خبر أنبوب اختبار وخبر غير مؤكد .. د.علي عقلة عرسان

الساعة 10:54 ص|26 ابريل 2013

أنبوب اختبار زجاجي ممتلئ بأكاذيب عن النووي العراقي، تلوح به يد الوزير كولن باول أمام الأعضاء في جلسة صاخبة من جلسات مجلس الأمن الدولي، وخبرٌ " ينقصه التأكيد" عن استعمال قليل من غاز السارين مرتين في سورية من طرف غير محدد، يدور به الوزيران الأميركيان كيري وهاغل عواصم المنطقة وبعض عواصم العالم.. هما اليوم جناحا بوم الشؤم الذي يحلق في الأفق السياسي، ويعيد إلى الذاكرة مأساة تدمير العراق بعدوان أميركي ـ بريطاني ـ عربي فاضح وقح متوحش غاشم، شارك فيه بعض أبناء العراق، ويرسم في الأفق توجهاً متوحشاً نحو عدوان مشابه على سورية، تقوم به أطراف موسَّعة من الطينة ذاتها، بمن فيها بعض أبناء سورية، بهدف تدمير ما تبقى من هذا البلد الذي يمثل آخر معقل للعروبة وأحد أهم حصون الإسلام، بشعبه وتاريخه وتراثه وثقافته ومكانته الحضارية.. ومنذ سنتين ونيف تحاصَر سوريةُ وتنهَك وتنتهك حدودها وحقوقها، وتأكلها نار الحرب الدائرة على أرضها بين أبنائها ومعهم من يساندهم، وتُستَهدَف في البلاد مواقع القوة لكي يسهل على من يدبر العدوان تنفيذ المخطط التدميري الذي يعيدها إلى عصور التخلف الأولى، بأقل الخسائر. وفي الوقت الذي يتم فيه حشد قوة التدخل وتدريبها وتأمين النوعي من عتادها، وتهيئة المناخ السياسي في الدول المحيطة بها، وترتيب التحالفات والأدوار وتقديم الضمانات والإغراءات للمترددين.. يتم الخداع والتنسيق التمويه لضمان حدوث المفاجأة الكاملة الشاملة، ويستمر الكلام عن الحل السياسي المرجَّح والإعداد للتدخل الدولي المسلح الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، دولة العدوان والإرهاب والرعب النووي والخروج على القانون الدولي.!! الوضع المختلف في الحالتين العراقية والسورية اليوم هو وجود قوة دولية على رأسها روسيا الاتحادية في طرف مقابل للقوة العدوانية الأميركية التي لم تعد تهيمن على السياسة الدولية، وتلك القوة لا تكتفي بالرفض السلبي لموقف الأميركيين وشركائهم، كما فعلت دول منها روسيا وفرنسا في إبان العدوان على العراق، وإنما تعلن الرأي والموقف ، وتستخدم حق النقض "الفيتو"، وتحشد القوة لتقول: "لا.. ذلك خط أحمر.. ولن تتكرر المأساة".

ويبقى السؤال الأساس، فيما إذا وصلت الأمور، لا سمح الله، إلى درجة اللاعودة في موضوع التدخل العسكري الخارجي في الشأن السوري بصورة ما.. هل سيرد حلفاء سورية وحماة المبادئ والقانون الدولي على العدوان أم سيكتفون بالغضب الشديد والشجب والتحرك السياسي والدبلوماسي، حيث تكون المفاجأة قد ألجمتهم.؟! أنا لا أقول بأن الوضع الدولي يسمح أو يمكن أن يسمح بذلك، ولا أظن أن العقل السياسي الذي يملك ذاكرة مزدحمة بالخبرات والذكريات المرة عن الحروب والمواجهات الدولية  الساخنة يمكن أن يكرر المآسي العالمية بمواجهات واسعة جداً من ذلك النوع، كما أظن أن الأوضاع الاقتصادية للمعتدين الذين يضمنون تمويل عدوانهم على سورية من بعض الدول العربية، لا تسمح لهم بتطوير العدوان إلى حرب أوسع يتحملون تكاليفها المادية والبشرية.. ولذا يفكرون بضربات سريعة وكثيفة وشاملة في إطار التغطية المالية العربية لتكاليفها، ثم يؤول الأمر إلى الحل بين الكبار. أمَّا من يعارضون المواقف والسياسات العدوانية الغربية ـ الصهيونية التي من هذا النوع فلن يتركوا المعتدَى عليه " سورية" من دون دعم متعدد الوجوه والأشكال، وسيعملون بسرعة على وضع حد للعدوان حتى لا يتحول إلى مواجهة دولية أوسع.. وهم يدركون في الوقت ذاته أنه إذا حصل ذلك الذي يخشاه كل طرف دولي مسؤول، فإن كرة النار ستكرج في بلدان عدة من " الشرق الأوسط" الذي لن يكون أبداً جديداً بالمفهوم الأميركي ـ الإسرائيلي.. وسوف تتسع دائرة الحرب لتشمل بلداناً أخرى دبَّت فيها النار أو أعلنت بملء الصوت أنها، إذا ما تم الاعتداء على سورية، فإنها لن تترك سورية وحيدة تواجه العدوان.

تلك لوحة شديدة القتامة تفرض الكآبة وتشيعها.. وأنا لا أريد أن أستمر في مقاربة هذا الكابوس، ولكن شبحه الذي يطل على المنطقة يلازمني ويلاحقني بصورة تشتد مع كل تطوير أميركي ـ صهيوني ـ عربي غير مسؤول للحدث.. ونحن نعرف أن الأميركي والصهيوني هما العدوان والشر والإرهاب والشر في تجسُّد تاريخي وفكري وعملي معروف وموصوف.. وأنا ممن يعون معنى الحرب والعدوان، وممن يدركون دروس الماضي القريب على الأقل، تلك التي مرت منذ عام 1948 وتلك التي تنتشر دروسها اليوم في مخيمات النازحين السوريين المنتشرة داخل سورية وخارجها.. ولا أحتمل أن أضع رأسي في الرمل لكي لا أرى ولكي لا تمتلئ عيناي بزوابعه التي تسد الأفق وتمنع الرؤية.

في سورية حرب لا ترحم تشارك فيها قوى من خلفها قوى، والجيش العربي السوري الذي يتصدى لتلك القوى ويواجه بصمود وشجاعة، ويتقدم في شعاب من جسده أحياناً على حساب جسده وهو حزين، يرى أن ليس أمامه إلا أن يتقدم وينهي المأساة.. ومن مفارقات الحروب ومآسيها وربما مهازلها، لا سيما الداخلية منها، أنه يتولد عن الشاعة حزن، وعن التقدم تأخر، وعن الانتصار هزيمة، وتلك حالة مأساتنا في الحرب الدائرة على أرضنا السورية، فكل الخسائر والمصائب والكوارث والبطولات والانتصارات يدفع ثمنها الفادح الشعب والبلد، السوريون وسورية الدولة والوطن.. ولكن من يملك ألا يقاتل وأن يتقدم في مثل تلك الأوضاع؟! الجيش العربي السوري يحقق تقدماً واضحاً على الأرض خلال الأيام القليلة الماضية، على الأقل وفي مواقع عدة حساسة، وأراه إنما يريد أن يتدارك المفاجآت المحتملة، ويحسم بعض المواجهات المزمنة في العاصمة وبعض المدن، وأن يقترب من سد ثغرات في الحدود.. ولكن الحدود مفتوحة، والدول التي لا تشارك في ضبطها، إماً عجزاً وإما تواطؤاً، تَدخل شيئاً فشيئاً في دائرة النار أو تُزَج فيها، والقوى التي تقاتل في سورية، وضمن عديدها ما ينتسب إلى تسعة وعشرين دولة، يأتيها دعم عبر الحدود وهي تحرص على أن تبقى الحدود مفتوحة والنار مشتعلة و.. و.. ونتائج تقدم الجيش العربي السوري في مكان تثير زوابع من النار في أمكنة ومواقع أخرى، ويتصاعد الخوف من توسع دائرة النار والمدى والأمكنة الأخرى التي يمكن أن تبلغها، مما يقع خارج دائرة الجغرافية السورية، ويطال المنطقة بأسرها، عدا كيان الاحتلال الصهيوني فيما يقدرون.

والمنطقة كما نعرف مترابطة ومتداخلة عضوياً في جغرافيتها ونسيجها السكاني وعلاقاتها الاجتماعية وتكوينها العقائدي والثقافي، ومن ثم فإن تلك الحالة تجعلها بوتقة واحدة أو تحيلها إلى بوتقة واحدة حين تسخن.. وللأحداث في سورية أبعاد منها ما يتصل بآفاق قومية ومنها ما يؤسَّس على معطيات عشائرية ودينية وطائفية ومذهبية.. إلخ، فمن " يقاتل باسم السنة في الشام يجد له نظيراً وظهيراً في العراق ولبنان والأردن وتركيا وفلسطين و.. إلخ ومن يقاتل باسم الشيعة هنا أو هناك يجد له نظيراً وظهيراً في إيران وفي كل بلد من تلك البلدان الآنفة الذكر.. والعدو الأكبر للعرب والمسلمين، " الغرب والصهيونية"، يعزف على أوتار الفتنة المذهبية " السنية ـ الشيعية" ويزين الاندفاع لمن يندفع في التطرف من أتباع هذا المذهب أو ذاك.. ويتخفى تحت لافتات الدميقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وما هو بحريص على شيء من ذلك، إنما يدفع باتجاه العنف والاقتتال والموت والدمار، فيندفع من يندفع  بجهل أو بتعصب وقصر نظر أو بحماسة عقائدية لما يعتقد إنه الإسلام الحق، وأنه الإخلاص والصدق، ويجد من يواجهه بمثل حماسته وبنقيض رؤيته واعتقاده لينبذه وينبذ ذلك الاعتقاد.. وهناك بعض من يواجه لانكشاف أبعاد الحوادث والمقاصد له، ورؤيته من يئز النار ويلقي فيها الحطب ليحترق البشر وتحترق البلدان. وفي هذا المضمار بمساحته وأطرافه وأطيافه.. ينشط الجاهل والحالم بموقع ومكسب وسطوة، ومن يعمل أداة بيد الغرب ويمارس الخيانة جهاراً نهاراً، بعد أن زُيِّنت له وزيَّنها لنفسه، وأصبحت لديه ولدى من يوجهه ويحميه "وجهة نظر" ورؤية سياسية وربما قضية وطنية.. وما.. وما لا أراك الله ولا أسمعك من مواقف وآراء وأفكار وأقوال..؟! وتأخذ الفريق أو الواحد من أولئك العزة بالإثم، فيقاتل بغيره من أجل مصالحه الضيقة أو نزعاته الذميمة أو تنفيذ ما كلف بتنفيذه.. كما ينشط سواه ممن هم على شاكلته أو من يَفرِضُ عليهم قتالَه، فيقفون في مواجهته، وقد لا يقل الوحد أو الفريق منهم عنه شدة أو أنانية أوضآلة قامة وضحالة تطلع وسوء تصرف.. والكل يتذرع بذرائع منها الحرية والتحرير والإرهاب ومقاومة الإرهاب..؟! ومما يلفت النظر في الأزمة السورية وما يتبدى منها وممن يشارك في القتال فيها من غير السوريين.. مواقف وآراء ونتائج بدأت تثير جدلاً وتستدعي مواقف من دول عربية وغير عربية.. فأشقاؤنا في المغرب العربي يخشون، كما يخشى الأميركيون وأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من أن يعود مواطنوهم الذين يقاتلون في سورية وقد اكتسبوا خبرة قتالية، وهنا تكمن الخطورة بنظرهم، إذ أنهم سيباشرون أعمالاً قتالية في بلدانهم بكفاءة أعلى.. وذاك يشكل خطراً ويدخل في باب الإرهاب المدان؟! وفي هذا وجهة نظر صحيحة وتخوف منهم يأتي في مكانه.. ولكن ألا يجوز، من باب الأخوة أو الإنسانية أو.. ألا يجوز طرح الموضع بصورة جذرية مختلفة عن الطرح الحالي.. أي لماذ يسمحون؟! وكيف يقبلون أن يمارس مواطنوهم إرهاباً ضد الأشقاء أو ضد الآخرين ويكون بنظرهم مشروعاً.. ويصبح ذاك الفعل من الأشخاص أنفسهم خطراً وإرهاباً غير مشروع عندما يمارسونه في بلدانهم.؟! وقد قرروا فعلاً، في اجتماعات رسمية لوزراء، أن عودة مواطنيهم إلى بلدانهم وقيامهم بعلميات هو أمر واقع، وهو ممارسة "للإرهاب".؟!

ومن أسف نقول: إن بعض العرب والمسلمين يلغ في الدوم، ويتوغل في الإثم، ويوغل في التسلط والظلم، ويمضي قُدُماً في الظلمات حتى يبلغ حتفه ويبلغ سواه حتفه أيضاً، مأخوذاً بما يزينه لنفسه أو يزيَّن له، ومنساقاً وراء رأيه ورأي من يضلله وينفخه ويدفعه في دروب الموت والقتل والفتنة، ظناً منه أن ما يفعله هو الحق المطلق والواجب الحتمي المشرف، وأنه تجوز له الحياة ولا تجوز لسواه ممن يحالفه في رأيه ورؤياه؟!.. ولو فكر في أبعاد ما أتاحه له الله وما أتاحه لسواه، وما أمره به وما نهاه عنه.. لراجع نفسه وربما تراجع عن كثير مما يظن أن فيه النجاة والعصمة من الخطأ ورضا الله سبحانه..!! فما دامت أرض الله واسعة وتتسع لكل الناس من كل لون وجنس ودين ومذهب، ومادام في كثير من بلدان العالم أناس يمتد قوس اعتقادهم من الوثنية إلى الإيمان مروراً بالإلحاد والكفر، وهم من كل مذهب ودين وشيعة وحزب.. وقد أتيحت لهم الحياة ومكنهم الله من العيش.. فلماذا لا نتجاوز نحن المسلمين الصراعات المذهبية الضيقة بين أبناء الدين الواحد في عالمنا الإسلامي ونتعايش في أرض الله الواسعة، من دون ظلم أو قهر أو هيمنة أو أي لون من ألوان الكراهية والحقد والمكر والخداع والتكفير.. ومن دون عنف دامٍ واقتتال، ما دام القرآن الكريم، أساس الاعتقاد الراسخ في ديننا يجمعنا جميعاً ونجمع عليه جميعاً، وما دام الرسول الأكرم محمد بن عبد الله نبينا وقدوتنا، وسنته المطهرة لا نختلف فيها ولا على الصحيح منها؟! سؤال نطرحه على المتطرفين وغير المتطرفين من السنة والشيعة على الخصوص من المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي كله.. وهو سؤال يتضمن دعوة لأن يأخذ راشدهم على يد جاهلهم، وحكيمهم على يد المتطرف منهم، لكي ينتشر الرشد والاعتدال والدين الحق والفهم الصحيح للدين، وقبول الآخر ومؤاخاته في العقيدة والإنسانية؟! وهو سؤال فيه تذكير أيضاً لمن يُولَّى سلطة منهم أو يتطلع إلى توليها، ويتضمن حقيقة نضعها بين يديه مفادها: أنه لم يملك الناس والأرض والمصير والروح والضمير، وليس له حق التصرف بالناس وبما يملكون، وأنه واحد من الناس يُسأل عما كُلف القيام به ويحاسب عما أؤتمن عليه، وأنه يعزل من دون تكاليف لا قليلة ولا باهظة، وأنه يحول ويزول ويتم تداول أمر الناس بين القادرين والصالحين منهم، كما تُتداول الدول وتحول وقد تزول.. وأن البقاء لله وحده، والباقيات الصالحات.

 

 دمشق في 26/4/2013