خبر سد النهضة وحرب الاستنزاف الثانية‏!‏.. صلاح سالم

الساعة 04:38 م|09 يونيو 2013

صلاح سالم ـ الأهرام المصرية ـ 9/6/2013

ارتبطت حرب الاستنزاف‏ (‏الأولي‏)‏ بإسرائيل وطالت لسنوات مؤلمة‏,‏ أرادت خلالها مصر أن تتجاوز أزمة الهزيمة العسكرية في يونيو‏1967‏ م‏,‏ من خلال عمليات نوعية تفت في عضد العدو وتستنزف قواه وغروره‏,‏ فيما تستعيد لقواتنا المسلحة نوعا من الثقة بالنفس تقيها حال الانكسار‏,‏ ولشعبنا درجة من الكبرياء تحميه من التفتت‏.‏

مرت عقود ست ونيف, شهدت نصر أكتوبر المجيد, كما شهدت تدهور الأحوال بعدها بفعل الفساد والاستبداد, وانتهت بثورة شعبية( مدنية) تطالب بالحرية والكرامة الإنسانية, فإذا بمصر بعد أقل من عامين ونصف العام تواجه حرب استنزاف ثانية بين القوي المدنية, والإسلامية, تبدو مصر خلالها وكأنها في رحلة بحث جديدة عن خلاصها, رهينة لأصدقائها الماكرين, فريسة لأعدائها المتربصين, غير قادرة علي قيادة محيطها, أو التأثير فيمن حولها, تسعي فقط للدفاع عن نفسها ضد محاولات تعطيشها من قبل صغار صاروا يستأسدون عليها, ويبنون سدودهم فوق جسدها.

في يونيو1967 م أودي بنا التعويل علي أهل الثقة لا الخبرة إلي ضياع الاحترافية السياسية, كما أدي تغول الجيش علي الحياة المدنية إلي فقدان الاحترافية العسكرية, وصولا إلي الهزيمة, فكانت حرب الاستنزاف الأولي. وفي يونيو2013 م ساقتنا النخبة الإسلامية, بفعل عجزها الكامل عن إدارة البلاد, وافتقادها للخبرة والشعور بالمسئولية الوطنية معا, إلي حرب استنزاف ثانية تكاد تدفع بنا إلي الهزيمة السياسية أمام دولة صغيرة كإثيوبيا, نعاني في موجهتها كثيرا من الضعف والارتباك وقلة الحيلة.

إحدي السمات الأساسية لحرب الاستنزاف تتمثل في اعتمادها علي توازن الضعف لا القوة, فإذا كان توازن القوة يردع طرفين عن الدخول في الحرب, أو يسمح بانتصار أي منهما حال التورط فيها, فإن توازن الضعف لا يوفر هذا الردع كما لا يسمح بذلك الانتصار, ولذا تطول حروب الاستنزاف بحسب قدرة طرفيها علي تحمل خسائرها. ولعل هذه هو حال الحكم الإسلامي, فلا الرئيس, والجماعة من خلفه, قادرون علي المضي سريعا في مشروع التمكين, الذي يعدونه لازمة أساسية ومقدمة ضرورية لمشروع النهضة, ولا هم راغبون في القيام بأي جهد حقيقي للنهوض بمصر قبل التمكن منها, لأنهم لا يرغبون في زرع شجرة ربما تثمر في حديقة غير حديقتهم, أو يتذوق ثمارها غيرهم.

والحقيقة أن مشروع التمكين يواجه طريقا مسدودا بفضل الممانعة العميقة والشاملة لجل المصريين, المشبعين والمتشوقين للوطنية المصرية التي رمتها الجماعة بمقولة( طز), بدءا من كبار السياسيين مرورا بشباب الثورة الذين يهتفون في كل ميدان, ويتمردون في كل شارع, وصولا إلي الأطفال المشاكسين الذين يلقون القصائد ويكتبون في الكراريس بأيديهم الصغيرة ما يكشف عن احتقان فطري, لا يمكن تفسيره إلا بكونه نداء الحرية الصامت والعميق. والبادي هنا أن المجتمع المصري أكثر حداثة مما كان يعتقد البعض, وإن كان لا يعبر عن حداثته هذه بوضوح في أشكال التعبير الثقافي الأكثر صراحة, فإنه يستميت في الدفاع عن نمط حياته اليومي المعتاد والموروث, المتفتح والمتسامح, الذي صاغته طبقات متراكبة للدولة الوطنية, والمدنية المصرية خصوصا فيما يتعلق بقضايا المرأة ولباسها وحضورها. ناهيك عن الممانعة النابعة من أحلام الثورة التي لا تزال تمثل جذوة ثاوية في أرواح المصريين.. وإزاء انعدام قدرتها علي المضي في مشروع التمكين, وانعدام رغبتها في العمل من خارجه, تعاني الجماعة من العجز رغم موقعها في الحكم, وهو أمر ربما يفسر شكواها من التآمر عليها, ولعل تغولها علي مؤسسات الدولة يعكس نوعا من الشعور العميق بالقلق والضعف تحاول أن تغطي عليه بمظاهر قوة زائفة لا تعدو أن تكون نوعا من الحركة في المحل, هي مزيج من الترقب والتوتر معا.

وفي المقابل تعاني المعارضة الحالية كل أمراض المعارضة التقليدية عندما تكون مجمدة في ثلاجة التاريخ بفعل نظام قائم طالما رآها عميلة للخارج, ومارقة ضد الوطن, فحرمها من القول عندما أصم أذنه عن السمع, وحرمها من الفعل عندما رفض الاستجابة لما تبادر به أو تدعو إليه. كما تعاني جبهة الإنقاذ, بالذات, من أمراض خاصة بها تتعلق بتركيبة قياداتها, فجميعهم مشروع زعيم محتمل, كان بالفعل مرشحا رئاسيا, أو يتوقع أن يكون مستقبلا, علي نحو يجعل من مجرد توافقهم هدفا بحد ذاته, خصوصا وأنهم يخضعون لضغوط جماهيرهم وأنصارهم من الشباب المفعمين بأحلام الثورة, المفتقرين لآفة عبادة القادة, والرافضين لقانون السمع والطاعة, الأمر الذي يدفعهم, أحيانا, إلي الوقوع أسري لمطالب الشارع.. وهكذا تبدت المعارضة عموما, والإنقاذ خصوصا, أسيرة عجزها الهيكلي سواء عن مواجهة مسارات الحكم المتجهة نحو التمكين, أو عن طرح بديل متماسك له, يلقي القبول وتتوافر له الجاذبية, ومن ثم تعطلت قدرتها علي حشد الشارع في ميادين الثورة انقلابا علي النظام, بقدر ما تباطأت حماستها في دفع الجماهير إلي صناديق الاقتراع أملا في تغيير الحكومة.

في هذا السياق تبدو مصر في متاهة سياسية كبري, تتبدي معها كجسد بلا رأس, وتتحرك من دون تفكير أو تخطيط, تدير شئونها علي نحو يومي مثل عامل أجير يعمل باليومية, من دون أهداف مستقبلية واضحة أو غايات كبري مقصودة, يلفها توازن الضعف المفضي إلي الجمود, وتحكمها تكتيكات ممانعة تتبدي كأمضي الأسلحة لدي الطرفين المتصارعين عليها, حيث الوقت هو العامل الحاسم في الصراع, يعول كل طرف علي استهلاكه أملا في أن تتآكل مواقف الطرف الآخر تدريجيا دون جهد خلاق يبذله, أو تنازل سياسي يقدمه. وربما استطاع طرف أن يخسر أقل من الآخر بفعل ضغط الحوادث وتسارعها, وقوة فعل الأطراف الأخري داخلية أو خارجية. وربما تصور هذا الطرف أو ذاك أن صغر حجم خسارته, قياسا إلي الآخر, يعد مكسبا. غير أن هذه التكتيكات لا يمكن نسبتها إلي النجاح بأي معيار, فالحقيقة الكبري أن الجميع خاسرون, وأن ما تعيشه مصر الآن من عجز ذاتي وارتهان لإرادات الآخرين ليس إلا تكرارا لواحدة من تلك اللحظات المنكوبة في تاريخها الطويل, حيث كانت الهزيمة العسكرية أو الانكسار السياسي, ولعل هذا هو سر شعور المصريين جميعا بالضياع, وإحساسهم بالاكتئاب.