خبر لقد أسمعت لو ناديت حياً ..علي عقلة عرسان

الساعة 03:01 م|24 مايو 2013

 

في خضم "جنيف 2 " الذي تتلاطم فيه الأفعال والأقوال والأهواء والنوايا، مشكِّلةً دوامات فراغية، بعضها خُلّبي وبعضها ذو تأثر بحجم من يقفون وراءه أو يثيرونه.. أود مقاربة بعض القضايا والطروحات مما يفرزه ذلك الخضم أو يلقيه على رمال شاطئه، وهي مقاربة لقضايا أراها محورية، وأنها مما يشكل بنظري ألغاماً لا تلبث أن تنفجر بوجه المتحاورين والمشاركين والرعاة على حد سواء، وليست مجرد عقبات حقيقية تقلقل أركان المؤتمر التي لا يبدو أنها راسخة بما يكفي حتى الآن، على الرغم من اتفاق الراعيين الأميركي والروسي، وتوجه معظم أطراف الأزمة والمعنيين بها إلى الحل السياسي عبر المؤتمر العتيد.. وربما كانت أسباب وعوامل تلك القلقلة التي قد تنقلب إلى زلزلة.. تكمن في الخداع الأميركي العَهيد الذي يراه بعض المتابعين ارتباكاً أو تعارضاً في الموقف الأميركي ناتج عن مواقع النفوذ في مؤسسات صنع القرار.. والمؤكد عندي أن من أسبابها، وعلى رأس تلك الأسباب، تنافس أصحاب الاستثمارات الدموية في المأساة السورية، وتعدد المعارضات بتعدد الولاة والغايات، وتصلب شرايين بعض الأطراف السورية والعربية والإقليمية الضالعة في الأزمة السورية تمويلاً وتسليحاً وتحريضاً وتشفياً وتوسيع دوائر صراع ودماء.. لأنه لم ترضها أمور على الأرض الواقع الدامي في ساحات الاقتتال السورية، ولم يرض بعض أصحاب الرؤوس الحامية ممن تعنيهم مآربهم ولا تعنيهم معاناة الناس ومصائر البلدان، ومن هم مثلهم في المآل ممن يعيشون في أصداف ملونة خاصة ويجترون أحلام يقظة جميلة.. لم ترضهم ولم تقنعهم أمور يبدو أن الروس والأميركيين قد اتفقوا عليها. وهناك إلى جانب هؤلاء، من ممولي الحرب الوحشية في سورية، من لم يستوعب بعد أن ما حدده من أهداف وما حشده من قوات وتحالفات، وما أنفقه من أموال، وما مُني به من أمانٍ.. لم يحقق له ولن يتحقق له أبداً ما يتمناه ويريد أن يبلغه، لأن الواقع على الأرض يرسم غير ما يرسم الخيال وما يتمناه المتمني.

المقاربة الأولى التي أتوقف عندها، مما سبق وأشرت إلى أنني سأقاربه من قضايا تتصل بالمؤتمر، تتصل بالحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات الواسعة أو التامة أو الشاملة.. إلخ، وهي حكومة ستشكل لتحقيق مهام محددة في بلد ذي سيادة، عضو في الأمم المتحدة، نظامه جمهوري، يحكمه دستور نافذ، أياً كان الرأي فيه والموقف منه فإن نفاذه سيستمر إلى حين تعديله أو إقرار دستور بديل عنه وفق مراحل تتوجها إرادة شعبية يعبر عنها عبر استفتاء عام.

من المعروف أن أية حكومة في أية دولة دستورية هي السلطة التنفيذية من بين سلطات ثلاث تشكل الأركان الرئيسة للدولة وعملها.. أي أن أية حكومة في دولة ذات دستور ستعمل وفق أحكام دستور البلاد الذي يحدد مهام كل من السلطات الثلاث ومسؤولياتها وصلاحياتها، ولا يسمح لأي منها بأن تبتلع أي من السلطتين الأخريين أو أن تهمشها. وتحدد أحكام الدستور حدود واختصاصات وواجبات كل سلطة من السلطات الثلاث، والجهات المرجعية الأخرى في الدولة، بما في ذلك ما يتصل برئيس الجمهورية.. ولا يجوز لأي من السلطات الثلاث أو المرجعيات أو المقامات التي يحددها الدستور أن تتجاوز أحكامه.. فكيف سيتم تعامل حكومة انتقالية واسعة الصلاحيات، في بلد يخوض حرباً ذات أبعاد وامتدادات دولية، تهدد أمنه ووحدته وشعبه ووجوده، مع السلطات الأخرى ومنها سلطة رئيس الجمهورية، لا سيما في الحالة الراهنة التي تمر بها سورية، وهي حالة متغيرات ومستجدات كثيرة ووضع تحكمه المادة 114 من الدستور، ونصها: " المادة الرابعة عشرة بعد المئة:إذا قام خطر جسيم وحال يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر.".. كيف يتم تعامل تلك الحكومة مع ألأوضاع من دون خرق لأحكام الدستور أو إخلال بها، مع وجود رئيس جمهورية ذي صلاحيات محددة في الدستور، وهو على رأس عمله ويستطيع أن يلغي تفويض نائبه ببنعض ما فوضه به في أي وقت وفق أحكام الدستور النافذ.. مع تجنب وقوع أي فراغ دستوري بحكم "الفعل الواقع"؟! وكل معطيات وتوافقات جنيف 1و 2، لا سيما الأخيرة منها بين الروس والأميركيين، لا تقوم على أساس إبعاده أو استبعاده.. فتلك شروط مسبقة يرفضها راعيا المؤتمر روسيا والولايات المتحدة الأميركية، كما عبر عن ذلك الروس صراحة ولم يعارضها الأميركيون جهاراً.؟ ألسنا أمام قضية شائكة؟ أو أمام كتلة متفجرات قد تنفجر في أية لحظة؟!.      

المقاربة الثانية: تتصل بجامعة الدول العربية وموقفها بعد اجتماع لجنتها الأخير لمناقشة الموقف من جنيف 2، بعد مواقفها الكثيرة المكلِفة والمثيرة، دموياً وقومياً وإنسانياً، منذ بداية الأزمة حتى الآن.. فهي تذهب من جديد إلى مجلس الأمن الدولي وإلى الدول الدائمة العضوية فيه هذه المرة، لتعيد المعاد، وتطرق أبواباً غير الباب، طالبة تدخلاً دولياً بصورة ما وضغطاً من نوع ما.. وهي تعلم أن الأصح أن تقول ما يقوله العقل والمنطق ومعظم من يضع يده في الأزمة لحلها : " أن يتفق السوريون على ما فيه مصلحتهم ومصلحة شعبهم وبلدهم من دون تدخل خارجي من أي نوع".. وتعلم أن التدخل في الشأن السوري أصبح مما يكاد يتجاوزه الموقف الدولي، ومما وضعه الراعيان الداعيان إلى مؤتمر جنيف 2 الأميركي والروسي خلفهما، حين توافقا على " جذب السوريين إلى طاولة حوار يؤدي إلى توافقهم وافتاقهم على حل سياسي للأزمة وفق مرجعية مدريد، بعد جلاء ما أراده البعض منها غامضاً أو ملتبساً ليحتطب في الظلام.. أنهم يريدون الاستمرار في تأجيج لعبة الأمم في سورية من جديد بطلبات هي من شأن السوريين وتوافقهم.. إنهم يريدون فيما يريدون، كماقالت مصادر ديبلوماسية عربية قريبة من اللجنة، تنفيذ عناصر منها " الحفاظ على السلامة الإقليمية والنسيج الاجتماعي لسوريا، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لفترة زمنية محددة متفق عليها تمهيدا لضمان الانتقال السلمي للسلطة، ونشر قوات من الأمم المتحدة لحفظ السلام يتم إنشاؤها عن طريق مجلس الأمن تأكيدا لاستمرار السلام والأمن والأمان للمدنيين، مع ضمان دخول جميع المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء سوريا، وصياغة واعتماد دستور وخلق توافق بشأن العملية السياسية لتشكيل قاعدة للدولة السورية الجديدة.." وكل هذا الذي يُراد له أن يأتي عبر ضغط دولي، هو شبه متوافق عليه، وبابه العربي أقرب من أبوابه الدولية، والتوجه به إلى السوريين المعنيين أسهل وأقرب وأنجع وأكرم من التوجه به إليهم عبر دول دائمة العضوية أو مجلس الأمن لفرضه وفرض قوة تفرضه؟! والسؤال الذي يزيح بعض التراب عن وجه اللغم الموقوت في هذا هو:" لماذا لا يتوجه عرب الجامعة إلى السوريين المعنيين بالأزمة مباشرة، بصورة من الصور، لتعزيز مطالب منطقية وتمهيد الطريق أمام الوفاق الوطني؟ ولماذا يتشكلون كتلة مع طرف من أطارف المعارضة ويذهبون عملياً إلى " أصدقائهم" في مجلس الأمن الدولي ممن ثبت عداؤهم للأمة العربية وليس لسورية فقط عبر التاريخ الطويل الحافل بالغدر والعدوان والألم والخسران.. لكي يملوا من خلالهم شروطاً معطِّلة للمؤتمر.. بينما الحقائق على الأرض تشير بوضوح ما بعده وضوح إلى أن الجانب الرسمي السوري قرر وعرض وأعلن في مبادرته التي يعمل عليها منذ أشهر أنه يعمل على تحقيق ما ورد فيما "يتطلعون إليه" من تداول للسلطة ودستور جديد وتنفيذ كل ما يتوافق عليه السوريون مما ورد ومما لم يرد، في مؤتمر مفتوح الأبعاد والآفاق.. إلا للتدخل الدولي في الشأن السوري، وبعضهم يناور ويداور ويصر على البحث عن منافذ ومسارب وأنفاق تؤدي إلى تدخل عربي أو دولي في الشأن السوري، ويبدي استعداد التام لأن يمول ويسلح ويلغم ليحقق من خلال ذلك كله غايات ليست في صالح سورية والسوريين.؟! هذا ولم تتراجع بعض أطراف اللجنة والجامعة عن موضوع التسليح وهي تدخل جنيف 2 أو تجبر على دخولها، وهناك ممن يسمون " أصدقاء سورية" من يطالب بالتسليح ومن يشترطه من المعارضة السورية، مسلحة أو غير مسلحة، لدخول مؤتمر جنيف 2  وهؤلاء في مقام أولئك ممن يختار السلاح لحسم الأزمة بالقوة التي راق فيها دم سوري ويدمر فيها بلد هو واسطة العقد من بلدان العرب والمسلمين؟! ولله في خلقه شؤون، ولخلقه مع خلقه شجون.

 أما المقاربة الثالثة فتتصل " بمبادرات" مكروره معادة مستعادة، تجاوزتها الأحداث والموقف الدولي، وتجاوزتها أطراف من المعارضة السورية أو رفضتها، ولم يقاربها من دعوا إلى مؤتمر جنيف 2 ولم يشيروا إليها، وهي تطرح في الوقت الذي تستعد فيه الأطراف المعنية بالأزمة والمؤتمر لركوب المراكب إلى بحر جنيف 2 الزاخر بالمواخر.. وقد قُدِّمت المبادرة في 16 فقرة بوصفها مبادرة سورية خالصة وهادفة، ومما جاء من المطالب في نصها: " «يعلن رئيس الجمهورية الحالي، وخلال عشرين يوماً من تاريخ صدور المبادرة قبوله بانتقال سلمي للسلطة، وتسليم صلاحياته كاملة إلى نائبه فاروق الشرع أو رئيس الوزراء الحالي وائل الحلقي». والسماح له " للرئيس بشار الأسد، بأن «يغادر البلاد، ومعه خمس مئة شخص ممن يختارهم مع عائلاتهم وأطفالهم إلى أي بلد يرغب باستضافتهم».. إلخ..

إنه من غير المفهوم سبب طرح هذه المبادرة وكأنها الفرصة الأخيرة، فالوقائع على الأرض لا تشير إلى مثل هذا الوضع اللهم إلا إذا كان هناك في الخفاء ما لا يمكن التخرص بحدوثه، ولا هو المعروف القصد من تكرار هذا الأمر بعد أن طرح بأشكال مختلفة وسربت بشأنه الأخبار.. في حين أنه أمر لم يلق اهتماماً من معظم الجهات المعنية به، سلباً أو إيجاباً، ولم يدخل إلا في باب زوابع الكلام الإعلامي الكثيفة التي ترافق الأزمة السورية.. وليس واضحاً معنى طرح المبادرة في التوقيت الذي طرحت فيه، ولا هو واضح أيضاً بعض مضمون البنود، ومعنى ما رافق هذا البند بالذات من شرح أو توضيح، حيث قال المعني بالمبادرة: إن الخروج الآمن لا يعني عدم الملاحقة القضائية لاحقاً للرئيس؟! فماذا يفيد التمعن في معنى الخروج الآمن إذن؟! هل أن طريق الخروج من سورية أو من دمشق عبر برها أو مطارها مثلاً غير ميسرة ولا آمنة للرئيس فيما إذا أراد الخروج، والمبادرة تضمن له ولمن معه هذا الخروج الآمن ولكنها لا تضمن له عدم الملاحقة القانونية ـ القضائية لاحقاً؟! إذا كان ذلك كذلك فما نعلمه أن طريق مطار دمشق الدولي أو غيره من المطارت العسكرية المؤهلة لهبوط طائرات مدنية وإقلاعها أمر أكثر من متوفر وميسر وأكثر من آمن؟! فما معنى أن يضمن الأمن للمغادر غير الضامن ولا الآمن.؟! سؤال يقلق ويرهق، ويجعل التأمل فيه وفي حال من وصل إليه وأوصلنا إليه من الواجبات.

هي مقاربات ثلاث ولم أرد أن أزيد عليها، أطرحها للتأمل في وضع كارثي تسيل فيه الدماء كل يوم وتقتل فيه البراءة في كل لحظة، ويسقط عشرات الضحايا.. بينما ينشغل بعض المعنيين بالأزمة وحلها، و" بسورية وشعبها"، وبالقضايا العادلة والحريات والوطن والمواطَنة وكرامة الإنسان..إلخ، بأمور هي قشور إذا ما قيست إلى الأصول، بينما يستطيعون إذا صدقت النوايا وصح العزم وتفوق الحس الوطني والإيماني والإنساني والأخلاقي على كل ما عداه.. أن يضعوا كل الصغائر وراء ظهورهم ويتوجهوا إلى ما يحقن الدم وينقذ الشعب ويحفظ البلد، ويضع السوري الذي يشقى بكل ما يجري، في موضع عزيز، يعيد إليه الاعتبار ويجنبه مجامر النار.. ولكن.. ما أمرها ولكن.. وما أصدق في مثلنا قول بشار بن بُرد:

لَقَد أَسمَعتَ لَو نادَيتَ حَيّاً       وَلَكِن لا حَياةَ لِمَن تُنادي

دمشق في 24/5/2013