خبر ما نريده.. حل أزمة لا فاتحة أزمات ..علي عقلة عرسان

الساعة 01:10 م|21 مايو 2013

على أبواب مؤتمر جنيف 2 تقف أرتال من الغايات والأمنيات والمشاعر والرغبات، ولكنها تتلون وتلون الوجوه والقلوب بلون ساحات الصراع وشدة الحواسم من المواقف في المواجهات الدامية في سورية الحبيبة التي دفعت حتى الآن أغلى ثمن للتمسك بهوية وموقف ومبدأ وخيار.. ويؤثر الفعل العسكري السائد وصاحب الصوت الأول، يملك قبل غيره وأكثر من غيره التأثير والتغيير في التحركات والمواقف السياسية، ويملي على الحراك الإعلامي ـ السياسي المتشابك مع أوساط ثقافية معينة أو المشتبك معها على نحو ما، خطاباً وتفكيراً وتفسيراً ونفاقاً وانتحاءات نحو هذ الخيار أو ذاك.. فهذه الساحة الإعلامية ـ السياسية على الخصوص تعج بحربائية لا توصف، وتحكمها مصلحية بلا ضفاف، والأنكى من ذلك والأغرب، في مواقفها وسلوكها وأدائها، أنها مثل الزيت تعوم وتعوِّم نفسها، وتعرف من أين تؤكل الكتف، وتحاضر في القيم والنزاهة والموضوعية، وتضع نفسها في مواقع الريادة؟! وتتقن التكيف مع السائد من الأمور والظروف، أو كما قالت لي وزيرة مقيمة أو مستوزرة خطيرة ذات يوم" إنها تشم من بعيد ما تريده الجكومة والساسة الكبار الذين يحكمونها فتلهج به وتركب موجته"؟!.. وكل ذلك يفعله القائمون بأمرها انطلاقاً مما يسمونه " مرونة وحيادية وتعلقاً بالحدث وسعياً وراء الحقيقة التي يدعون أنها تحكمهم"؟!! ومن ثم يصدرون أحكاماً من أعلى من دون أن يرمش لهم جفن.. بينما تشير الوقائع على مدى سنوات وسنوات إلى أنهم الأحق بأن يدانوا ويخمَعوا تحت وقع تزييفهم للوقائع حسب الطلب، وطمسهم للحقائق وتضليلهم للناس حسب الغايات والأهداف والمصالح ووفق ما يقتضيه العرض والطلب في سوق السياسة، على الرغم من إدراكهم التام بأنهم شركاء في المسؤولية عن سيول الدم التي تجري هنا وهناك من جراء ذلك كله.

 ويبدو اليوم بوضوح، ونحن على أعتاب مؤتمر جنيف 2، أن ما يتحقق على الأرض في سورية من جنوبها إلى شمالها، وما يتركز من ذلك في المنطقة الوسطى منها، أخص القصير وحمص بأريافهما، سيكون مؤثراً إلى أبعد الحدود على المواقف والمطالب والتجاذبات وحتى على خيارات بعض الجهات الضالعة في الأزمة، ولا يقتصر ذلك على الراعين للمؤتمر والداعين إليه والمشاركين فيه من غير السوريين، بل على الأطراف السوريين المدعوة إلى المشاركة فيه وعلى تشكيلها ومواقفها وشروطها وخطابها.. وأستثني من ذلك الأدوات وأصحاب السياسات والمواقف والخطابات غير المسؤولة التي تفضي إلى دموية وأحقاد طائفية ومذهبية وحزازات في النفوس يصعب تخطيها، ممن لا يعنيهم الدم المراق والدمار المستفحل وعذاب الناس.. ولا يهمهم الحل، أي حل، للأزمة السورية المتفاقمة، ولا يعني لهم شيئاً تدمير سورية وموقعها ولا المعاناة البشرية المستفحلة فيها، لأن ما يعنيهم هو ما تدره عليهم الأزمة ومواقف التجارية من أموال ومنافع ومواقع و" زهو نضالي يشبه زهو الطاووس"، وذاك قعر هوة الإفلاس الفكري والروحي والأخلاقي والوطني، وما يتجملون به من ادعاء مواقف وطنية ونضالية وإنسانية إنما يتوسلون بها إلى الربح والظهور وترويج أنفسهم وبضائعهم في سوق الكلام وأسواق السياسة التي غدت أكثر سوءاً من أسواق النخاسة.

 إن الذين اعتمدوا منطق القوة أو اختاروه، منذ إطلاق الرصاصة الأولى ورفض الحوار والذهاب الأول إلى مجلس الأمن الدولي للتدخل العسكري المباشر وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.. وصولاً التسليح والتجييش والحشد والمناداة بتدخل جيوش عربية في سورية لتحسم الأمر بقوة السلاح، وحتى يوم الناس هذا في المعارك اليومية.. استباحوا كل شيء ولم يوفروا وسيلة إلا واستخدموها في الحرب البشعة بكل بواطنها وظواهرها ومجرياتها ونتائجها، من أجل تحقيق حسم بالقوة ولو أدى ذلك إلى تعاون مع الشيطان وهدر كل ما يتصل بالوطن والإنسان.. لقجربوا كل شيء إلا الحكمة لم يقربوها، وإلا المسؤولية الخُلُقية والإنسانية والوطنية والقومية بمعانيها السامية الرفيعة وتطبيقاتها السليمة، بعيداً عن الادعاء والافتراء، فتلك لم "يقارفوها"؟!، وإلا حقن الدم فقد كانت إسالته تريحهم وتزكيهم عند من يرتفعون إليه ويرفعونه راية أو قدوة أو شعاراً، وإلا السير في طريق الحوار الذي يبدو أن الكل مجبر اليوم على أن يقبل به ويُقبل عليه في مؤتمر جنيف 2، إذا ما قُيض لهذا المؤتمر أن ينعقد.

وحين ينعقد ويستمر سيستمر معه الاقتتال، فالدخول إلى جنيف 2 هو دخول على الطريقة الفييتنامية: يستمر القتال ويستمر الحوار"، وكل منهما يستدعي الأخر ويؤثر فيه بطريقة ما.. وعلى الهامش الكبير المؤثر الذي لن يغيب عن متن المؤتمر وحواشيه ولن يتخلص المتنُ منه ولا يمكن أن يتحصن ضده، سيبقى للاعبين الأشرار الذين لا يطيب لهم أن تنطفئ في سورية النار، من أمثال إسرائيل وأدواتها وحلفائها، وديفيد كاميرون وهولاند، وجوق الإعلام العربي والدولي المتاجر بالحقيقة، ومن يمول ويسلح ويخاف من خياله وهو " ينتخي في المجالس" ليثأر بالسوري من السوري، وينتصر على العربي والمسلم بالعربي والمسلم لكي يرتاح الصهيوني والأميركي ويضمنان هيمنة ومصالح.. إلخ  سيبقى كل من في تلك الهوامش يقوم بدور في تغذية النار بالزيت والحطب والدولار، وسيبقى من يحرص على أن تبقى الطبخة السورية في القدور إلى أن تنضج الرؤوس والصدور..!!

فهل نقرأ في المشهد المنتظَر الذي تتزايد الإرهاصات المساهِمة في رسم صورته وبيان تشكّله، ما يمكن أن يجعل بعض السوريين الشرفاء الحكماء الخيرين، المسؤولين عن قيمة ووطن وأمة وهوية وعقيدة وثقافة وحضارة، وعن مستقبل أجيال وقضايا عادلة، ومواجهة خطط الأعداء الذين يتربصون بسورية والأمة الدوائر.. هل نقرأ في المشهد ما يجعلهم محصنين، يحرصون على الوصول إلى حالة من الوعي المتجسِّد فعلاً وقولاً وسيراً حثيثاً نحو الوفاق والاتفاق بما يحقق إنقاذ البلد وتجنيبه وتجنيب العرب والمسلمين حرباً تطول وفتنة أشد..؟! ما مر بنا لا يجعلنا نركن إلى شيء من ذلك، ومن وصل بهم الأمر على أرضنا، وفي خضم محنتنا الدامية إلى حد نهش القلوب والأكباد لا يبدو أنهم يمكن أن يقعوا خارج تأثير من يشحنهم ويقف وراءهم كما لا يبدو أن من أوصلهم إلى هذه الحالة من الحقد والغلو والقسوة قادر على التراجع وعلى مراجعة الذات وتغيير الخطاب والمسار.. ويبدو أن الجهات الأخرى المنخرطة في الصراع غدت تحمل في صدرها غلاً لا ترى ابتراداً له إلا في كسر ظهر الخصم لا في كسر شوكته فقط وطرفا الاختصام من السوريين بالدرجة الأولى والظهر المستهدَف سوري.. وهذا ما يجعلنا نظن أن مسار جنيف 2 قد يطول، وأنه سوف يترجّح سلباً وإيجاباً على وقع المعارك المستمرة، وسيتوقف على حسم عسكري ليس السوريين وحدهم هم الذين يتوقف عليهم أمره بل تدخل في ذلك قوى عربية وإقليمية ودولية.. وعلى هذا قد لا يتفق السوريون إلا على ما يتفق عليه من يقفون خلفهم بدرجات متعددة، ومن ثم فإن القول بأن الحل سيكون "سورياً ـ سورياً" هو من باب الشعارات والتمنيات، وهو كذلك ظاهراتياً وليس في جوهر ما يريده الشعب وما يتطلع إليه الشرفاء والمخلصون لوطنهم وأمتهم ممن يتابعون ويعانون ويقعون تحت نير أولئك الذين يأكلهم الغلو ويتأكلهم الغيظ ويطلبون " انتصاراً" هو الانكسار بعينه، وربحاً هو الخسارة للوطن والأمة وإن كان " تكسباً لهم على طريقة لا تشرف الحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها. لقد أصبح تدويل الأزمة واقعاً، وأفق الحل دولياً من خلال إملاءات منظورة أو غير منظورة على من سيجلسون إلى طاولة الحوار.. وسورية التي نتمنى أن تخرج من الأزمة بأسرع وقت وبأقل ما يمكن من خسائر متبقية على قائمة طلبات المتقاتلين ومن يقف خلفهم.. لن تكون هي سورية التي كنا نحلم بها ولا تلك التي نريدها بعد توقف الحرب الكريهة على أرضها.. بل هي بلد آخر يحتاج إلى الآخرين أو لا يقوى على إبعاد أنوفهم عن وجهها، بلد يحتاج إلى أن يبنى من جديد، ليس مادياً وما يتصل من ذلك بالبنى التحتية والمؤسسات وكيان الدولة وقوة الجيش وكل ما دمر من مادي ومعنوي في الدولة والمجتمع وما ينبغي أن يتغير من نهج وخيارات وأولويات وخطط واستراتيجيات فقط.. بل ما يتصل من ذلك بالمجتمع والثقافة والتربية الروحية والوطنية والقومية.. إن ما حصدناه لا يمكن أن يكون بعيداً عما زرعناه أو زرع فينا بغير علم منا أو بجهل وتعال وادعاء يرتفع أمتاراً أو أشباراً فوق سطح الواقع.. إن معظم من قُتِل وقَتَل منا.. تلك حقيقة، ومن اشتراه العدو أو وكيل العدو من أبنائنا هو منا وتقع مسؤوليته علينا، ومن ضاع ومن باع ومن ماعَ ومن ظلم وفسد وأفسد ومارس الموبقات.. ومن.. ومن.. معظم أولئك منا أو كلهم منا، ومسؤوليتهم تقع علينا أو على المعنيين منا.. وهنا تبرز أكبر التحديات والمشكلات العويصة التي تواجهنا.. وهنا يقف بعض ما سيكون في جنيف 2 وما بعده. وكل ذلك الذي لا يتسع المجال للتفصيل فيه هنا والآن يجب إلا يغيب عن البال ونحن نقارب الحلول ونتقرَّى بأبصارنا وبصائرنا لا باللمس والحس القائم والقادم مما يشكل جدران الدم والموت اليوم وما سيكون متشابكاً معها على نحو ما ونتيجة من نتائجها غداً.

وربما لهذا ومن هذا وعلى هذا.. نخاف اليوم ونحن على مشارف مؤتمر جنيف 2 الذي لن يحقن الدم بمجرد انعقاده، وقد تسيل دماء أغزر بكثير في أثنائه و على طرقاته لتسجيل أهداف وتحسين مواقف، إنه المؤتمر الذي ننتظر منه أن يأتي بالأمن والأمل لنا، وأن يستطيع السوريون فيه أن يكونوا سوريين مستقلين بالفعل وحكماء بالتصرف وبعد النظر وحسن التخلص مما يهلك ويلحق بالبلد بآخرين، ويخلصها من الشرور وأشكال التآمر، ومن أشخاص ديدينهم التجارة بكل شيء من دون استثناء ومن دون رادع من أي نوع، وأسلوبهم الادعاء والافتراء والفجور والصراخ والاحتماء بالعدو والتعامل مع الشيطان لتحقيق هدف ومربح.. وأن يكونوا قادرين على تجنيب البلاد والشعب خللاً عميقاً مهلكاً في أثناء المقاربات والحسابات والحلول حتى لا يأتي شيء من ذلك على حساب سورية وشعبها ودورها العربي والإسلامي وقضاياها العادلة التي هي قضايا الأمة، تلك التي لا تكون سورية هي هي إن هي تنكرت لها أو تنازلت عنها أو أعطتها ظهرها.. فذاك إضافة إلى الخلل في الشؤون الداخلية الماسة مما لا تحتمله سورية ولا تطيقه، وإن هو حدث من أجل حل الأزمة فإنه سيكون فاتحة أزمات، لا سمح الله، وما نريده ونتطلع إليه هو حل أزمة لا فاتحة أزمات.

والله ولي التوفيق.

دمشق في 21/5/2013