الصغار عندكم.. دوامةً من " عار"..

لأنهم صغار..

تعود تغرز المُدى في العين، تنبش النسيان..

لمَ الوقوف في المَدى، وحَجزة المدار؟!".

حدثني محدِّثي وحلقُه صَبَّار..

ودار واستدار،

وقارَبَ الأسرار..

فهالني، وربما قد هاله، ما شَفَّ من أسرار..

غافلني، وراح كالإعصار..

يرمح في القفار..

وصوته كأنه يقول:

".. يُقال عن دمشق إنها هوت من شاهقٍ

ولم تعد ركناً من البنيان في دنيا العرب

ولا دعامة النضال في أصقاعهم،

وعروة وثقى وذات بال،

تجمِّع الشطآن، وتحلب الأشطان،

وترفع البنيان..

تكاثرت، يا حسرتي، في أرضها الأحزان..

تناثرت في أرضها الوارفة الظلال..

أسمال آمالٍ.. وآل أسراب من الآمال..

.. ما بالها.. تركب ظهر داحس وتتبع الغبراء.؟!"

والعلم فيما حولها يطاول الفضاء.؟!

حزنت يا مدينتي..

وجئت يا مدينتي أقول: تراكمت في أضلعي السهام والجراح..

وأورِث المنكوبُ أنواع العِلل..

كل المآسي والخَلل..

فهل ترى يسطيع مبضع الجراح أن يشفي العِلل

وينشر الراحة في الضلوع..

والأمن في الربوع..

وينعش الأوصال والآمال.؟!.

سمعت ثم صحوت.. ما من أحد..

فصحت.. يا محدثي،

فلم أرَ محدثي..

كأنما استقال..

أرهقه أن يمسع الجواب والسؤال.

بكيت يا مدينتي.. لما يُقال عن دمشقَ..

ما تعيشه دمشقُ، ما يمنعها المَقال..

فكيف يغدو وجهنا محبّر الخدود؟!

وكيف يرسم العدوّ لوننا، أفراحنا، أتراحنا..

أفكارنا.. سجالنا.. قتالنا فيها.. وكيف يرسم الأقدار والحدود..؟!

يزيِّف الأقوال والأفعال والوجوه والقلوب والوجود..

في أرضنا الكثيرة العطاء..

ونحن نبع خصبها القومي، سيف نصرها،

تاريخها.. وإرثها العظيم؟!

وكيف لا نهبّ يا مدينتي لنكشف الغطاء، ونرفع البلاء،

ونبعث الإخاء والأمان والنماء..

في كل حيٍّ وأثر..

في كل شبر من رجاء؟!

دمشق يا مدينتي..

في قلبك الكبير آلاف الجروح..

وفي صدورنا قروحٌ ما لها حدود،

لكننا على المدى..

سنرضع الإبناء..

فأنت ضرع المجد والإباء..

لا يعرف الفناء..

سنرضِع الإخلاص والإخاء للعرب،

لأننا ركن العرب..

ولن يضيق صدرنا الكبير يا دمشق بالصغار..

فنحن أمة العرب..

ونحن أمة العرب..

ونحن أمة العرب.

 

دمشق

                 

                                          علي عقلة عرسان