خبر .. فلا يشبع من جوع ولا يأمن من خوف.. علي عقلة عرسان

الساعة 06:08 م|14 يونيو 2013

بعد اجتماع عاجل لوزير خارجية بريطانيا وليم هيغ ووزير الخارجية الأميركية جون كيري في واشنطن، يذكر باجتماع بوش وبلير فيها قبل العدوان على العراق، وفي خطوة شبيهة بتلفيق خرافات " أسلحة الدمار الشامل العراقية" وأنابيب اختبار كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي لتسويغ العدوان.. قررت الولايات المتحدة الأميركية يوم الخميس 13/6/2013 أمرين خطيرين لهما ما بعدهما:

الأول: ".. أن نظام الأسد استخدم أسلحة كيميائية بينها غاز السارين على نطاق محدود ضد المعارضة ومرات عدة في العام المنصرم". وهو تجاوز للخطوط الحمر التي أعلنها الرئيس أوباما.

والثاني: أن الولايات المتحدة ستقدم "دعما عسكريا" لمقاتلي المعارضة السورية، وأن كل الخيارات تبقى مطروحة، باستثناء نشر قوات اميركية، و" نحن مستعدون لكل الاحتمالات وسوف نتخذ قراراتنا وفقا للجدول الزمني الخاص بنا.".

وكانت بعض الأطراف السورية المسلحة قد طلبت من واشنطن مدَّها: " بالذخيرة والأسلحة المضادة للدروع وصواريخ أرض ـ جو.. و بفرض منطقة حظر جوي فوق المناطق التي تسيطر عليها، بما في ذلك ممر حيوي لنقل الإمدادات من تركيا إلى حلب.".

ومن الواضح أن اعتماد ذريعة " أسلحة الدمار الشامل – الكيمياوية" هذه المرة بشأن سورية هو المدخل للعدوان المباشر الموسَّع على سورية، بعد معركة القصير درءاً لمعركة حلب.. فالذريعة الكيمياوية التي عمل عليها اليهودي لوران فابيوس ووليم هيغ بالتعاون مع جهات سورية وعربية وإقليمية، على الرغم من تأكيد روسيا الاتحادية على " أنها تهمة ملفقة"، تفتح الطريق أمام الغرب وحلفائه للتدخل المباشر الذي لن يكون سهلاً على الإطلاق، وسيكون مدمراً ليس لسورية فقط وإنما لدول المنطقة وللعلاقات الدولية والسلام العالمي.

ويبدو أن الكلام المتواصل عن مؤتمر جنيف 2 دخل في دوامة اللغو السياسي ـ الديبلوماسي والتكاذب المهني المدروس، وهو ما يدركه كل اللاعبين الذين يتهيؤون لمعارك على الأرض السورية، لاستعادة التوازن الذي يسمح بانعقاد جنيف 2 كما قال الوزير فابيوس، ولجعل الانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري في القصير وغيرها "أموراً مؤقتة" كما قال الوزير جون كيري، ولجعل سورية تدخل الفتنة المذهبية " السنية ـ الشيعية" من بابها العريض بدعوة ربابطة علماء المسلمين إلى الجهاد في سورية على أرضية طائفية حيث جاء في بيانها بالنص:
أولاً: وجوب النفرة والجهاد لنصرة اخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح وكل أنواع الجهاد والنصرة وما من شأنه انقاذ الشعب السوري من قبضة القتل والإجرام للنظام الطائفي ووجوب العمل على وحدة المسلمين عموماً في مواجهة هذه الجرائم واتخاذ الموقف الحازم الذي ينقذ الأمة وتبرأ به أمام الله الذمة كل حسب استطاعته"،

ثانياً: اعتبار ما يجرى فى أرض الشام من عدوان سافر من النظام الإيرانى وحزب الله وحلفائهم الطائفيين على أهلنا فى سوريا يُعد حربا معلنة على الإسلام والمسلمين عامة".

وكل هذا سيصبغ كل الأوراق المكتسَبة لكل طرف من الأطراف المعنية بجنيف 2 وكل الوجوه المعنية بلون الدم السوري، هذا إذا بقي للمؤتمر حظ في الانعقاد بعد ما سمعنا ونسمع من شروط قديمة مستجدة، ورفض له وللمشاركة فيه، وتحرك حيي ومرتبك باتجاهه من أطراف عربية ودولية وإقليمية. فإلى جانب رفض المشاركة في المؤتمر من جانب أطراف متشددة في "المعارضة المسلحة" ـ ولا نعرف حقيقة كيف نتعامل مع مصطلح معارضة مسلحة ولا كيف يستقيم المصطلح قانونياً وسياسياً ضمن منطق الدولة ـ  توجد حالة اجترار لشروط مسبقة أخذت ترددها أطراف من المعارضة التي تراها واشنطن " معتدلة"، وهي "المعارضة المسلحة" التي سيقدم إليها السلاح وفق قرار البيت الأبيض الأخير.. وما يجري تكراره واجتراره من تلك الشروط يتلخص في الآتي:

"لن نذهب إلى جنيف إلا بشروط: "تنحي بشار الأسد ونظامه، وتسلّمنا للسلطة ورئاسة الحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة، وتزويدنا بالسلاح المتطور لاستعادة التوازن وكل ما كنا نسيطر عليه من الأرض في سورية.. إلخ"؟! ومن يتوقف عند الحلة الاشتراطية التي ترفضها دول راعية للمؤتمر، وعند هذه الشروط التي يقول أصحابها" ألّا تزحزح عنها"، يتساءل: لماذا الذهاب إلى جنيف 2 إذن ما دام سيتحقق كل ذلك مسبقاً لطالبيه من المعارضين؟ ولم المفاوضات والحوار وعلى ماذا؟! وهل تكون الرحلة في هذه الحالة إلا لمجرد القتاط صور للسلطة السورية الجديدة في محفل دولي كبير يسمى مؤتمر جنيف2؟! وإذا كان الفريق الذي يشترط هذه المطالب سيحصل عليها قبل الذهاب إلى المؤتمر، أو تكون في جيبه مكاسب محققة قبل أن يحضره فلماذا جنيف؟ ولماذا يذهب وفد يمثل السورية ويحضر جنيف.. فالأمور منتهية؟! وأظن أن الفريق المعارض الذي سيحصل على هذه الشروط سيكون مخطئاً إن هو ذهب إلى جنيف في هذه الحالة.؟! ترى هل يدخل هذا الكلام في باب السياسة أم الكياسة أم الحماسة أم النطاسة.. لا ندري.

نعرف أن الأسباب الكامنة وراء ذلك التشدد المتجدد تدخل في باب الانتقام والثأر، الانتقام ممن ألحق الهزيمة بأطراف من المعارضة المسلحة في القصير، ومن ثم هي هزيمة ألحقت بحلفائها، وأنها ثأر لمن قتل هناك.. وخلف ذلك كله طلب توازن في القوى والمواقف سيبقى مفقوداً منشوداً، لأن كل جهة ستتقوى بحلفائها، وسوف تتسلح حتى التخمة، وستقاتل حتى الموت. وفي هذا تدمير لسورية وقضاء على دورها ومكانتها وهويتها ورسالتها، وتشويه لتاريخها وإنسانها.. وفيه تحقيق لمطالب أعداء سورية والأمتين العربية والإسلامية من الغربيين والصهاينة على الخصوص، لا سيما إذا ما تحولت دعوة رابطة علماء المسلمين في مؤتمره الأخير إلى " جهاد طائفي" يشيُّ نار فتنة مذهبية شاملة ويشعلها أكثر مما هي مشتعلة بصورة ما هذه الأيام، وفي نتائجه البعيدة إعادة تكوين للمنطقة على أيدي القوى الكبرى التي ستتمترس وراء من تناصرهم لتحقق أهدافها ومصالحها الاستراتيجية.. فتفكروا وتدبروا يا أولي الألباب.

لا مخرج من ذلك إلا في وعي مسؤول لدى الأطراف المعنية بالأزمة السورية يمنع الجميع من أن يكونوا حطب جهنم.. ويحول دون أن تكون الأمة العربية ضحية للجهل والعدوان والاستعمار والصهيونية ولتدبير عقول قاصرة ونفوس مريضة... وهذا المخرج تمنيناه طويلاً وناشدنا من أجله كثيراً ولكن لا يبدو أنه يلوح في الأفق.

لم تعد المطالب في سورية إصلاحاً سياسياً وتغييرا لدستور وقوانين وأنظمة وعلاقات اجتماعية وإدارية مريضة بأخرى سليمة،  ولا هي المحافظة على بلد وكرامة شعب والوصول بالدولة إلى مستوى أفضل وبالوطن والشعب إلى خيارات سياسية واقتصادية وإدارية أمثل.. لم تعد المطالب اليوم بين المتقاتلين على جثة الشعب وأرض الوطن وفوق صدر المواطن.. هي تلك التي أشرنا إلى بعضها، بل المطالب المتجذرة في كثير من الأنفس هي الانتقام والثأر والغَلبة " والانتصارات المدوية"، و"خذها أخي بيدي وبيد عمر"؟!.. لقد غاب العقل وغيِّب الضمير وزاغت الأبصار ودخلت البصائر في عتمة المصائر.. إنه الإفلاس الروحي والإنساني والوطني والقومي وربما الإسلامي بأجلى صوره.. لأنه لو كان الإصلاح وتداول السلطة واحترام الحقوق والحريات وكرامة الإنسان وتحقيق العدل والمساواة بين الناس والقضاء على الفساد ورفع الحيف الذي لحق ببعض العباد، ومراعاة شأن القدرة والكفاءة والأخلاق عند القيام بالعمل والمهام وتسنم المناصب، ومراعاة  التفاضل بين أولويات وأخرى.. لو كان ذلك كذلك لكان العقل حكَم، والحكمة أجدت، والمنطق ساد، والطريق إلى حقن الدماء وإعلاء شأن الوطن والإنسان أنارت وجذبت إليها الناس وغدت سالِكة بازدحام.. لقد أصبحنا للأسف الشديد في المحنة الفتنة التي يغذيها التآمر والحقد والجهل والعصبية الجاهلية والدعاوى والفتاوى المذهبية والطائفية والعرقية.. وأصبحت العنتريات تتجلى فيما بيننا بعضنا بعضاً، تلك التي لم نرها ولم نر مثلها في قمة من قمم تجليها في صراعنا مع العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض وينتهك حقوقنا وشعبنا ومقدساتنا في كل يوم، ويعتدي علينا، ويسيء إلى كل رموزنا التاريخية والدينية والقومية والإنسانية من دون رادع. 

وما نراه ونسمعه ونتابعه هذه الأيام من حوادث وأفعال وأقوال ودعوات متشنجة في هذا الشأن من شؤوننا، أفعال وحالات يغذيها الحقد والجهل وقصر النظر، وهو مما لا يدخل في باب العبث وحسب، ومما لا يصنف في أبواب الحماقة أو حتى الجنون فقط، بل هو مما يقع في صلب دائرة الإجرام بحق شعب ووطن وأمة وعقيدة وقيم.. إجرام وحشي يقوده ويدفع باتجاهه ويؤسس له جهلٌ مطبق بمدى المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والوطنية والقومية والدينية وحتى الدينية عن الحياة والروح التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وهو نوع من التخلي المشين عن كل ما يمليه الواجب وحق الأوطان وجوهر الإيمان على الإنسان المدرك لأبسط مراتب إنسانيته ولأبسط ما يوجبه على المرء تصرف راشد متزن مسؤول ومقبول.

إن على من يسوسوننا أو من يتطلعون إلى أن يقوموا بذلك الدور في أوطاننا وحياتنا أن يتحلوا بدرجة مقبولة من الحرص الفعلي، " نظرياً وتطبيقياً"، على مفاهيم الوطن والمواطَنة والقيم وحقوق المواطن وعلى معاني كل ذلك ومبانيه ودلالاته في أدق مدركاتها، وأن يراعوا حدود كل فرد في إطار القانون والحرية المسؤولة والوعي بالآخر والاعتراف به، وأن يفقهوا شرط العيش جماعة، والشرط الإنساني والمصير الإنساني لمن يعيشون ويتعايشون في جماعة.. وعلى كل من يتنطع لهذه المهمة أن يحسن قراءة التاريخ واستخلاص العبر منه والاستفادة من الدروس التي مرت بها البشرية، وعليه أن يعرف أحكام الدين معرفة فقيه مؤمن وأن يسلك سلوك تقي ورعٍ عارف بالله، فيراعي في ذلك كله حقيقة أنه يقوم بأمانة أشفقت منها الجبال وقبلها الإنسان، وأنه يسوس شعباً ذا تاريخ حضاري طويل، وهو شعب متدين في أكثريته، أياً كانت عقيدته وطائفته ومذهبه، وأن هذا الشعب كان يعيش حالة فريدة من التسامح قدمها للعالم أنموذجاً وما زال يتعلق بها.. وأن على كل من أولئك أن يحافظ على شعب ضحى بدماء أبنائه وبجهده وثمرة أتعابه ليحصل على الاستقلال عبر مراحل النضال من أجل الاستقلال، وأنه يؤتمن على شعب بنى وشق طريق الثقافة والحضارة بجهود جبارة عبر آلاف السنين، فاستحق مكانه تحت الشمس بالعلم والعمل والسلوك والتسامح والتضحية والمحبة.. وسجل حضوره ذاك صفحات من الجهد والمجد، على الرغم من عداوات ومعتدين، وحروب عُداة جفاة صليبيين وغير صليبيين ومستعمرين متوحشين ذوي أنياب وأظافر، ولَغوا في دمه حتى انتصر دمه على سيوفهم وأجلاهم عن وطنه مهزومين، وبقي ذلك الشعب يُسرج شموع القلوب ليضيء دروبه إلى العيش بكرامة، رغم ظلم الحكام والإقطاع والتجار والساسة، ورغم القهر والفُجر.. ينير دروب الحياة بصبر وفهم، ويتغلب على الاستبداد بالجهد والصبر والجهاد.. وعليهم أن يدركوا جيداً أن خلاص هذا الشعب العظيم من الكوارث التي تحل به الآن لا يكون بالاستعانة عليه بسواه، ولا بإراقة دمه وإرهاقه وتشريده وإذلاله وتضييق سبل العيش عليه حتى لتنوء حرائره بولدها وأولاده بآبائهم وأمهاتهم، وينوء كلكله بحَمل من حمَّله هذا كله. وهو يدرك أن ما يجري أصبح في معظمه يجري ليتغلب فريق من الساسة يلبس قميصه على فريق منهم يرفع دمه وقميصه راية يحشد تحتها لينتصر بالحشد عليه، وليريق بالقوة دمه.

ألا اتقوا الله يا تجار الدم والدمع والشقاء والحروب والفتن.. اتقوا الله في الإنسان، في شعب كريم تعب منكم وشقي بكم، وهو يتوق إلى الراحة في أرضه بعد أن أدماه سلاحكم وكثُرت فيه الجراح بسببكم, وأضناه البحث عن أمن من جوع وخوف في وطن أضحت تغطي شفقه صباحاً ومساء رفوف أغربة فلا يشبع من جوع ولا يأمن من خوف.

والله المستعان على كل حال.

 

دمشق في 14/6/2013

 

                                                                       علي عقلة عرسان