خبر تركيا تغلي.. اسرائيل اليوم

الساعة 10:36 ص|07 يونيو 2013

بقلم: بوعز بسموت - اسطنبول

(المضمون: ان ما يحدث في تركيا الان يختلف عما رأيناه في مصر او في ليبيا أو في تونس لان تركيا برغم كل شيء هي ديمقراطية تختلف عما كان موجودا في الدول المذكورة - المصدر).

كانت تركيا هذا الاسبوع في مقدمة العناوين الصحفية. فقد تحولت من دولة حصلت من واشنطن على عمل الشرطي الاقليمي والبالغ المسؤول في الشرق الاوسط غير المضطرب وغير المستقر جدا، الى ميدان صدامات عنيفة بين قوات الامن وعشرات آلاف المتظاهرين. فقد تحول احتجاج سلمي بدأ من اجل حماية البيئة في اسطنبول الى اضطرابات دامية في انحاء الدولة جبت ايضا حياة ثلاثة مواطنين.

ان خطة تحويل متنزه غازي – وهو الرئة الخضراء للمدينة التي يسكنها 17 مليونا – الى مشروع تظاهري يشتمل على مجمع تجاري وسلسلة مبان ومسجد ضخم، على حساب المركز الثقافي المسمى باسم اتاتورك، كانت كبيرة جدا بالنسبة لملايين السكان. لا يعني هذا انهم لم يكونوا معتادين من قبل على خطط رئيس البلدية قادر توباز، صديق اردوغان الشخصي، بيد انه فضلا عن حقيقة ان الخطة البلدية اصبحت القشة التي كسرت ظهر البعير كان الاسلوب هو الذي لم يعجبهم.

اصبح نصف السكان على الاقل يرون منذ زمن ان اردوغان مستبد في الاساس. بيد ان النصف الثاني ممن صوت له في المعارك الانتخابية الثلاث الاخيرة ربما صوت له بسبب ذلك خاصة. ومهما يكن الامر فانه يمكن ان نوجز احتجاج هذا الاسبوع بانه احتجاج على ديمقراطية اردوغان وهي ديمقراطية ذات عضلات.

ان احتجاج هذا الاسبوع بعيد عن ان يطرد اردوغان من السلطة. فتركيا ليست مصر أو ليبيا أو تونس أو البحرين. وتركيا ديمقراطية من جميع الجهات وان كان اردوغان كما قلنا من قبل يراكم صعابا.

تحولت تركيا الى ديمقراطية تعرف كيف توجه لكمة حينما يحتاج الى ذلك، أو حينما لا يحتاج في الاساس. بيد ان احداث هذا الاسبوع خاصة أضرت بصورة تركيا في العالم، وهذا شيء مهم جدا لنظام يريد ان يكون قدوة بل يرى نفسه انه القوة الجديدة في فترة اخذت تفقد فيها امريكا من قوتها.

ان الاضطرابات في ميدان تقسيم والقوة الكبيرة التي استعملت على المتظاهرين احدثت شرخا عميقا فيما يحبون تسميته "النموذج التركي" – وهو نموذج بناه رئيس الوزراء ببطء وصبر واصبح فخر اردوغان وحزب العدالة والتنمية. وتبين للجميع فجأة مبلغ انقسام المجتمع التركي، ومبلغ عدم سهولة التأليف بين النمو الاقتصادي السريع والحكم التسلطي والتركيزي. وينبغي ان نضيف الى ذلك الصعاب التي يلاقيها اردوغان في إملاء ارادته في الساحة الدولية أو في الساحة الاقليمية خاصة.

"مشكلة اردوغان الكبرى هي انه لم يفهم أهواء الشارع"، تقول لي كارن وهي محاضرة في اللغات في جامعة اسطنبول تتابع الاحداث الاخيرة بتشاؤم كبير. "عامل المتظاهرين غير المعنيين اصلا بالسلطة بشدة وكذلك الشباب الذين لا يصوتون لا لليمين ولا لليسار وهم في رأيي لا يصوتون ألبتة. لكن مدينتهم ببساطة تهمهم. ورد هو بالغاز المدمع والهراوات".

ان تركيا دولة شابة. واعمال 70 في المائة من السكان أقل من 23 سنة. ويأتي طلاب ثانويات كثيرون كل مساء للتظاهر بموافقة الوالدين. زرت أمس مدرسة ثانوية في شمال شرقي المدينة. والحديث عن مدرسة خاصة يدرس فيها اولاد الاغنياء. وتوحي المدرسة بالليبرالية وقد قال لي طلاب كثيرون ان آباءهم صوتوا لحزب اردوغان لاسباب اقتصادية.

"ضقت ذرعا بسماع اردوغان يتحدث طول الوقت عن انجازات اقتصادية وضقنا نحن الجيل الشاب ذرعا بسماع آبائنا يكررون النغمة نفسها"، يقول لي إسوار، وهو طالب في السابعة عشرة يريد ان يدرس الحقوق بعد تأدية امتحانات الثانوية العامة. "عند جيلنا شيء أهم من المال هو الحرية. واردوغان عند جيلنا ليس ديمقراطيا. اريد ان اعيش في مجتمع تستطيع فيه وسائل الاعلام ان تبث وتؤدي التقارير عما يحدث في الدولة حقا".

وبمناسبة ذكر وسائل الاعلام ربما يمكن الآن ان ننسب الى المتظاهرين انجازا اول وهو ان وسائل الاعلام في تركيا التي تجاهلت التظاهرات تماما تقريبا – ما عدا قناة واحدة (شبكة هالك تي في) – بدأت فجأة تنقل تقارير من الميدان بل تُسمع كلام المحتجين.

لا شك في ان التظاهرات قبالة مكاتب قناة ان.تي.في الموالية لاردوغان وقبالة الصحيفتين اليوميتين المركزيتين، ملة وحرية، أدت دورها، فقد اصبح للاحتجاج فجأة وجه وصوت. كان الشباب يُعرضون الى بدء هذا الاسبوع على انهم ارهابيون. واحتاجوا الى عدة ايام في الجزء الآسيوي من المدينة حيث يتابعون الاحداث على شاشات التلفاز لفهم ما يحدث.

اردوغان في مقابلة اتاتورك

"تظهر صورة اتاتورك والد تركيا الحديثة والعلمانية في ميدان تقسيم لأنه الضد الخالص لاردوغان"، تقول لي اديت اوتشيران، مديرة المدرسة. "كان اتاتورك في الحقيقة ايضا متسلطا بيد ان اردوغان هو الذي أدى بالمواجهة الى الصدام والى ان تصبح مسألة دينية"، تقول. "ان اردوغان هو الذي ادخل عنصر الدين في كل مكان تقريبا في حين فعل اتاتورك عكس ذلك بالضبط".

وتريد اوتشيران ان تبين "لا يعني ذلك أننا لا نحترم الدين الاسلامي. نحن اتراك مسلمون لكننا لسنا جمهوريين متدينين. والى ذلك اهتم الجيش في تركيا التي نشأت فيها بالحفاظ على الديمقراطية وعلى التوازن وعلى كف جماح السلطة. لكن اردوغان خصى الجيش. ان 20 في المائة من جنرالاتنا مع 80 صحفيا موجودون في السجن.وكل ذلك كي يحكم اردوغان وحده ونحن نقول لكل هذا اليوم: لا"، تقول في رفض.

ان مسألة الدين مهمة حينما يتعلق الامر بالاضطرابات في تركيا وإن لم تكن مركزية ايضا. في يوم الاثنين حينما كانت الاضطرابات أشبه بمهرجان موسيقى مع الكثير من الجعة المحلية، خطب اردوغان خطبة متحدية جدا اختار فيها ان يبشر بانشاء مسجد سيبنى بقرب المكان الذي يوجد فيه الآن مركز اتاتورك الثقافي.

وأضيفت الى هذه الخطبة قوانين مثل الحد من بيع الخمور، والحد من الاجهاض، وحظر التظاهر في الاول من ايار (ليس أمرا دينيا)، وسلسلة قرارات مغضبة اخرى، ولن نتحدث عن الحد من حرية التعبير والنظر الى الشبكات الاجتماعية باعتبارها عدوا.

وكما قلنا آنفا فان عدم تسامح اردوغان واسلوبه هما اللذان جعلا المتظاهرين الكثيرين يضيقون ذرعا به.ادركوا في اسرائيل مثلا منذ زمن ان اردوغان يستمتع في احيان كثيرة بأن يسلك سلوك أزعر لا زعيم. وقوله انه يستطيع ان يجد مليون مؤيد في مقابلة 100 الف متظاهر الذين خرجوا الى الشوارع يرى هنا تهديدا حقيقيا لا من زعيم بل أزعر. "نحن في تركيا نفخر بماضينا وحاضرنا وبحقيقة أننا أمة واحدة. ويأتي اردوغان فجأة فيقسمنا الى معسكرات متعادية. نحن دولة ديمقراطية ويجوز لنا ألا نوافق. لكننا لن نُمكن من جعلنا أعداءا"، يقول لي ممات كمال وهو طالب هندسة عمارة.

ويبين لي اولغون اسات وهو نشيط اجتماعي شاب في الـ 21 من عمره يأتي الى الميدان كل مساء أنه يكفي اعتذار واحد من اردوغان وفهمه انه ربما بالغ شيئا ما كي تسكن النفوس. ومع ذلك يعتقد ان اردوغان يحب المواجهات مرة مع فرنسا ومرة مع المانيا ومرة مع اسرائيل والآن مع أبناء شعبه.

ان المواجهات الشديدة وقعت على مبعدة سير على الاقدام عن المنطقة الاكثر سياحة في اسطنبول وعلى مسافة قصيرة من شارع الاستقلال المعروف، وهو شارع البوتي كات الاحب الى الطبقة الوسطى في الشرق الاوسط التي يأتي ناسها الى هنا كي ينسوا المشكلات في الاوطان. ونقول بالمناسبة ان من المثير ان نرى ان المتظاهرين حموا الحوانيت التي بقيت طائفة منها مفتوحة في اثناء المظاهرات كما كانت الحال في مصر في اثناء ثورة التحرير، ولم تتضرر ألبتة واجهات العرض إلا واحدة.

يكون التجار خاصة في الغرب هم اول المتضررين بموجات العنف (كما كانت الحال مثلا في لندن وبرشلونة وباريس). اما الضرر هنا فيتوقع ان يكون غير مباشر: لا بالحجارة بل بنقص عدد السياح. واشتكى حتى بائعو الكستناء على مسامعي قائلين انهم يفضلون العمل في جو اكثر هدوءا ويقولون "نحن اصلا نبيع السلعة كلها".

هل يوجد بديل

لا شك ان اردوغان اصيب بهذا الاسبوع بضربة شديدة لصورته. فقد كانت أنقرة تعرض على العالم الى هذا الاسبوع نموذجا ديمقراطيا حقيقيا في دولة مسلمة تستطيع أن ترضي مواطنيها، كل مواطنيها. وتبينت فجأة حدود ذلك النموذج الرفيع. وقد تحول "النموذج المقتدى به" لاردوغان الى "نموذج قمع".

سيصبح اصعب على اردوغان الان أن يروج لنموذجه في رحلاته في العالم ولا سيما في العالم العربي. وينبغي أن نفرض انه واجه تلك الصعاب في المغرب والجزائر وتونس حيث كان يفترض ان يصلها مثل مخلصٍ ومقدم نصائح، وكان هو الذي تلقى آخر الامر من ملك المغرب نصيحة أو اثنتين تبين كيف ينبغي الحفاظ على المملكة.

لكننا بعيدون جدا عن تأبين اردوغان لان تركيا كما قلنا من قبل ديمقراطية خالصة. في الحقيقة ديمقراطية مطيعة تنبغي فيها اطاعة القواعد (وبخاصة من قبل الصحفيين – ففي تركيا من الصحفيين المعتقلين اكثر مما في ايران والصين). لكنها ما تزال ديمقراطية.

في ساعات النهار تذكرنا تظاهرات الاحتجاج بذلك الاحتجاج المشهور في جادة روتشيلد حيث حب الطعام والموسيقى العالية وجو "الجميع اخوة" بجنب الخيام. وقد يسجل الشباب انجازا جديدا يضاف الى امتداح الصحافة. وقد تكون السياسة الجديدة لتركيا منتظرة في الزاوية ايضا.

اما البديل الان فهو كليتش داراولو زعيم حزب العمال التركي الذي لا ينجح في الارتفاع لا في الانتخابات ولا في استطلاعات الرأي. ونقول بالمناسبة ان هذه مزية اخرى لاردوغان وهي أنه ليس له منافسون في تركيا الحديثة. ان التجار في اسطنبول يشربون الجعة ويصوتون لاردوغان، اردوغان جيد للجيب والاقتصاد. ولا شك في انه قصة تركيا الكبرى منذ نحو من 11 سنة. يمكن أن تحبه ويمكن ان تكرهه، ولكن لا يمكن أن تبقى غير مكترث به. ويبدو أن هذا بالضبط ما يريده.

قوة حضور سلحفاة

عرف اردوغان دائما كيف يكون انتهازيا غير صغير. فحينما أدرك ان الاتحاد الاوروبي غير متحمس لانضمام تركيا للاتحاد توجه الى زعماء العالم العربي وأنشأ علاقات بهم. وراهن اردوغان على القذافي والاسد وابن علي لاسباب اقتصادية ايضا. ولم تكن عنده مشكلة لطرحهم للكلاب والتوجه الى الشعوب حينما رأى تغييرا.

وكذلك الامر ايضا في السياسة الداخلية. في كتاب آندرو مانغو الممتاز "أتاتورك: السيرة الذاتي لمؤسس تركيا الحديثة" يصف في فصل عن اسطنبول كيف كان رئيس البلدية في 1994 وهو نفس اردوغان الذي نعرفه يحلم بانشاء مسجد في ميدان تقسيم نفسه. بيد أنه أدرك آنذاك ان الامر لم يتقبل بشعبية زائدة فاستقر رأيه على أن ينسى الامر.

"هذه هي النقطة بالضبط وهي أنه لم ينسَ الامر"، تبين لي صحفية محلية وهي واحدة من منظمي الاحتجاج تريد أن تبقى مجهولة الاسم. "هو يعرف بالضبط ما الذي يريده وهو كالسلحفاة – ينصب هدفا ويحرزه حتى بايقاع بطيء. يمكن الان أن نرى هل ستتحقق مطامح اردوغان السياسية في المستقبل – الرئاسة – او تكون الطريق الى هناك مرصوفة بالصعاب.

"يفخر اردوغان دائما بحقيقة أنه نشأ في اسطنبول"، تضيف. "في حي كاسوم باشا قريبا جدا من ميدان تقسيم وقد نشأ في حي فقير وقُبل في مدرسة دينية بالمجان. من المؤسف جدا ان مدرسة عادية لم تعطه هبة دراسية لانها لو فعلت لكانت حياتنا اليوم أسهل".

وفي هذه الاثناء اصبحوا في واشنطن مضغوطين يدعون السلطة الصديقة للامريكيين الى التصرف بضبط للنفس، وعيون العالم العربي ايضا تتطلع الى تركيا. من المحرج جدا لهم انه بعد ان حطم ربيع الشعوب العربي حلمهم بالديمقراطية أتى اردوغان وحطم حلمهم بديمقراطية هادئة ووديعة ذات شعبية في دولة مسلمة.

واقول بالمناسبة انني أجريت هذا الاسبوع استطلاعا للرأي صغيرا في شوارع اسطنبول وسألت كل شخص  أجريت معه لقاء تقريبا من سيفوز اذا اجريت انتخابات في تركيا فاجاب 100 في المئة منهم بلا تردد: اردوغان.