خبر أبعد من تقسيم ..فهمي هويدي

الساعة 11:35 ص|12 يونيو 2013

الحدث التركى لم يكن وحده الذى فاجأنا خلال الأيام الأخيرة، لأننا فوجئنا أيضا بسيل الكتابات والفتاوى التى تعرضت له من جانب المتعجلين والمتصيدين والهواة، والأخيرون أصبحوا أكثر من الهم على القلب.

وهو ما لاحظه فى وقت مبكر الأستاذ أحمد بهاء الدين الذى أزعم أنه أحد أهم وأعمق الكتاب والمحللين السياسيين المصريين الذين ظهروا فى الخمسين سنة الأخيرة. حتى سمعته ذات مرة يقول إنه بعد ظهور الهواة فى الساحة فإنه بات يتساءل عما إذا كانت الكتابة لاتزال قيمة حقا، أم أنها أصبحت تعبيرا عن قلة القيمة؟!

يحضرنى السؤال بشدة فى الوقت الراهن، الذى تتسم فيه كتابات بعض الهواة بجرأة ملحوظة على المعرفة تقترن بشح فى التحصيل فضلا عن التدقيق، وجدت ذلك واضحا فى أصداء الحدث التركى المتمثل فى المظاهرات التى خرجت فى استنبول وأنقرة ومدن أخرى فى بداية شهر يونيو الحالى.

حين أسقط عليها كثيرون مشاعرهم ومواقفهم إزاء الحالة المصرية، واعتبروها مواجهة بين القيادات الدينية والمدنية، محورها قضية الديمقراطية، وهو ما أدعى أنه اختزال وتبسيط يبتسر الصورة ولا يساعد على فهم ما جرى، فى هذا الصدد أزعم أن فهم ما حدث فى تركيا يتطلب استدعاء بعض المعلومات الأساسية التى منها ما يلى:

• أن حزب العدالة والتنمية الحاكم ليس حزبا إسلاميا ولا هو جزء من الإسلام السياسى، رغم أن مؤسسيه ملتزمون دينيا، وأغلبهم انتمى فى السابق إلى حزب الرفاه الذى أسسه نجم الدين أربكان تحت اسم آخر (النظام الوطنى) فى عام 1970، لكنهم خرجوا من الحزب بعدما طوروا أفكارهم واختاروا أن يشكلوا حزبهم المستقل، الذى أرادوا له أن يكون حزبا علمانيا يضم المحافظين فى تركيا. وطبقا لاستطلاع للرأى أجرى فى سنة 2009.

فإن الذين يعتبرون أنفسهم «إسلاميين» من أعضاء الحزب لا تتجاوز نسبتهم 27٪، أى أكثر من ربع الأعضاء بقليل، أما الباقون فهم إما مواطنون مستقلون محافظون أو كانوا أعضاء فى أحزاب يمينية أخرى.

• تحفل الساحة التركية ولأسباب تاريخية يطول شرحها بالتيارات المتصارعة على مختلف الأصعدة السياسية والعرقية والمذهبية والفكرية. بحيث يمكن القول بأن البلد يعد خزانا للاستقطاب بمختلف أشكاله.

فثمة استقطاب المحافظين فى مواجهة العلمانيين، والليبراليين فى مواجهة اليساريين والثوريين، والسنة فى مواجهة العلويين، والأتراك فى مواجهة الأكراد. وهناك تعصب ضد الأرمن واليهود. وفى أوساط القوميين بقايا تعصب ضد العرب أيضا. وهذا التشتت كان أحد الأسباب وراء تتابع تشكيل الحكومات الائتلافية فى تركيا، الذى أسهم فى عدم الاستقرار السياسى طول الوقت.

وكانت أبرز فترات الاستقرار تلك التى أعقبت تولى حزب العدالة والتنمية للسلطة بعد فوزه بالأغلبية فى الانتخابات التى جرت عام 2002. بسبب من ذلك فإن أحزاب الأقلية والجماعات التابعة لها وقفت موقف المعارض له والمتربص به. ولأنها فشلت منذ ذلك الحين فى أن تتحداه فى الانتخابات، فقد أرادت أن تنقل التحدى إلى الشارع، وظلت شبهة الانتماء الإسلامى لبعض قادة الحزب الحاكم إحدى المطاعن التى توجه إليه فى كل مناسبة، حيث جرى اتهامه بالسعى للأسلمة تارة ولاستعادة الحلم العثمانى تارة أخرى، ولإقامة الخلافة تارة ثالثة.

• فى الآونة الأخيرة ظهرت عوامل أخرى للاحتقان أشاعت درجات مختلفة من التوتر والقلق فى المجتمع التركى ولدى الطبقة السياسية بوجه أخص، وكان الشأن السورى أحد أسباب ذلك القلق (فى تركيا الآن حوالى 300 ألف لاجئ سورى) ــ ولمعارضة موقف أردوغان من الثورة السورية ولمناكفته فإن حزب الشعب الجمهورى المعارض شكل وفدا ذهب للقاء الرئيس السورى بشار الأسد.

وعاد الوفد ليعلن أنه إذا كان بشار ديكتاتورا فأردوغان ديكتاتور أيضا. كذلك فإن حوار الحكومة مع الأكراد والتوصل إلى اتفاق لإلقاء السلاح مع قيادة حزب العمال الكردستانى أثار غضب القوميين والكماليين والعلمانيين المتطرفين وجميعهم كانوا ولايزالون ضد التصالح معهم أو الاعتراف بخصوصية هويتهم.

• هناك مصدر آخر للقلق فى أوساط الطبقة السياسية يتمثل فى سعى أردوغان إلى تغيير النظام البرلمانى إلى نظام رئاسى فى الدستور الجديد، يأمل أن يكون هو أول رئيس للدولة فى النظام الجديد، من خلال الانتخابات التى تجرى فى العام المقبل (2014).

من مصادر القلق أيضا فى بعض الأوساط أن هناك ضيقا بما يعتبره الناقدون «سلطة أبوية» يمارسها أردوغان أحيانا بحق المجتمع، دفعته مثلا إلى التدخل فى الحياة الخاصة للمواطنين، حين حاول عبر حزبه منع الإجهاض لأنه يريد أن يكون لكل أسرة ثلاثة أطفال على الأقل لرغبته فى زيادة عدد الأمة التركية.

هذه الخلفيات تكمن وراء المظاهرات التى خرجت فى بداية الشهر الحالى، والتى اعتبرها البعض انتفاضة شعبية ضد أردوغان وحزبه الحاكم ــ غدا بإذن الله نواصل.. ندخل إلى ميدان تقسيم ونكمل الحكاية.