خبر الأمن والحدود وصراع الوجود ..محمد السعيد إدريس

الساعة 11:32 ص|12 يونيو 2013

حتى الآن لم يفصح أحد عن الدافع الأساسي الذي فرض، أو أقنع، تلك اللجنة التي تعرف ب”لجنة المبادرة العربية” أن تذهب، فجأة وفي غمرة التطورات المتسارعة والمثيرة وشديدة الخطورة الخاصة بالأزمة السورية، إذ كل الاهتمامات كانت، وما زالت، متركزة على هذه الأزمة، تذهب تلك اللجنة إلى واشنطن لتقديم تنازل ينص على مبادلة أرض فلسطينية بأرض فلسطينية تحت زعم “مبدأ مبادلة الأراضي” . هل الدافع هو مجرد الحوار مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري حول ضرورة تحريك المسار الفلسطيني  “الإسرائيلي” المعطل، أو أن الدافع هو الموقف الأمريكي من الأزمة السورية الذي لا يرضي طموح أطراف عربية دخلت كأطراف مباشرة في الصراع من أجل إسقاط النظام السوري؟ أي أن ما قدمته هذه اللجنة من تنازل ليس من حقها تقديمه، ولا من حق السلطة الفلسطينية نفسها، لأنه من جوهر حقوق الشعب الفلسطيني وحده، صاحب القرار السيادي وحده دون غيره، ويجيء ضمن محاولة مقايضة هذا التنازل بمقابل أمريكي على هوى أعضاء تلك اللجنة بخصوص الأزمة السورية .

مثل هذا التساؤل يكشف عن مدى عمق صفقة الثقة بين قيادة النظام العربي، وبين ما يشغل الرأي العام العربي من أولويات وهموم، لكنه، وفي الوقت ذاته يجد ما يدعمه من ردود فعل “إسرائيلية” ترفض هذا المبدأ الذي يحمل اسم “مبادلة الأراضي”، لأن الحكومة الصهيونية على قناعة بأن الأرض، كل أرض فلسطين، هي أرض الشعب اليهودي، أي هي أرض “إسرائيلية”، فرئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، لم يرحّب بهذه المبادرة على نحو ما فعلت تسيبي ليفني وزيرة العدل المكلفة ملفّ المفاوضات مع الفلسطينيين، لذلك أسرع إلى تكليفها برئاسة وفد يذهب سريعاً إلى واشنطن لتقديم التحفظات “الإسرائيلية” العديدة على هذا الأمر، ومطالبته أولاً بالاعتراف ب”إسرائيل” دولة يهودية، ما يعني نزع الشرعية عن مواطنة مليون ونصف المليون من فلسطينيي الأراضي المحتلة العام ،1948 وإلغاء حق العودة لأكثر من ستة ملايين فلسطيني، أي طرد هؤلاء الفلسطينيين من وطنهم وسحب جنسيتهم وتوطينهم في الدولة الفلسطينية المزمع قيامها .

نتنياهو لم يكتفِ بذلك، بل طرح رؤيته للصراع مع العرب على فلسطين، وحدّد موقفه المبدئي من المشروع الأمريكي الجديد للتسوية الذي يتولى كيري تسويقه عربياً الآن . فحسب صحيفة “هآرتس” في عددها الصادر (2-5-2013)، امتنع نتنياهو عن التعقيب بشكل مباشر على مبادرة “تبادل الحدود”، وفسرت ذلك بأنه “يخشى أن يبادر جون كيري إلى تبني موقف جامعة الدول العربية من موضوع حدود الدولة الفلسطينية (حدود الرابع من يونيو عام 1967)، حتى لو تضمن ذلك الموافقة على مبدأ تبادل الأراضي، والسبب أن نتنياهو لا يوافق على أن تكون حدود العام 1967 أساساً للمفاوضات، ويعتبر ذلك (تنازلاً مسبقاً) من قبل “إسرائيل” قبل بدء المفاوضات”، وحسم نتنياهو الموقف برمته بإعلانه أن “الصراع بين “إسرائيل” والفلسطينيين ليس صراعاً على الأراضي، بل هو على حقيقة وجود “إسرائيل” دولة يهودية” .

بهذا المعنى يكون ما أعلنه النائب الفلسطيني بالكنيست أحمد الطيبي (القائمة الموحدة والعربية للتغيير)، أمام جلسة النقاش الخاصة التي عقدها الكنيست بخصوص عرض لجنة المبادرة العربية للقبول بمبدأ “تبادل الأراضي” صحيحاً ودقيقاً، ويدحض كل محاولات كيري للتلاعب بحقوق الشعب الفلسطيني، ففي مداخلته تناول الطيبي مبادرة كيري الحالية بالتحليل والنقد وربطها، وربط مآلها، بغيرها من المبادرات الأمريكية وغير الأمريكية السابقة التي فشلت جميعها أمام تعنت الحكومات “الإسرائيلية”، ووجه حديثه إلى نتنياهو قائلاً: “أنت قلت في خطاب في بار إيلان، إنك مع دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ولم تقل دولة فلسطينية وذات سيادة . الفلسطينيون يريدون دولة مستقلة مع حواسيب ومدارس وجامعات، ولا يسعون إلى تشكيل سلاح جو من 300 طائرة حربية، لكنك لا تؤمن بمبدأ الدولتين، وإزاء رؤيه الدولتين أو رؤيه الدولة الواحدة، دائماً تختارون الخيار الثالث، وهو الإبقاء على الوضع الراهن من دون أي تقدم” .

هذه المكاشفة هي عين الحقيقة، وهي تعرية لمواقف نتنياهو وفضح لخطة كيري ولكل من سيتعاملون معها، فالحقيقة التي يهرب منها الجميع أن نتنياهو وحكومته واليمين اليهودي المتشدد على قناعة كاملة بأن “الصراع ليس صراع حدود ولكنه صراع وجود”، فالصراع من أجل يهودية الكيان هو صراع من أجل وجوده، لأنه لن يستطيع البقاء طويلاً من دون التحصن بهذه الهوية التوراتية الصهيونية .

خطة كيري تخدم سواء يدري أو لا يدري المشروع “الإسرائيلي”، فرئيسه باراك أوباما أعلن عند زيارته السابقة إلى الكيان دعمه مطلب “إسرائيل دولة يهودية”، والآن يدعم كيري هذا المطلب ويوجه حديثه إلى الجنة المبادرة العربية بضرورة القبول بذلك تحت ذريعة “قطع الشجرة التي تسلق عليها نتنياهو وسحب كل الأعذار من بين يديه”، وهذه الخطة تعزف على أنغام نتنياهو التي تربط الحدود بالأمن، وهو ربط ليس له مثيل في أي مكان في العالم، إذ لا توجد دولة في العالم تقول إن حدودي تبدأ عند نقطة تحقيق الأمن المطلق، سواء كان هذا الأمن يمتد إلى داخل حدود دول أخرى مجاورة أو لا، وليس أدل على ذلك، سوى اقتراح كيري “السيطرة الثلاثية” على غور الأردن .

خطة كيري تشمل أيضاً آليات للتحقيق، أولها المسار الأمني الذي يجب أن يعالج كل الهواجس الأمنية ل”إسرائيل”، والسعي إلى حلها . وثانيها المسار الاقتصادي بدعم الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني ضمن ما يعرف ب”السلام الاقتصادي”، أما المسار الثالث فهو المسار السياسي الذي يعني حل المشكلات السياسية لإنشاء دولتين تعيشان بسلام، وهنا تأتي دعوة كيري إلى فرض سيطرة ثلاثية “إسرائيلية”  أردنية  فلسطينية على غور الأردن، كمدخل لربط الحدود بالأمن “الإسرائيلي”، بما يؤكد أن كيري لن يقدم شيئاً يتعارض مع ما يريده نتنياهو، وأن مشروعه محكوم عليه بالفشل، لأن نتنياهو يخوض صراع وجود وليس صراع حدود، لكن الطامة الكبرى أن هذه الرسالة لم تصل بعد إلى لجنة المبادرة العربية .