خبر وإذا كانت النفوسُ كبارً - علي عقلة عرسان

الساعة 07:27 ص|05 يونيو 2013

لافت للنظر دخول مؤتمر جنيف 2 في ضبابية كثيفة من حيث مشاركة المعارضة السورية فيه، و من حيث موعد انعقاده وإمكانية ذلك الانعقاد أصلاً، وتكرار محاولات محاولات إرجائه.. فبعد أن كان الموعد المحتمَل المعلن، بعد اجتماع كيري ولافروف، هو قبل نهاية شهر أيار/ مايو أصبح على لسان ديفيد كاميرون ولوران فابيوس في شهر تموز/ يونيو 2013.. فهل ذلك لتذليل صعوبات تعترض المعارضة السورية من حيث اتخاذ قرار بالمشاركة والاتفاق على تشكيل الوفد المشارك، أم هو توافق لكسب وقت يتم خلاله تزويدها بأسلحة نوعية، بعد قرار الاتحاد الأوربي رفع الحظر عن توريد السلاح النوعي إليها؟!.. مع أن عملية توريد السلاح مستمرة في أرض الواقع ولا علاقة لها بالحركة الإعلانية التي تمت مؤخراً في بروكسل؟! أم أن السبب يكمن في خلافات بين رأسين عربيين نافذين يمولان المعارضة ويسلحانها، وقد تعارضت رؤاهما ومواقفهما ووصلت حد تعطيل القرار في مؤتمر اسطنبول الأخير، بعد التطورات الأخيرة في ميدان المعركة "سورية"، حيث الجيش العربي السوري يتقدم، وحزب الله يتدخل في القصير، وبعد أن اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً بوضع جبهة النصرة على قائمة الإرهاب الدولية.. فأصبحت المواجهات الداخلية بين قوى المعارضة مطلباً لمن يرعاها؟!

كل تلك عوامل تدخل في الاعتبار عند مقاربة الأسباب، ولكن لا يمكن إهمال أمرين رئيسين يتجليان في المعطيات والوقائع: رغبة المعارضة ومن يقفون خلفها في تحسين وضعها على الأرض لتعزيز موقعها/موقعهم في جنيف، والخلافات العميقة التي تشل المعارضات السورية المسلحة وغير المسلحة وتمنعها من تكوين رؤية مشتركة فضلاً عن تكوين وفد موحد لها.. هذا إضافة إلى اختلافات جذرية حول الأهداف والوسائل أخذت تغذيها بقوة خلافات الممولين والمسلِّحين والمخططين والرعاة والحاضنين. فريق دولي واحد مرتاح لكل ذلك هو الفريق الغربي وحليفه الصهيوني الذي يرغب في استمرار تدمير سورية وكل القوى التي يريد تدميرها على الأرض السورية، وإن كان يحرص نسبياً على ألا تتوسع دائرة الصراع وتنتشر خارجها وتصبح الأمور خارج السيطرة.. ولكن ذلك ليس من الأمور التي يمكن التحكم بها لأن النسيج السكاني والعقائدي في المنطقة متداخل، ولأن الطابع الطائفي ـ المذهبي الذي أخذ يصبغ بعض المواجهات بلونه ولن يترك أحداً من العرب والمسلمين خارج دائرة الصراع بشكل من الأشكال إذا ما استفحل، وسيجر كثيرين إلى شراك الاشتباك الدامي وسعير الفتنة.

لقد تمكنت " إسرائيل" ومعها الحركة الصهيونية والغرب الاستعماري من أن تجعل معركتها مع إيران وملفها النووي على وجه التحديد، ومن ثم مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية وسورية الداعمة لهما، بعد حرب تموز 2006 قضية خليجية ثم عربية في دوائر معينة، أخذت تتسع شيئاً فشيئاً ووتحول في مادتها إلى كلام في التطرف والغلو المذهبي، ورافق ذلك شحن ديني واجتماعي ومذهبي بغيض " شيعي ـ سني"، وحشد للرأي العام في هذين الاتجاهين، وفعل سياسي وديبلوماسي وإعلامي على الخصوص يستثمر فيه كثيرون، ويؤجج النار ويثير النعرات المقيتة في مجالات كثيرة، ابتداء من السياسة وانتهاء بفضاء الأنفس وبواطن القلوب. وترافق ذلك مع تدابير وترتيبات أمنية وعسكرية ابتداء من تكوين الميليشيا وتدريبها وانتهاء بتكوين "الجيش المسلح" ونصب بطاريات الباتريوت وجلب المتدخلين الأجانب، وأصبح كلٌ يتحين الفرص، وأعداء الأمتين يهيؤون الظروف والبيئة والأدوات.. إلخ، لكي تستعر نار الحرب بالوكالة، فترتاح "إسرائيل" وتنتصر وتهيمن وتبسط سيطرتها على الأرض والشعب بعد التهويد التام للقدس وفلسطين والجولان.. بينما يقتتل أشاوس العرب والمسلمين بضراوة الوحوش، تحت راية الدين.. والدين من حربهم وفكرهم ودمهم وجهادهم واجتهادهم براء، براء، براء.. لأنه مادام يجمع المسلمين كافة القرآنُ الكريم والشهادتان وأركان الإسلام والرسول " ص" وسنته المطهرة.. فما معنى أن تكون الخلافات على غير ذلك مفرِّقة لهم، وهي في جذرها خلافات سياسية بدأ رسيسها في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة الرسول الكريم الذي أكمل للملسمين دينهم في حجة الوداع، وبنى على ذلك الخلاف السياسي من بنى.. وحسابه على الله. وبحثنا في ذلك يجب أن يبقى في إطار التاريخ لا العقيدة المكتملة.!؟ إن من يعزفزن ألحاناً دينية _ عقدية على أوتار سياسية وعرقية وقبلية ومصلحية و.. و..  يجرُّون المسلمين إلى الكوارث، وينسبون للإسلام ما ليس فيه، ويحملون أنفسهم وغيرهم بسبب ذلك ما لا يعقل ولا يطاق. وهم في فعلهم الذميم ذاك معنيون باستعادة جاهلية جهلاء في عصر الهندسة الوراثية وغزو الفضاء، ينقعون أنفسهم وعقولهم وينقعون سواهم في ثارات وقعتي الجمل وصفِّين اللتين ألحقتا بالإسلام والمسلمين ما ألحقتاه بهم من ضعف وحقد عقابيل دماء وجراح ما زالت قابلة لأن تُنكأ فتعود بالحرب جَزَعَة؟!.. يتشهّون حرباً هي فتنة كبرى لا تبقي منهم ومن بلدانهم وأجيالهم وثقافتهم وحضارتهم.. ولا تذر، فتنة حذرنا الله سبحانه وتعالى منها، فقد ﭧ ﭨ ﭽ ﯱ  ﯲ  ﯳ     ﯴ  ﯵ  ﯶ   ﯷ  ﯸﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯾ  ﯿ   ﭼ الأنفال: ٢٥ وحذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث، و   قال: من حمل علينا السلاح فليس منا   صحيح البخاري 6659، وبشأن من يشهدها"  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به   صحيح البخاري 6670 عن أبي هريرة .. وقال عمرو بن معدي كرب الزَّبيدي في الحرب التي يتشهونها ويبعثونها " مقدسة" بينما تلقيهم في الفتنة والكوارث:

الحَربُ أَولُ ما تَكونُ فتيَةٍ       تَسعى ببزَتِها لِكُلِ جَهولِ

حَتّى إِذا حَميت وَشبَّ ضرامُها       عادَت عجوزاً غَيرَ ذاتَ حَليلِ

شَمطاءَ جزت شعرَها وَتَنَكَرَت       مكروهَةٍ للثمِّ وَالتَقبيلِ

وهي حرب إلى الجهل والجاهلية والغي والطغيان والعَمَهِ أقرب منها إلى الإسلام والقرآن والعقل والعدل. 

 إن التحالفات التي تغرقنا في الموت والفتنة وتقضي علينا وعلى ديننا ليست في صالح أحد، ولا ترفع من شأن أحد، وليست من الدين في شيء، ولا ترضي الله سبحانه في شيء.. إنها إفلاس الروح والعقل ودليل هشاشة الإيمان، ونتاج سياسات لا تضع في اعتبارها أية قيمة للأخلاق والمسؤولية العليا عن حياة البشر وحقوق الناس وسلامة الأوطان.

لقد حقق التحالف الصهيوني ـ الغربي ما أراد، وجر إليه عرباً طالما جرهم إلى حروب كانوا فيها الخاسرين والضحايا والذي يتحمل التكاليف والتبعات ومع ذلك كله يبقى يلهث وراء مورّطيه بحثاً عمن يحميه مما جره "حُماتُه" عليه من قلق وخوف وخسارات وضياع. وقد أسفر التحالف الغربي ـ الصهيوني المشار إليه بالمقابل.. أسفر عن تكوين محور طهران بغداد دمشق "بيروت الضاحية الجنوبية"، وعن غليان طائفي ومذهبي في المنطقة أخذ يشتد في دول الجوار العربية والإسلامية، ومن ثم فتَح الطريق أمام محاور دولية تتكون وتبرز وتقوى، وهي تطالب منذ زمن بإنهاء القطب الوحيد الطرف " الأميركي" المسيطر على السياسة الدولية وتتحين الفرص.. وها هي تفرض ذلك على أرض الواقع في مجلس الأمن الدولي والمؤسسات والهيئات الدولية الأخرى، ولقد أصبح لدينا الآن كتل دولية لا تدول الأزمة السورية فقط وإنما تضع العالم على مشارف مواجهات قد تصبح دامية، فهناك الآن حلف الأطلسي ومن هم في فلكه، وهناك مجموعة بريكس، ودول في أميركا اللاتينية، وبلدان عربية وإيران، ودول أخرى في آسيا وإفريقية.. إلخ، العالم كله تململ واهتز وتغير على وقع ما يدور في سورية بشكل خاص والمنطقة بشكل عام.. وما نراه ونلمس نتائجه اليوم من تناذر للأزمة السورية في بلدان المنطقة ما هو سوى نُذُر بتفجر أزمات وصراعات وحروب لا سمح الله..!؟ وحدهم بعض الساسة العرب ضاعوا وضيعوا وغرقوا في ثارات وأحقاد ومتاهات، وقدموا أموالهم للشيطان الذي أصبح الاستعداد للتحالف معه باتساع، فأدخلوا أنفسهم وأقطارهم وأمتهم في دوامة الخوف والدم والصراع وانعدام الثقة وتبادل كؤوس الحنظل.. " وكما تراني يا جميل أراك" على حد قول المثل. وقد كانوا في كثير من الأحيان والمواقف والمواجهات والاصطفافات الدولية ـ للأسف الشديد ـ ضائعين ومضيِّعين، يدفعون ثمن الحروب ويخوضونها بالوكالة وتنقلب عليهم بصورة ما فيدفعون أكثر وأكثر ويرتهنون لسواهم ويبحثون عن جناح يحميهم، ولا يطيقون الاحتماء بجناحي أمتيهم: الجناح العربي والجناح الإسلامي.؟!.

مؤتمر جنيف2 ما زال حياً، وتنعقد اليوم في جنيف اجتماعات لطواقم روسية وأميركية وأممية.. تعمل على الإعداد له، ولكن تأجيله لرفع أسهم بعض أطرافه بقوة السلاح وفعل القوة المدمرة، ينذر بإفشاله لأن الأسباب الرئيسة وراء ذلك ـ بتقديري ـ هي لكسب أوراق وتحسين أوضاع في ساحة المعركة على الأرض السورية " في القصير وحمص أو في ريف دمشق أو حوران أو في حلب وإدلب.. إلخ"، وثمن هذه المعارك التي ستستمر أياماً وأسابيع وربما أشهراً .. ثمنها أرواح بشر، وبين تلك الأرواح المزهقَة أرواح أبرياء تزهق مجاناً فهم ضحايا الصراع والسلاح والرؤوس الحامية والنعرات الخبيثة.. وهذه الدوامة من العنف في هذه المرحلة من الصراع ذات خطورة أشد لأنها تترافق مع ظروف خطيرة فيها حشد للقتل والاقتتال في بلدان العرب والمسلمين، ولأنها تستند إلى تدفق أسلحة متطورة على المتحاربين جميعاً، وترتفع فيها درجة التحدي.. فأية نتائج ننتظر من دم يراق بغزارة ليجعل وجه جنيف " أجمل وأكمل" لبعض أطرافه من المؤتمرين "السوريين وغير السوريين"؟!

لن يكسب أحد في هذه الحرب الكريهة حتى إذا " علب "، سورية هي الخاسر أياً كان الغالب أو "المنتصر" في حرب المقت هذه، إذا كان هناك في الجنون من منتصرين.. والإرهاب سيهزم هنا ولكنه سيستمر في هذه البقعة من الأرض لأن من يستثمر في الإرهاب هو من يخطط لسياسة العدوان، والمصالح على حساب الأخلاق والحياة،  والفوضى " الخلاقة، إن كان ثمة فوضى خلاقة؟!" ونهب الشعوب، والقتل، وتشويه الناس والعقائد والثقافات، وتدمير العلاقات الإنسانية والبنى الحضارية.. والمستثمر في الإرهاب الذي أعنيه هو العنصرية الصهيونية واليهودية التلمودية المتمركزتان في " إسرائيل" وحليفيها الأميركي والبريطاني بالدرجة الأولى.. ولن يكسب عرب أو مسلمون من فتنة مذهبية " سنية ـ شيعية" يستثمر فيها الصهاينةُ والغرب الاستعماري وأعداء العرب والمسلمين، والعملاء وضعاف النفوس من عرب ومسلمين.. بل على العكس إن العرب والمسلمين سيدفعون ثمن الفتنة: " دماً ودماراً ومالاً وضعفاً وتقهقراً في مجالات الحياة كافة"، وسيخوضون حروباً بالوكالة ومن ثم بالأصالة، ويستنبتون أحقاداً جديدة يضيفونها إلى أحقاد قديمة ينميها الغلو والتعصب وضيق الأفق والجهل والتنكر لسماحة الإسلام، وسوء فهم البعض منهم لأحكامه وتعاليمه وجوهر الرسالة التي يحملها للناس كافة، وسيتنكرون للحكمة المغنم الذي يعلو على كل مغنم يحث عليه الإسلام.. ﭧ ﭨ ﭽ ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧﯨ  ﯩ  ﯪ  ﯫ  ﯬ   ﯭ    ﯮ  ﯯﯰ  ﯱ  ﯲ  ﯳ      ﯴ  ﯵ  ﯶ   ﭼ البقرة: ٢٦٩ 

مؤتمر جنيف 2 في ضبابية مواعيد ومناقشات وغايات ونتائج وفي دهاليز وأنفاق وظلمات.. ولكن ما هو في غاية الوضوح، منذ الساعة وإلى ما بعد جولات وجولات في مؤتمر جنيف2، هو استمرار صبيب الدم في سورية، واستمرار الخراب فيها، وتراكم الأحقاد، وتوارد أفراد بعد أفراد من هنا وهناك كالجراد، حيث يأتي هذا الجراد البشري على كل أخضر في الأرض والأنفس ليتم قحط مضاعف، يفني الحرث والنسل ويفرح الأعداء وينهك الأمة إن لم نقل يهلكها.. فمن تُراه يقدم هذا الموضوع بأولوياته ومعطيات ومسبباته على كل ما عداه من تفاصيل الأمور والمواضيع، ويعمل على أن تنتهي الأزمة - الاقتتال في أقرب وقت، على أرضية سلامة سورية ووحدتها أرضاً وشعباً وسيادتها وعلو مكانة شعبها وكلمته، وعدم التدخل في شونها الداخلية، وجعل السوريين المستحقين لاسمهم وصفتهم القومية والوطنية والإنسانية، العربية والإسلامية، جعلهم مستقلين فعلاً، يجمعهم وطنهم العظيم وواجبهم في أن يخلِّصوا أنفسهم وأجيالهم ووطنهم من الدمار والموت ونار الفتنة، وجعل العقل والضمير والشعب هو الحكم، والحكمة هي السبيل والمنار وما ينير الطريق إلى سورية المستقبل التي هي لكل أبنائها، ولأمتيها العربية والإسلامية قوة وسنداً وموقعاً حضارياً "إبداعاً وإنتاجاً"، ودار مقاومة لكل عدوان وكل احتلال، وعلى رأس ذلك الاحتلال الصهيوني للجولان ومزارع شبعا وإقليم العرقوب وما بقي في الظل مستوراً من أرض عربية تحت سيطرة العدو، وفلسطين الجوهر والأساس، كل فلسطين.. فسوريا لا يمكن أن ترتاح أو تنمو أو تتقدم أو تستقر مادام الكيان الصهيوني موجوداً في فلسطين، وقوى العنصرية والاستعمار تحميه وتنميه وتقويه وتحافظ على وجوده وتفوقه كقوة عدوان. إن ذلك مطلب كبير، ومركبٌ صعب، وهدفٌ مكلف.. ولكن فيه الحياة والنجاة والمجد والبناء والحرية والكرامة والمستقبل الذي ننشد لأجيالنا ووطننا.

وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً       تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ